فرج فودة: بين تطبيق القانون المدني ودعاة تطبيق "الشريعة"
عبد الواحد بنعضرا
الذين
قتلوا فرج فودة كُثر؛ الذين نفذوا ليسوا إلا أداة في يد آخرين، هناك من خطّط،
وهناك من موّن، هناك من بارك الجريمة، ومن قرّر، من برّر، ومن أسهم بصمته العاجز،
أو زايد على الآخرين خوفا أو طمعا أو هما معا، وهناك من أفتى بهدر الدماء... يقول
القرضاوي: "إن العلماني الذي يرفض " مبدأ" تحكيم الشريعة، من
الأساس، ليس له من الإسلام إلا اسمه، و هو مرتد عن الإسلام بيقين، يجب أن يستتاب،
و تزاح عنه الشبهة، وتقام عليه الحجة، وإلا حكم عليه القضاء بالردة، وجرّد من
انتمائه إلى الإسلام، أو سحبت منه "الجنسية الإسلامية"، و فرق بينه و
بين زوجه وولده، وجرت عليه أحكام المرتدين المارقين، في الحياة، وبعد الوفاة
" ( القرضاوي، الإسلام والعلمانية وجها لوجه، ص. 73 و 74 ). وفي غمرة الصراع
المحموم ضد من يكشفون عوار قصد التيارات "الدينية" وخواء ادعائها، لم
ينتبه الرجل أن كلامه هذا الذي يقطر دما مختلف تماما عما سبق أن قرره في مكان آخر،
حين أعلن أن: "الإسلام قد يطلق على مجرد إعلان الشهادتين، وهما باب الدخول في
الإسلام، فالكافر إنما يدخل في الإسلام، ويصبح في عداد المسلمين بمجرد نطقهما
(...) وهذه الشهادة هي التي تعصم دم الإنسان و ماله " ( القرضاوي، الصحوة
الإسلامية بين الجحود والتطرف، ص. 79 ). وتناقض القرضاوي مفهوم، لأن حديثه عن العلمانيين حديث دنيا لا حديث دين، وحديث
سياسية لا حديث عقيدة، فهو هناك يهدر دماء خصوم سياسيين أكثر مما يفتي في الدين،
وقد نبّه فرج فودة مرارا إلى خطورة إلباس آراء سياسية لبوسا دينيا، حيث يقول: "اجتهدوا
كما تشاؤون، لكن لا تخلعوا على اجتهاداتكم قدسية دينية، وضعوا البرامج كما تريدون،
لكن لاتلبسوها زيا دينيا نملكه جميعا، وندافع عنه جميعا، بل اخرجوا علينا كما
تشاؤون، لكن ليس في ثياب حماة العقيدة، ولا تحت رايات الأبرار الأطهار، وواجهونا
في ساحة السياسة بحديث السياسة، وحاورونا دون أن يرسخ في أذهانكم ولو للحظة أنكم
الإسلام، وأنكم وحدكم المسلمون (...) وإذا كنتم تستهدفون قصورا في الجنة فهذا
شأنكم، بيد أن القصر في الجنة لن يغني عن
مسكن اقتصادي لمحتاج، ولن يكون سبيل السكن الاقتصادي عذب الكلام، ولا إفشاء
السلام، ولا التحليق مع الأحلام، بل إن سبيله الوحيد هو استعمال العقل، وإعمال
المنطق، والاختيار بين البدائل..." (فرج فودة، الإرهاب، ص. 66-67). وقضية
"تطبيق الشريعة، لا تخرج عن هذا الإطار، إذ: "أن الدعوة لتطبيق الشريعة
تمثل دعوة لقلب نظام الحكم، لأنها تستبدل إطار الدولة المدنية، حيث الاحتكام إلى
الدستور والقانون بإطار الدولة الدينية، حيث الاحتكام إلى هوى المفسرين للقرآن
والسنة والمزايدين عليهما دون أن يقدموا لنا حتى الآن، برنامجا واضحا ومحددا
للحكم، يكفل حرية الرأي والعقيدة، ويحترم إرادة الشعب، ويقيد سلطة الحاكم، ويكفل
لجميع المواطنين المساواة في الحقوق والواجبات، ولا ينسف تراثهم التاريخي في
الانتماء للوطن والذود عنه والولاء له" (فرج فودة، نكون أو لانكون، ص. 59 ). ففي
ظل الصراع السياسي المحموم والتسابق للاستيلاء على السلطة، تعْمد التيارات
"الدينية" إلى رفع شعار "تطبيق الشريعة" في وجه الخصوم
السياسيين، مع أن الشريعة في اللغة معناها
هو الطريقة أو السبيل أو المنهج، ونتساءل أليس تحويل« الشريعة» من منهج إلى طقوس
هو تحويلها إلى مظاهر، أو ليس ذلك معناه تسييسها؟(سبق أن تناولت هذا الموضوع في
مقالي الموسوم ب: القرضاوي الذي يستثني قضايا المرأة من مقاصد الشريعة، جريدة
الأحداث المغربية، عدد 13 ماي 2005)، في كتابه «أصول الشريعة» يقدم محمد سعيد
العشماوي عرضا لتطور مصطلح الشريعة، فبعد أن عرض نصوصا وآيات من التوراة والقرآن، تطرق لتطور مفهوم الشريعة مع ما قام به الفقهاء،
فلم يعد يدل على معناه اللغوي الأصلي أي المنهج والسبيل والطريق، وهو أيضا المعنى
الذي جاء في القرآن، ولكنه صار يعني الأحكام والقواعد، ويرى العشماوي أن هذا كان
له نتائج وخيمة على المسلمين حيث يقول:"إن الذي أوجد الصراع في الروح
الإسلامية ونشر القلق في المجتمع الإسلامي وبذر الصراع في الشخصية الإسلامية أن
الفهم انحرف بلفظ الشريعة إلى غير معناه، فبينما هو يعني المنهج أو السبيل أو
الطريق فقد صرفها إلى الأحكام والقواعد والنصوص التي تنشأ من المنهج وتصدر من
السبيل وتخرج من الطريق، وبذلك ترك الأصل إلى الفرع واستبدل بالقالب ما ينتج عنه (...).
وهكذا كان التحول والانتقال والتسرب من الحركة إلى السكون، ومن التغير إلى الثبات،
ومن التقدم إلى الجمود. فالشريعة هي المنهاج الذي يهيمن على الأحكام ويطبعها
بطابعها، وليست هي الأحكام بحال من الأحوال...» (محمد سعيد العشماوي، أصول
الشريعة، ص. 150). بل إن تحويل الآراء السياسية إلى آراء في الدين،
أشعلت الحرب بين المسلمين، بمجرد وفاة الرسول، بدءا بما سمي بفترة "الخلافة
الراشدة": "وحسب القارئ أن يتأمل معنا فترة حكمهم، ويتعجب وهو يرى
ثلاثين عاما، يتعاقب فيها أربعة خلفاء، يموت ثلاثة منهم بحد السيف أو الخنجر، واحد
على يد غلام مجوسي وهو أمر مفجع، وواحد على يد الرعية وهو أمر مفجع ويفزع، وواحد
على يد مسلم متطرف وهو أمر يفزع، ويقضي الخليفة فترة حكمه كلها ساعيا إلى التمكن
من الحكم سدى، وإلى فرض ولايته على الدولة الإسلامية كلها دون جدوى، وينتهي به
الأمر محصورا في الكوفة داعيا الله أن يبدله خيرا من قومه، وأن يبدل قومه أسوأ
منه، ثم لعلنا ننزعج ونحن نكتشف أن الفترة على قصرها قد حفلت بالحروب الأهلية
الكبرى، فقد بدأت بها، وانتهت بها، بدأت بحروب الردة في عهد أبي بكر، وانقضت
سنواتها الخمس الأخيرة في سلسة من الحروب الأهلية أولها حرب الجمل بين كبار
الصحابة، ثم حرب صفين بين علي ومعاوية، ثم
حرب النهروان بين على الخوارج عليه، ثم سلسلة متصلة من الحروب الصغيرة بين جيوش
علي وجيوش الخوارج" (فرج فودة، الحقيقة الغائبة، ص. 140-141).
وليس
ببعيد نموذج السودان وكيف كان ما سموه "تطبيق الشريعة" وبالا على البلد
وأهله (انظر تناول فرج فودة للموضوع في كتابه "قبل السقوط")، ولعل انقسام
السودان نتيجة طبيعة لمقدمات غير طبيعية !
* نشر بجريدة الأحداث المغربية يوم الثلاثاء 12 يونيو 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق