الجمعة، 8 أغسطس 2014

نظرات في كتاب "قداس السقوط" لأحمد دلباني، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



نظرات في كتاب "قداس السقوط" لأحمد دلباني

عبد الواحد بنعضرا

أتناول في هذا المقال كتاب الكاتب والشاعر الجزائري أحمد دلباني، الموسوم ب"قدّاس السقوط: كتابات ومراجعات على هامش الربيع العربي"، الصادر عن دار التكوين للتأليف وللترجمة والنشر، دمشق، 2012. وهو عبارة عن مجموعة مقالات قبيل وإبان انطلاقة الربيع العربي، وإلّم يوضح صاحبها هل نشرت جميعها، بالتواريخ المشار إليها، أم أن الأمر يتعلق بتاريخ كتابتها... ابتدأ المؤلف بالتهليل للعهد الجديد، وانتقد الدور السلبي للمثقفين في الحراك العربي.

ينْظم هذه المقالات خيط جامع، ينطلق من كون الاكتفاء بإسقاط النظام،غير كافي لأحداث التغيير المنشود، إذ لا يكفي إزالة رئيس دولة من مكانه ما لم يصحب ذلك تغيير في بنية النظام: "دون ذلك لن تكون الانتفاضة ثورة وإنما زلزالا اجتماعيا يفتقر إلى هاجس التخطي والتجاوز ويفتقر إلى الحلم الإنساني الأعمق بالتحرر الشامل. الثورة، جوهريا، ليست حِراكا فحسب بقدر ما هي تحرّك نحو واتجاه إلى. إنها هدف معلن واعتقاد عميق بصداقة التاريخ لشرعية المعنى الذي يعتق الإنسان من تفاهته في الغبار الكوني، ويمنح وجوده جدارة لا تتحقق بغير الوعي والحرية" (ص. 25)؛ حيث يلحظ أن من المشاكل التي عاشتها المجتمعات العربية منذ الاستقلال استمرار نفس النظام الحاكم المستبد حتى في وجود أحزاب تدعي تحرير الإنسان، ــ حزب البعث نموذجا ــ ، والأمر لا يقتصر على طبيعة الحاكم المستبد فحسب، بل إن المعضلة في المجتمع ذاته الذي ألِف وجود "الأب"؛ إذ يتعلق الأمر بحاجة هذه المجتمعات لهذا الحاكم/المخلّص/المهدي المنتظر: عبد الناصر/صدام حسين...: "تكمن مشكلتنا ـ بوصفنا عربا ومسلمين ــ في أننا لم نشهد قتل الأب في ثقافتنا وإنما أعدنا إنتاجه في أشكال جديدة من الأصولية العقائدية والانغلاق الإيديولوجي المذهبي الذي اعتقل العالم والحقيقة في شباك النظرية والكلمة الأولى التي ادعت أنها تعلو على وقائعية العالم وفجائعيته. مشكلتنا أننا لم نشهد اضمحلال المقدس أو انسحابه من فضاء العمل التاريخي في توليد المعنى على ما يرى البروفيسور محمد أركون، وإنما ظلت تتناسل فينا شهوة التماهي مع الأصل احتماء من فوضى الحاضر غير المسيطر عليه بشكل جيد. هذا ما يدفع بي إلى الحديث عن خطر الثورة السياسية في ظل غياب الثورة الثقافية والعقلية التي تناوش الواقع وتفكك سلطة المرجعيات المتآكلة. دون ذلك تبقى بيوتنا مشرعة دائما لضيوفها من الآلهة التي ترفض أن تموت" (ص. 29 – 30).

وإذن فالأمر يتعلق بذهنية انبنت منذ القديم على انتظار المخلص/ القائد الملهم، بقراءة معينة للدين فرضتها السياسة منذ العهد الأول للإسلام، فالمشكل ليس سياسيا فحسب بل هو ذو أبعاد متعددة أبرزها المشكل الثقافي. خصوصا في ظل غياب الشرعية الشعبية كمحدد للنظام الديمقراطي، ووجود شرعية تارخية: الشرعية الدينية، أو الشرعية الثورية أو غيرها: "من الواضح والجلي أننا لم ندخل بعد عصر الشرعية السياسية الديمقراطية بمعناها الشامل. فلم يولد عندنا الإنسان بوصفه مرجعا للقيم(...) فلقد تأسست الدولة العربية ــ منذ عقود ــ على الشرعية الثورية أو على شخصية الزعيم الملهم، وبقيت بذلك حبيسة الزمن الثقافي الأسطوري الذي يربط الشرعية بالبدايات المقدسة وبالبطولة الفردية. إنها الشرعية التي تنهل من المخيال ومن الزمن النبوي. هذا ما يبين كيف أن نظام الشرعية السياسية العربية بقي يتحصن بالمرجعية العاطفية/ الأسطورية من أجل تجاوز مآزقه الخاصة كلما جابه التحديات والأسئلة الجديدة" (ص. 79)

فالمستبد العربي لا يفهم السياسة كمجال لتدبير الشأن العام، ولكنه يرها مكانا لتحقيق الأحلام الطوباوية أو الخلاصية، وهو ما يجب تغييره.

وعموما هذه القراءة السياسية هي نتيجة تكريس الوحدانية في كل شيء في الثقافة، السياسة، الفن... وبالتالي تخوين وتكفير وتبديع كل من يخالف النموذج الجاهز أو يغرد خارج السرب، ومن هنا احتقار العقل والإبداع وتكفيرهما (ص.130).
ومن هنا أهمية دراسة أدونيس للشعر، باعتبار الشعر انفتاحا على المستقبل على المجهول على تعددية المعنى، وليس التشرنق في أحادية المعنى المكرسة للاستبداد. ولقد كرع الجميع من معين الثقافة الوحدانية وهو ما يلاحظ حتى في الحركات المعارضة، التي وإن نادت بالحرية فإنها تستبطن غيرها، وهي الأخرى تكرس الاستبداد.

 بلغة أخرى أُدخِلت المجتمعات العربية قسرا إلى الحداثة، بيد أنها لم تكن حداثة حقيقة هي فقط بعض مظاهرها التحديثية، وليس عمقها الفلسفي (ص. 114). ما قامت به بعض الأحزاب القومية والاشتراكية هو الاستعاضة عن عمامة الفقيه بخوذة العسكر، هي علمنة الاستبداد !!
بمعنى آخر انتشرت حداثة النظام، ولم تنتشر حداثة التفكيك، وهذا هو ما نحتاجه اليوم، إن الحداثة في عمقها هو بحث مستمر عن المعنى الجديد، وليس المعطى المنجز الجاهز، إذ حاولت الأنظمة العربية دائما اغتصاب الدلالة باسم المقدس والمعنى الجاهز، إن الحداثة/التفكيك هي بحث في الواقع /الانطلاقة من التجربة وليس البقاء رهين سلطة النص، وهذه إحدى معضلات الثقافة العربية الإسلامية عبادة النصوص، خصوصا عندما يتم تحنيطها وتحويلها إلى المطلق (ص.111و150).

ملاحظة: أتساءل شخصيا ما الفرق حينها بين قال ابن حنبل، قال الشافعي، وقال ماركس، أو قال ستالين، أو لينين... عندما يصبح النص مقدسا مطلقا؟ وهذه معضلة حقيقية، شخصيا كنت أقول لبعض الرفاق، إنكم تعانون من المانوية والإيمانوية، من جهة، مشكل المنطق الثنائي: مناضل/مخزني، تقدمي/رجعي، وتخوين كل الآراء المخالفة.. مثلما يوجد عند الآخرين ثنائية: الحلال/الحرام، المؤمن/الكافر... ومن جهة أخرى تقديس كلام مجموعة من الأشخاص والنصوص.

إن حداثة التفكيك، بالنسبة للمؤلف شيء أساسي للخروج بالمجتمعات العربية من متحف التاريخ، ويقع العاتق بشكل كبير على المثقفين، الذين يعد دورهم الأول تحرير دلالة الأشياء من تاريخها المرتبط بالسلطة: "الذين أصبحوا يفهمون الحداثة لا على أنها نظام شمولي ونظرة ناجزة منتهية، بل بوصفها موقفا نقديا وحركية لا تنتهي في اكتناه المجهول ومراجعة المسبقات في ضوء السديم التاريخي الذي نشهده" (ص. 176).

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الأربعاء 27 نونبر 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق