التسامح هل يمكن دون معرفة الآخر ؟
عبد الواحد بنعضرا
ونحن نتناول كثيرا موضوع
التسامح بين الأديان والشعوب وتقام اللقاءات الفكرية هنا وهناك بين النخب، ولم
يستطع أن ينتشر التسامح إلا بالقدر الذي تنتشر به أغاني الإعلانات التلفزية والتي
تصير مع الوقت لازمة لا طعم لها ولا مذاق.. والحال أن المعني بهذا وهي الشعوب تكاد
تجهل الكثير بعضها عن البعض، أما النخب فهي ليست بحاجة للقاءات بقدر ما أن عليها
مسؤولية كبيرة تتجلى في العمل على وصل ما انقطع بين الثقافات والحضارات وتقريب ما
بعد، ومن الطبيعي أن يتم ذلك عبر محاور عدة: التعليم، الإعلام، الكتاب، المحاضرات
والندوات واللقاءات مع المواطنين.. ويجمع هذه المحاور موضوع أساسي يتعلق بدراسة
مقارنة للأديان ــ خاصة ــ ويشكل كتاب فراس السواح : «مغامرة العقل الأولى» مادة
للاشتغال- إلى جانب مؤلفات أخرى -، وهذا ما سيجعل العُصاب الديني تخفت حدته إذ
سيكتشف الإنسان المهووس دينيا أن خصائص الأديان متشابهة وأن عناوينها الرئيسية
مشتركة، تماما مثلما سيكتشف من جهة أخرى أن كل دين - بعد توظيفه سياسيا- على مر
التاريخ عرف قراءة رسمية أرثوذوكسية وقراءات أخرى نعتتها الأنظمة الحاكمة بالبدعوية
والهرطقية.. إننا عندما نفترض إمكانية التسامح بين إنسان وآخر يجهلان عن بعضهما
الكثير، فإننا لا نعدو نكرر صفحة من صفحات تاريخ قد مضى: أي التسامح كمِنّة على
الآخر أو هبة تجود بها عليه من موقع القوة والتعالي، وبإمكانك تحويلها إلى نكاية
به أو تنكيل حسب الظروف.. ومفهوم «أهل الذمة» يشكل عنوانا من بين عدة على ما قلت.
إن التسامح الذي ننشد هو تسامح الند للند، باعتراف الإنسان بالقيمة النسبية
لثقافته وحضارته، وتلعب نظرية التناص (intertextualité) دورا مهما بهذا
الخصوص بتأكيدها على أن كل نص هو أضمومة أو تركيب لمجموعة من النصوص السابقة، وعلى
أنه لا يوجد نص ينطلق من فراغ، مما يحدّ من غلواء ادعاء البعض أنهم يملكون كل
الحقائق المطلقة، ويمكنهم من الانفتاح على الآخر وعلى ثقافته بالاعتراف بنسبية تلك
الحقائق.. ومن المفكرين الذين سبق لهم أن نبهوا على هذه المسألة، أي ضرورة معرفة
الآخر من أجل احترامه والتعايش معه بسلام، الفيلسوف الوجودي Karl Jaspers إذ يقول: «وربما فزعنا
في كل لحظة من تنوع القناعات المتصارعة، فإذا وجدنا أنفسنا إزاء قناعة غريبة
معادية وجب علينا حتما أن نحل المسألة الأساسية: هل نقبل أن نكون جميعا بشرا، نعم
أم لا؟ فإن كان نعم، فلا يحق لنا أن نعتبر الذين يؤمنون بغير ما نؤمن به أنهم
أعداؤنا وأن نهملهم وندعهم لمصيرهم البائس. ولا يحق لنا أيضا اعتبارهم غير
موجودين، أو أن نتمنى إبادتهم. ولكننا، في تلك الحالة، نطلب من أنفسنا ما قد يبدو
لنا غير معقول: فأنا أوقف، بالفكر، الحقيقة التي هي (حقيقية - عندي)، حتى أسعى إلى
الإسهام في إمكانات الفكر والشعور، لدى الآخر وأن أغدو الإنسان الذي تكون فيه هذه
الإمكانات واقعا، وبهذه المناسبة نقوم بتجربة تربطنا: إننا نكتشف أننا نحتاج إلى
الفكر بالنسبة إلى الآخر، وإلى التفكير مع الآخر، حتى نصبح أكثر وثوقا بأنفسنا»
(نهج الفلسفة، ص: 86). إن الإنسان الذي يرفض الاطلاع على فكر ودين الآخر، لأنه
يخشى أن يزعزعه ذلك عن عقيدته، لإنسان فعلا يفتقد الثقة بنفسه، إنه في مهب الريح،
وإيمانه إيمان العجائز، يمكن أن يتبخر بقراءة كلمة، ويمّحي بجرة قلم... وماذا لو
كان هذا الإنسان جاهلا حتى بنفسه، ماذا لو كان عدوا لجسده، غير متصالح مع ذاته، هل
يمكن أن يكون متسامحا مع غيره، أليس فاقد الشيء لا يعطيه؛ إنه في الوقت الذي
اكتشفت فيه البشرية قارة سادسة وهي قارة الجسد، مازال الإنسان المسلم يجهل الكثير
من هذه القارة ويحتقرها وينسب إليها كل مشين وعائب ومهين، هذا الإنسان الذي يعذب
وينكل جسده ويحرمه من أبسط ضرورياته، ويرفض الغناء والموسيقي، بل ويرفض حتى مصافحة
يد الجنس الآخر، ويعيش في حرب دائمة مع ذاته، ويفتقد السلام والتسامح معها، هل
يمكن أن يكون متسامحا مع الآخر؟ أليست هذه إشكالية أخرى تسبق أو توازي في إيجاد
الحل لها إشكالية التسامح مع الآخر؟ وأخيرا، أليس الإطلاع على فكر مختلف كنز كبير،
وحياة أخرى يعيشها الإنسان وعمر طويل يضاف إلى عمره، وكما يقول ميخائيل نعيمة:
كلما وضعت يدي في يد ما لمستها من قبل قلت: تبارك الله! فتح جديد وكنز لا نفاذ
له...
* نشر المقال بجريدة الأحداث
المغربية يوم الخميس 16 يونيو 2005
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق