البنوك الإسلامية
5/10
عبد الواحد بنعضرا
9ـ الحيل الفقهية
إذا كان الشعار الأساسي الذي حمله الجيل الأول من البنوك
الإسلامية هو شعار البركة، فإن الجيل الثاني رفع كشعار أساسي له : «المضاربة»
و«المرابحة»، وإذن فقد كان علي أن أتطرق لموضوع الحيل الفقهية حتى أكشف عن الخداع
المركّب الذي يقوم به الخطاب الديني المعاصر والمتمثل في الادعاء بأن معاملات
الأبناك الإسلامية هي من صميم المضاربة والمرابحة من جهة، ومن جهة أخرى أن
المضاربة والمرابحة هي نظام إسلامي في التجارة، ولا أعني أني أريد أن أقدح في
«الحيل الفقهية» وأرى فيها فقط الوجه السلبي، فقد يكون لها وجه إيجابي ربما قصد
منه الفقهاء تحرير التجارة من بعض القيود التي تعيقها، ولكني أبغي إجلاء اللبس عن
الخداع والزيف الذي يريد أن يصبغ هذا الخطاب به المصارف المسماة بالإسلامية بطابع
ديني في مقابل البنوك التقليدية التي تنعت بأنها تتعامل بالربا، في الوقت الذي لا
يختلف فيه النوعان إلا في جزئيات بسيطة، إذ أنهما ينخرطان في النظام البنكي
الرأسمالي بكل عناوينه الرئيسية وحتى الفرعية، ولهذا كان من اللازم التطرق لموضوع
الحيل مع الإشارة إلى أن سامي حمود، وهو من المؤسسين والمنظرين للبنوك الإسلامية،
لم يخف في أحد الندوات التي أقيمت بالدار البيضاء بأن : «نظام المضاربات، صحيح أن
النظام نقل إلى الحضارة الإسلامية كنظام متعارف عليه في الجاهلية، لكنه عندما دخل
في الفقه الإسلامي تقدم به الفقه خطوة متقدمة توجب مكانا للوسيط المالي».
(سامي حمود، فعالية التمويل الإسلامي في إطار الاقتصاديات الصاعدة، من محاضرات ندوة التطبيقات الاقتصادية المعاصرة للدار البيضاء، 1998، ص. 56).
(سامي حمود، فعالية التمويل الإسلامي في إطار الاقتصاديات الصاعدة، من محاضرات ندوة التطبيقات الاقتصادية المعاصرة للدار البيضاء، 1998، ص. 56).
وكما نرى فقد مرّ الرجل بنظام المضاربة من فترة ما قبل الإسلام
إلى اجتهاد الفقهاء دون أن يذكر رأي القرآن في ذلك، وبمعنى آخر فإن الفقهاء لما
احتاجوا إلى طريقة أكثر تحررا في التجارة عمدوا إلى الأنظمة الموجودة منذ القديم
كالمضاربة، وحاولوا أن يلبسوها ثوبا إسلاميا حتى ولو كان القرآن لم يتطرق لها لا
من قريب ولا من بعيد، ولهذا دلالات كثيرة ... أمّا الحيل الفقهية فالمقصود بها :
«اختار الفقهاء من معانيها العامة أو المطلقة، كما يرى ابن القيم معنى خاصا، أو
مقيدا، وهو ما عبر عنه بقوله : سلوك الطريق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى حصول
غرضه، بحيث لا يتفطن له، إلا بنوع من الذكاء والفطنة (...)
وقال ابن تيمية : ثم غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض، بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة، فإن كان المقصود أمراً حسنا كانت حيلة حسنة، وإن كان قبيحا كانت قبيحة (...) وقد استعملت بمعنى المخرج من الضيق والحرج، كما استعملها بعض الحنفية ومنهم الإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ) حيث سمى كتابه : المخارج في الحيل، وهي بهذا المعنى قريبة من الرخصة، حيث قالوا : إن المقصود بهذه الحيل هو استعمال الذكاء في فهم دين الله لنخرج من وقع في بلية وضيق من ذلك بوجه شرعي، يبقى له حرمة الدين في نفسه، ويخرجه من الضيق والحرج بوجه مقبول شرعا بفضل الذكاء وجودة الفهم والاجتهاد في استنطاق نصوص الشرع دون مخالفتها».
(محمد بن إبراهيم، الحيل الفقهية في المعاملات المالية، ، الدار العربية للكتاب، 1983، ص. 25-24).
وقال ابن تيمية : ثم غلبت بعرف الاستعمال على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض، بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة، فإن كان المقصود أمراً حسنا كانت حيلة حسنة، وإن كان قبيحا كانت قبيحة (...) وقد استعملت بمعنى المخرج من الضيق والحرج، كما استعملها بعض الحنفية ومنهم الإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ) حيث سمى كتابه : المخارج في الحيل، وهي بهذا المعنى قريبة من الرخصة، حيث قالوا : إن المقصود بهذه الحيل هو استعمال الذكاء في فهم دين الله لنخرج من وقع في بلية وضيق من ذلك بوجه شرعي، يبقى له حرمة الدين في نفسه، ويخرجه من الضيق والحرج بوجه مقبول شرعا بفضل الذكاء وجودة الفهم والاجتهاد في استنطاق نصوص الشرع دون مخالفتها».
(محمد بن إبراهيم، الحيل الفقهية في المعاملات المالية، ، الدار العربية للكتاب، 1983، ص. 25-24).
ويرى أبو إسحاق الشاطبي أنه لا يمكن إقامة دليل من الشريعة على
إبطال الحيل أو تصحيحها، وإنما يمكن عرضها على مقاصد الشريعة : «فإذا تسبب المكلف
في إسقاط الوجوب على نفسه، أو إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب، حتى
يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر، أو المحرم حلالا في الظاهر أيضا، فهذا السبب
يسمى حيلة وتحيلا ...». (نفسه، ص. 26). أي حسب الشاطبي، أن كل سبب يؤدي إلى إسقاط
الواجب أو تحليل المحرم يسمى حيلة وتحيلا، وبمعنى آخر فإن الحيلة بقدر ما تطلق على
«مخرج شرعي» عند أبي الحسن الشيباني الحنفي، فإنها أيضا تستعمل -غالبا أو في
الجملة- كوسيلة لتحليل «الحرام» عند أبي إسحاق الشاطبي المالكي في تعريفه للحيلة،
بيد أن هذا الاختلاف لا يقتصر على التعريف، بل يتعداه -كما هو تاريخ الفقه- إلى
اختلاف في كل قضية من القضايا المطروحة خاصة في مجالات مالية !!
10ـ الحيل الفقهية في
المعاملات المالية
يعرف محمد بن إبراهيم البيع الصحيح بأنه : «ما نقل فيه الملك،
وتم القبض، باستثناء بيوع الآجال المرخص فيها، وكان ذلك يعوض على وجه جائز شرعا،
أو عن تراض من المتبايعين، بعد الإيجاب والقبول، اللذين لا يتمان بدون تراض». (محمد
بن إبراهيم، الحيل الفقهية في المعاملات المالية، ص. 133).
ولكن لماذا رخصت بيوع الآجال، ومن رخص بها ؟ أما القرآن فليس
فيه أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد لهذا الترخيص، إلا إذا تعلق الأمر بوضع
الأحاديث فهو أمر معروف في تاريخ الفقه، وهذا ما يجعلنا نتساءل : ألم يكن الفقه
إلا تاريخا من الحيل، ولكل في الميدان طريقته ؟ يخلص ابن إبراهيم إلى أنه إذا :
«فقد معنى من هذه المعاني بأن فقد التقابض، أو التراضي الصحيح، أو عدم الجواز
الشرعي في الثمن أو المثمن، تجيء الحيل لتصحيح البيع الفاسد بسبب اختلال ركن، أو
شرط من شروط صحته أو جوازه. وهذه الحيل تكون غالبا إما تخريجا على قول ضعيف أو على
أصول بعض المذاهب، أو تماشيا مع الظاهر، وغض النظر عن النوايا والقصود». (نفسه، ص.
134-133).
رأينا فيما سبق الاختلاف في الأخذ بـ «الحيل» بين المذهب
المالكي والمذهب الحنفي، يقول أحمد أمين : «ومن الأمور الظاهرة في فقه أبي حنيفة
الحيل الشرعية، وقد أصبحت فيما بعد بابا واسعا من أبواب الفقه في مذهب أبي حنيفة
وغيره من المذاهب، وإن كانت في مذهب الحنفية أظهر، وألفت فيها الكتب الخاصة، حتى
لقد وضعت فيما بعد حيل للهروب من محل الالتزام، فحيل لإسقاط الشفعة، وحيل لتخصيص
بعض الورثة بالوصية، وحيل في إسقاط حدّ السرقة وهكذا». (أحمد أمين، ضحى الإسلام،
الجزء الثاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط. العاشرة، ص. 190).
وبالمقابل ضيق المالكية على «الحيل» حتى أن أبا إسحاق الشاطبي
يرى أن السبب الرئيسي وراء اللجوء إلى الحيل هو الشح، ومعنى هذا أن الشاطبي يوحي
لنا بأنه لم تكن هناك ضرورات واقعية تجارية واجتماعية أو واقع جديد يفرض تبريرا
فقهيا، بل إن المسألة عنده منحصرة في دوافع أخلاقية مثالية وذاتية، وذلك أنه :
«نقص الإحسان بالوجوه الأول، فتسامح الناس بالقرض، ثم نقص ذلك حتى صار الموسر لا
يسمح بما في يديه فيضطر المعسر إلى أن يدخل في المعاملات التي ظاهرها الجواز
وباطنها المنع، كالربا والسلف الذي يجر النفع فيجعل بيعا في الظاهر، ويجري في
الناس شرعا شائعا، ويدين به العامة، وينصبون هذه المعاملات متاجر، وأصلها الشح
بالأموال، وحب الزخارف الدنيوية والشهوات العاجلة».
(أبو إسحاق
الشاطبي، الاعتصام، ضبطه وصححه، أحمد عبد الشافي، الجزء الثاني، دار الكتب العلمية،
بيروت ط. الثانية، 1995، ص. 332).
* نشر الجزء الخامس بجريدة الأحداث المغربية، يوم الأحد 6 غشت 2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق