البنوك الإسلامية
7/10
عبد الواحد بنعضرا
وبالتالي، فالأمر في حالة ما إذا فسد عقد المضاربة أن يتحول ــ في
الفقه ــ إلى عقد إجارة وليس إلى «ربا»، وكما نلاحظ فإن شيخ الأزهر استشهد بآراء
فقهية قديمة حول ما ذهب إليه، وهذا أيضا ينبهنا إلى كمّ التعمية التي يمارسها
القرضاوي في حديثه عن المضاربة. ما سبق من كلام سيد طنطاوي سيجعله يصل إلى النتيجة
التالية : «وبناء على كل ذلك نقول : إن البنك المستثمر للمال بتحديده للربح مقدما،
قد صار أجيرا عند أصحاب الأموال، الذين رضوا أن يكون ما حدده لهم هو ربح أموالهم،
وما بقي من أرباح بالغة ما بلغت هو أجر له على استثماره لأموالهم، وبذلك لا تكون
هذه المعاملات من المعاملات الربوية.
والخلاصة : أننا لا نرى نصا شرعيا، ولا قياسا نطمئن إليه، يمنع من تحديد الربح مقدما، مادام هذا التحديد قد تم باختيار الطرفين ورضاهما المشروع». (نفسه، ص. 103-102).
والخلاصة : أننا لا نرى نصا شرعيا، ولا قياسا نطمئن إليه، يمنع من تحديد الربح مقدما، مادام هذا التحديد قد تم باختيار الطرفين ورضاهما المشروع». (نفسه، ص. 103-102).
وما قد نستنتجه ــ نحن ــ ، أننا أمام فقهين يدافعان عن المصالح
الاقتصادية-السياسية، فالقرضاوي المساهم والرئيس لهيئة الرقابة الشرعية في العديد
من البنوك الإسلامية، يختار تفسيرا للمضاربة يتوافق مع توجهه، أي نعت هذه البنوك
بالإسلامية والأخرى بالربوية؛ وسيد طنطاوي من جهته يشير إلى تفسير آخر للمضاربة
يتوافق مع منصبه الرسمي كشيخ للأزهر يدافع عن سياسة النظام المصري الحاكم والذي
تتعامل أبناكه على أساس أنها بنوك تقليدية، مبينا أنه لا شيء يمنع في المضاربة أن
يحدد الربح رعاية للمصالح، مدعما رأيه أيضا بما يروى من أن النبي منع وحرّم
التسعير، ثم بعد ذلك ما فعله كثير من الفقهاء الذين : «أجازوا لولي الأمر تسعير
السلع، إذا غالى التجار في الأسعار، أو احتكروا ما لا غنى للناس عنه، أو تذرعوا
بهذا الحديث لاحتكار السلع، والمبالغة في رفع أسعارها بما يعجز معه كثير من الناس من
شرائها وذلك لإشباع مطامعهم. وإذا كان الفقهاء قد راعوا مصالح العباد في التسعير
مع وجود النص الذي ينهى عنه، أفلا يجوز تحديد الربح مقدما في المضاربة رعاية لهذه
المصالح، مع أنه لا يوجد نص شرعي يمنع ذلك، وكل ما في الأمر أن الذين يمنعون تحديد
الربح مقدما في المضاربة يستندون إلى قياس عقد المضاربة على عقد المزارعة». (نفسه،
ص. 99).
هكذا سيجعل طنطاوي من بنوك العالم جميعا بنوكا تتعامل بـ
«المضاربة»، وبمعنى آخر فقد جعل من البنوك التقليدية كلها بنوكا «إسلامية»، وطبعا
هذا قلب للأمور، إذ أن البنوك الإسلامية هي في واقع الأمر ليست إلا بنوكا تقليدية
تدعي أنها تتعامل بنظام «إسلامي»، وقد رأينا أنه لا علاقة لهذه الأبناك بنظام
المضاربة القديم، ثم إن هذا النظام أصلا هو نظام ما قبل إسلامي، وأن القرضاوي
وباقي الفقهاء يلبسون هذه البنوك لباسا دينيا بادعاء التعامل بالمضاربة، وبانتقاء
تفسير معين للمضاربة حتى يتم استبعاد البنوك التقليدية ونعتها بالربوية، والحال
أنها كلها بنوك من نفس الشاكلة، أي بنوك رأسمالية، وسيتأكد الأمر أكثر عندما ندرس
ونحلل «البيع بالمرابحة».
13ـ بيع المرابحة
سأناقش موضوع بيع المرابحة انطلاقا من كتاب القرضاوي: «بيع
المرابحة للآمر بالشراء»، وقد أشار رفيق المصري في مقال له في مجلة الأمة القطرية
يرد على القرضاوي في الموضوع بأن: «كتابه «بيع المرابحة» يمثل الدراسة الوحيدة
المعتبرة لفئة الفقهاء الذين أجازوا بيع المرابحة مع إلزام المتبايعين بمواعدتهما،
وقد جاء تفصيلا لفتوى كان واحدا من صناعها» (العدد 61 شتنبر 1985). وقد نشر الكتاب
أول مرة دار القلم في الكويت عام 1984.
سبق أن رأينا ما ذكره طنطاوي بخصوص تعامل الفقهاء وتجاوزهم
لرواية تمنع التسعير، وسنرى رأي القرضاوي في كتابه بعي المرابحة حول الموضوع، فمما
جاء في كلامه هنا: «ومن ثم رأينا الفقهاء - من عصر التابعين- من يجيز التسعير مع
ما ورد فيه من الحديث، التفاتا إلى العلة والمقصد. ورأيناهم يجيزون من البيوع
والمعاملات مافيه غرر يسير لا يفضي عادة إلى نزاع، مراعاة لعلة النص الناهي، عن
بيع الغرر، والتفاتا إلى حكمته وقصده...».
(يوسف القرضاوي، بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجربه المصارف الإسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 2001، ص. 21).
(يوسف القرضاوي، بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجربه المصارف الإسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 2001، ص. 21).
عجيب أمر
الشيخ إنه لا يرى بأسا فيما فعله الفقهاء من تحايل على النص بل رأى فيه مراعاة
للعلة والمقصد، والسؤال: لماذا وأين غابت مرعاة القصد والعلة في فتاويه حول
تعاملات البنوك التقليدية، لماذا وحدها فوائد هذه البنوك تستثنى من البحث عن علتها
ومقصدها؟! وحتى يتبين لنا مدى تهافت الخطاب الديني المعاصر في موضوع البنوك، خاصة
في دفاعه عن بيع المرابحة، سأعود للكتاب الآخر للقرضاوي والذي يتحدث عن فوائد
البنوك لنرى كيف لم يراع الشيخ المقصد في تحريم التعامل البنكي، فقد ذكر أن: «من
التبريرات التي جدت على الساحة اليوم: ما يقال من أن الحكمة في تحريم الربا لم تعد
قائمة اليوم، فالحكمة هي منع ظلم الدائن للمدين أو المقرض للمقترض واستغلال حاجته
بفرض الزيادة الربوية عليه (...) وحصر الحكمة في استغلال المقرض الغني للمقترض الذي
يأخذ القرض لحاجته وقوته وقوت عياله حصر غير صحيح، وقد رددنا عليه بالأدلة
الناصعة.
أما الحكمة هي: أن المال لا يلد المال بذاته، والنقود لا تلد نقودا، إنما ينمو المال بالعمل وبذل الجهد» (القرضاوي، فوائد البنوك، ص. 47-46).
أما الحكمة هي: أن المال لا يلد المال بذاته، والنقود لا تلد نقودا، إنما ينمو المال بالعمل وبذل الجهد» (القرضاوي، فوائد البنوك، ص. 47-46).
إذن حسب القرضاوي هنا فتحريم الربا لا يقوم على أساس منع الظلم
بل تحولت الحكمة من تحريمها إلى أن المال لا يلد المال بذاته.. إلخ، وكلامه هنا
متناقض كلية مع ما ذكره الرجل في كتابه بيع المرابحة إذ قرر القرضاوي: «أن الشرع
لم يمنع من البيوع والمعاملات إلا ما اشتمل على ظلم، وهو أساس تحريم الربا والاحتكار
والغش ونحوها، أو خشي منه أن يؤدي إلى نزاع وعداوة بين الناس وهو أساس تحريم
الميسر والغرر». (القرضاوي، بيع المرابحة، ص. 20).
واضح من هذا التناقض الكبير بين كتابي القرضاوي في أساس تحريم
الربا أننا أمام خطاب يحاول بأي طريقة الدفاع عن مصالحه، وما هذا إلا نموذج من
النماذج العديدة التي سنراها لاحقا لتهافت الخطاب الديني المعاصر وهو يحاول بأي
طريقة أن يبرر بيع المرابحة التي أثيرت حوله انتقادات عديدة بأنه ليس إلا شكلا من
أشكال الربا - في الفقه- وليس نوعا من أنواع البيوع، وفي المقابل سعيه (أي الخطاب
الديني) لضرب البنوك الأخرى التي لا تتقنّع بأي قناع ديني. تحدثت عن موقف القرضاوي
من قضية التسعير وكيف ربطها بالمقاصد وسنرى ما محل المقاصد في خطاب الشيخ في قضية
فوائد البنوك التقليدية؟
لم يكتف القرضاوي بأن تناقض مع كلامه في أساس تحريم الربا بأنه
المنع من الظلم كما جاء في كتابه "بيع المرابحة" وجعله في كتابه الآخر "فوائد البنوك"
بأنه يعود إلى أن المال لا يلد المال وإنما ينمو المال ببذل الجهد، حتى يضيف هذا
الكلام معبرا عن قمة تهافت خطابه: «لأن الأصل المطرد الغالب: أن نبني الأحكام
الشرعية على العلة لا على الحكمة، لأن العلة هي الوصف الظاهر المنضبط الذي يكون
علامة واضحة على الحكم، بخلاف الحكمة التي تنضبط وقد تختلف أفهام الناس وتضطرب في
تحديد الحكمة فلا يتفقون على شيء». (القرضاوي، فوائد البنوك، ص. 47).
لم يعد هناك إذن أهمية للالتفات إلى المقاصد والحكمة ــ خلافا
لما جاء في كتاب بيع المرابحة ــ وهكذا أصبح واجبا للنظر إلى العلة فقط.. ولم لا
فلكل مقام مقال، فحين يريدون إباحة التعامل مع بنوكهم «الإسلامية» يقولون أنهم
يتعاملون بالمرابحة ثم يعطون للمرابحة تعريفا قديما ثم - مع ذلك- يتحايلون لكي تظهر
أن هذه المرابحة حلال -بالنسبة لفقههم- فيتحدثون عن المقاصد والحكمة، تحايلا على
النصوص!! أما إذا أرادوا ضرب البنوك الأخرى ــ أي التقليدية ــ فالحديث هنا سيكون
عن أن فوائدها ربا وأن الربا حرام، وينعدم ويختفي حديثهم عن المقاصد والحكمة، بل
أكثر من ذلك يكتشف القرضاوي أن العمد والمعول عليه هو العلة وليس الحكمة ثم يفسر
الحكمة كيفما اتفق له، وطبعا فمصالحة تلزمه بذلك فهو رئيس هيئة الرقابة الشرعية للعديد
من المصاريف الإسلامية، ويزيد القرضاوي الطين بلة حين يعلن: «أن الحكمة الواضحة في
تحريم الربا هي تحقيق الاشتراك العادل بين المال والعمل، وتحمل المخاطرة ونتائجها
بشجاعة ومسؤولية، وهذا عدل الإسلام». (نفسه، ص. 48)
عجيب فعلا:
نلاحظ هنا أن الحكم أصبحت «واضحة» وليست مضطربة أو غير منضبطة أو مختلف عليها ــ كما
جاء في أعلاه ــ ، ثم تأمل كيف عزل الشيخ النصوص عن سياقها، فالذي يقرأ آيات الربا
يعرف أنها تتحدث عن شيء آخر: «يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار
أثيم، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند
ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (...) وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن
تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون» (البقرة/ 281-275).
إن هذه الآيات ــ وحتى لا أتعسف في سبب تحريمها للربا أو أكثر
دقة سبب ذمها للربا - فعلى الأقل لا تفيد في أي شيء الكلام السابق ولا علاقة لها
بالحكمة التي ذكرها القرضاوي، فهذه المقارنة بين النظرة أو الإنظار إلى مسيرة
والصدقة وبين الربا - وبدون تعسف في التأويل- لا تفيد أن الحكمة هي تحقيق الاشتراك
العادل بين المال والعمل أو بذل الجهد، فهذه قضية أخرى لا علاقة لها بهذه الآيات،
ولكنه القرضاوي الرجل الذي يحاول أن يجد لكل مقام مقالا ولكل فتوى تخريجة باسم
الدين!!
ولكي نتمثل جيدا تحليل ودراسة «بيع المرابحة» لزم أن نقدم
نموذجا من نماذج هذا البيع، وهذاما سأفعله، وسأعتمد النمذوج نفسه الذي اختاره
القرضاوي كمثال عن بيع المرابحة في كتابه الذي يحمل نفس الإسم، وذلك حتى لا يقع
منا تعسف بتقديم نموذج آخر فلا يتوافق مع الدراسة التي أقوم بها والتي تنطلق من
تحليل تصور معين لبيع المرابحة كما يراه القرضاوي ومن يقتفي أثره من أبواق الدعاية
للبنوك الإسلامية، ولعلنا بهذا نزداد فهما للظاهرة.
* نشر الجزء السابع بجريدة الأحداث المغربية يوم الثلاثاء 8 غشت 2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق