فرج
فودة:
الدولة المدنية في مواجهة "وهم" الخلافة السعيدة
عبد الواحد بنعضرا
هناك،
حيث الخليفة تحفّ به ثلة من خيرة الفقهاء يتدارسون قضايا الدين، والخليفة ما بين
مطرق يستمع لحديثهم الصافي الذي يترقرق عذوبة ويعذوذب رقة وهو يتهادى إلى مسامع
الحاضرين، الذين يزيدهم بياض ثيابهم نقاء وطهارة ! أو هو يكفكف عَبراته تخشعا واتعاضا، أو هو يكْرع من معين هذا
الجمع المبارك، وفي كل أحواله فسيماء التقوى على محياه بارزة، وبعد هذا كله فهو لا
يقطع أمرا دون الرجوع إلى مشورتهم والأخذ بسديد آرائهم في الدين والدنيا ! ولا بأس حتى تكتمل الصورة،
أن يكرّ الخليفة على أهل بلد ما ويجلب عليهم بخيله ورجله... وبعد هذا كله، أيضا،
الكل يعيش في تقوى ورغد عيش وهناء بال ! هناك، إذن، في مسلسل تلفزيوني أو مخيلة بعضهم؛ تستقر هذه الصورة وتبيض
وتعشش وتفرّخ أوهاما عند بعض الشباب، الذي
يسعون لتسريع إقامتها على الأرض، وإن تعذّر سعوا لإقامتها في اللازمكان ! وقد يفوت البعض، والحالة هذه، أن يتساءل عن مدى
تماسك هذه الصورة وانسجامها؟ ثم مدى تطابقها أو بُعدها عن الصورة الأخرى حيث تقطع
الرؤوس وتجزّ فيها الأعناق باسم الخلافة وطاعة ولي الأمر...مثيل ذلك ما رواه الطبري عما فعله المكتفي بمعارضيه سنة 191هـ وكيف قطع
أوصالهم فوق دكة: "كان يؤخذ الرجل فيبطح على وجهه فيقطع يمنى يديه ويحلق بها
إلى أسفل ليراها الناس، ثم يقطع رجله اليسرى، ثم يسرى يديه، ثم يمنى رجليه، ويرمى
بما قطع منه إلى أسفل، ثم يقعد، فيمد رأسه، فيضرب عنقه، ويرمى برأسه وجثته إلى
أسفل (...) ثم قدم القرمطي فضرب مائتي سوط ثم قطعت يداه، ورجلاه وكوي فغشي عليه،
ثم أخذ خشب فأضرمت فيه النار ووضع في
خواصره وبطنه، فجعل يفتح عينيه ويغمضها، فلما خافوا أن يموت ضربت عنقه، ورفع رأسه
على خشبة، وكبر من على الدكة، وكبر سائر الناس..." (فرج فودة ومعاركه
السياسية، ص. 193- 194). ويتسائل فرج فودة عن نتيجة الصورة التي يرسمها الإعلام
والتعليم عن "الخلافة" فيقول: "النتيجة أن يرتفع في مجلس الشعب صوت
بعض النواب... يرددون في طرب وطرافة، نريد الخلافة، نريد الخلافة، وأن يعيش بعض
الشباب في وهم الماضي المزيف، فينادي أحدهم الآخر بقوله، تعالى يا عنبسة فيأتيه
الرد: لبيك يا سموأل، فإذا سمع أحدهما أوكلاهما حديثا عن العلم أو التقدم أو
الحضارة فر ك عينيه في رقة حتى لا تزول من فوقهما طبقات كحل الاثمد، وغمغم في ضيق
وتبرم، بخ بخ ليس بيني وبين الجنة إلا القضاء على هذا كله. والنتيجة؟ النتيجة أن
يقْدم طالب في نهائي كلية الطب على محاولة تفجير سيارة لاغتيال وزير الداخلية كان
الله في عون جيلنا وبلادنا ومستقبلنا من شر جيل جنى عليه التعليم والإعلام" (نفسه،
ص. 182-183). هؤلاء الشباب الذين يظنون أنهم يحسنون صنعا بترويع الآمنين وقتل
المدنيين محظوظون جدا، ففي جميع الحالات لن
تقطع أطرافهم من خلاف ولن تسمل أعينهم ولن تعلق رؤوسهم على أبواب المدن، ومهما كان
الحكم فلن يصل إلى ما يجب أن يكون في الدولة الدينية، محظوظون جدا إذ أنهم يعيشون
في ظل دولة مدنية، وإلا كانت طبقت عليهم أحكام الحرابة أو أحكام الخروج على ولي
الأمر حسب ما يقتضيه وجود نظام الحكم الذين يدعون إليه، حيث لا معنى للحديث عن
المعارضة، فإما أن تكون لك سلطة فتكون، أولا فلا تكون، فليس هناك ما يسمى معارضة،
لأن معارضة الحكم معناها – في دولة الخلافة ــ خروج عن طاعة ولي الأمر وبالتالي
كفر ومروق عن الدين وانسلاخ من جلد الأمة...: "هي الحضارة، وهي الدولة
المدنية التي يرفضها الصغار المغرّر بهم، وهو الحظ الذي شاء لهم أن يعاقبوا في ظل
القانون، وليس فوق الدكة... ألم أقل لكم أنهم لم يقرؤوا ولو قرأوا وفهموا لاتعظوا،
ولو علموا أن ما يدعون إليه سوف ينتهي بمهرجان الدكة لترددوا كثيرا"(نفسه، ص.
194-195).
يحكي
فرج فودة في كتابه "حوار حول العلمانية" ما يلي: "عندما رشح أستاذ
الجيل أحمد لطفي السيد نفسه لعضوية البرلمان، تفتق ذهن منافسه عن حيلة طريفة، فقد
أخذ يجوب القرى والكفور معلنا أن أحمد لطفي السيد – والعياذ بالله – ديمقراطي.
ولأن الجهل بهذه المصطلحات كان سائدا، فقد أخذ المستعمون يرددون وراءه عبارات من
نوع – أعوذ بالله، أستغفر الله – بينما انبرى أنصار لطفي السيد لإنكار الأمر،
مؤكدين أنه من أسرة مؤمنة لم يعرف عنها خروج على العقيدة أو انحراف عن الملة. وكان
موقف المدافعين عن لطفي السيد عصيبا وضعيفا أمام عبارات المنافس الحاسمة: لقد
سمعته بأذني يردد ذلك، وأقسم بالله أنني لو سمعت هذا من غيره عنه لأنكرته، وها
أنذا أعرض الأمر عليكم، فإن كنتم تريدون ترك الإسلام واعتناق الديموقراطية
فانتخبوه، هذا شأنكم وقد أبلغت، اللهم فاشهد. حدث هذا قبل أيام من عقد أحمد لطفي
السيد لمؤتمر شعبي في الدائرة، ولغيابه في القاهرة، فإن شيئا من حديث المنافس لم
يصل إليه، وفي اليوم الموعود، احتشدت الجموع، واختصر أحمد لطفي السيد حديثه معلنا
ترحيبه بتلقي الأسئلة، التي دارت جميعها حول مضمون واحد هو: هل صحيح ما يشاع عن
أنك ديموقراطي. وبهدوء العلماء، ووقار الأساتذة، ردّ أحمد لطفي السيد: نعم، أنا
ديمقراطي، وسأظل مؤمنا بالديمقراطية حتى النهاية. وبقية القصة معروفة، وضحايا
القصة معروفون، بل إن شئت الدقة معروفان، فقد كانا بالتحديد: السرادق الذي احترق،
وتأمين الترشيح الذي لم يسترد. حدث هذا في العشرينات من هذا القرن [القرن 20]،
وأصبح ناذرة من نواذر الحياة السياسية في مصر، خاصة بعد أن أصبحت الديمقراطية
مطلبا شعبيا" (حوار حول العلمانية، ص. 13- 14). ولعل الدولة المدنية
العلمانية أن تصبح كذلك في قابل الأيام مطلبا شعبيا، رغم أن ما يحدث عندما يتعلق
الأمر بالعلمانية شبيه بما حدث أيام لطفي السيد !
* نشر هذا المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الاثنين 11 يونيو 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق