فرج فودة:العقلانية في مواجهة التطرف والانغلاق
عبد الواحد بنعضرا
أن
تكون لك الجرأة والشجاعة في استعمال عقلك بدون وصاية الآخرين، هذا هو فكر الأنوار
كما يقول الفيلسوف كانط، فليس من السهل على
الإنسان، الذي نشأ في ظل الخلط بين السياسية والدين، أن يسائل تلك "البديهيات"
التي يرقد في أحضانها مطمئنا، خاصة إذا تعلق الأمر ببعض الأفكار التي تُصور على أساس أنها صحيح الدين، والخروج عنها
خروج عن الدين، فالتيار الديني يعمل جاهدا على تكفير أو تبديع استعمال العقل في
الأمور الدينية، لأن ذلك كفيل بفضح من يستغلون الدين، وقمين بحرمانهم مما هم فيه
يرفلون من نعم ظاهرة وباطنة. يرّد فرج على
أحدهم قائلا: "احمد الله يا شيخ الأزهر على العيش الهنئ، والطعام المرئ،
واذكره واشكره كثيرا على تخلّف المسلمين، لأنه الحافظ لمنصبك (...) حفظك الله
ورعاك، وأدام نعمته عليك، وأوسع على المسلمين كما أوسع عليك، ورزقهم كما رزقك،
ونعمهم كما نعمك، وعافاهم وعافاك، إنه سميع مجيب الدعاء" (نكون أو لانكون، ص.
23). من هذا المنطلق وسعيا وراء تكميم العقول، يصرّ الخطاب الديني على الربط بين
الإيمان وبين التقدم، يقول أحدهم: " إن الشعوب لا يمكن أن تنهض إلا بأحد أمرين..
إما بالعلم أي أن يصبح الشعب كله مثقفا متعلما واعيا(...) وهذا يحتاج منا إلى مئات
السنين (...) وأما الطريق الأسرع والأكثر فعالية فهو العقيدة الدينية، فالعقيدة
تشحذ الهمم، وتوقظ النيام من غفلتهم وبعث فيهم الرغبة في خدمة دينهم كل حسب موهبته
وفي مجال عمله" (أحمد شوقي الفنجري، كيف نحكم بالإسلام في دولة عصرية، ص. 17) ! ما أفهمه من كلام الفنجري هو
أننا إذا عجزنا عن التقدم فلنرجع إلى الماضي، وإذا لم نستطع الالتحاق بالركب
فلنتشبث بالمؤخرة، وإذا لم نستطع صنع طائرة فلنركب الناقة ! كما يتم عمدا الربط بين
الكوارث وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وغياب الإيمان أو تراجعه، أو بين
الاستغفار والتوبة وتساقط الأمطار، في الوقت الذي نحتاج فيه ــ كما يرى فرج فودة ــ إلى تدبير هذه الأزمات "دون
أن نهرب من مواجهة المشاكل بأهون الأساليب، وأقصد بها الإحالة إلى الإرادة الإلهية
(...) ولنا في عام الرمادة أسوة، وفي طاعون عمواس أسوة، وكلاهما حدثا في عهد عمر[ا
بن الخطاب]، وعمر هو عمر" (قبل السقوط، ص. 18). وفرج فودة هنا يضع نموذجا
لكوارث وقعت في عصر عمر أي العصر الذي يطلقون عليه الفترة الراشدة، فكيف يستقيم،
والحال كذلك، الربط بين الكوارث وتراجع الإيمان !؟ والعبث بالعقول يصل مداه
عندما تأخذ جوقة العجز العلمي والشلل العقلي في التطبيل والتصفيق لما يسمونه زورا
وبهتانا "الإعجاز العلمي"، يدعو أحد الإعجازيين/العاجزين عن البحث
العلمي إلى ضرورة "تجاوز قراءتنا
الحالية للقرآن الكريم، التي كانت تبحث في نصوص القرآن والسنة لتأكيد النظريات
العلمية الغربية، بل لا بد أن تسعى إلى استخراج حقائق علمية غير
مسبوقة"(جريدة التجديد، العدد 885). لا داعي للاستغراب، فكما قلنا أعلاه
محاربة استعمال العقل وسيلة للاغتناء من أسهل الطرق وأيسرها تعبيدا، ولا حاجة لنا
بالمختبرات والتجارب، يكفي بعضا من التمتمات والتعاويذ ومبخرة وقليلا من الصندل
والعود، لكي نخرج لساننا للغرب ومنجزاته ! وسيظهر عندنا " طب إسلامي وذاك طب نبوي، وهذا علم القوارير
وذلك علم الأحاجي، وهذا القرآن يشير إلى أحدث مجالات الأبحاث وهو مجال الذرة،
متناسين أننا نحن الذين ترجمنا اللفظ الأجنبي Atom إلى نظيره العربي "الذرة" وكان ممكنا
أن نسميها باسم آخر، وليكن المهموش مثلا، بيد أننا كما تعودنا في دراستنا الأولية
نكتب سطرا ونترك سطرا، ونذكر أشياء ونتناسى أشياء..." (فرج فودة، نكون أو لا
نكون، ص. 141). وإمعانا في تسفيه العقل، يتم نعت الحضارة الغربية بكونها حضارة
الشذوذ وأن ما وصلته حطب ليل، وأن الآخرة أبقى، هي الردة الحضارية تتلبس بلبوس
الدين: " هم يهاجمون الحضارة الحديثة باستمرار، ويصورون الحضارة الغربية على
أنها حضارة الدعارة والشذوذ الجنسي والإيدز (...) إن احترام حضارة العصر يفقدهم
سلاحا ماضيا في أيديهم، ومن حق الأجيال المعاصرة أن تعرف كيف تطورت الحضارة من
نيوتن حتى غزو الفضاء في برامج شديدة الجاذبية.. وكيف تطور الفكر الإنساني منذ
أرسطو حتى وصل إلى الديمقراطية وميثاق حقوق الإنسان(...) وكيف تطور الطب حتى تم
القضاء على الكثير من الأوبئة التي كانت تحصد الملايين..." (فرج فودة،
النذير، ص. 56 – 57). مقابل ذلك يتم إغراق السوق بفتاوي تتنكب لروح العصر، من حيث
همومه وقضاياه، وتتعمد إدخال الناس في متاهات وهم يكتوون بلهيب الاستبداد وغلاء
المعيشة وانسداد الأفق، يخرج البعض ليحدث الناس عن جواز إرضاع الكبير، أو ممارسة
الجنس مع جثة ميتة، أو حوار عن الممارسة الجنسية في الجنة؛ يحكي فرج فودة: "الأستاذ
جلال كشك يؤكد أن المسلمين في الجنة سوف يكونون في حالة "انتصاب" دائم،
والفقهاء لا يؤكدون ولا ينفون، وإن كانوا يتشككون في "الديمومة"
والأستاذ كشك يؤكد أن غلمان الجنة سوف (...) يلبسون الأساور والأقراط، معنى هذا
أنهم يكونون من حظ ونصيب ذكور الجنة، حيث يستمتعون بهم كما يشاؤون، والعلماء
يتشككون في ذلك. هذه هي هموم المسلمين إذن في نهاية القرن العشرين... الانتصاب
الدائم واللواط بالغلمان، في الجنة إن شاء الله... أكتب هذا وأنا أشعر بالحزن
والأسى، وأتساءل عن رأي غير المسلمين في قوم هذه مشكلاتهم، وتلك قضاياهم... أكتب
هذا لكي أذكر الطرفين بأن العالم منشغل حولنا باختراق الفضاء والهندسة الوراثية
وإعجاز الكمبيوتر. يا حسرة على الإسلام والمسلمين... ويا حسرة على الوقت الضائع
والجهد الذي لا طائل منه، والقضايا المخجلة والعلم الذي لا ينفع" (حتى لا
يكون كلاما في الهواء، ص. 199 - 200). ولأن السهم إذا انطلق لا يرجع، فسيصل العبث
مداه حين يُحرّم البعض أكل القرع والباذنجان، لماذا؟ يقول فودة: "بلغني أن
بعض أعضاء الجماعات الظلامية في "سمالوط" يحرمون على أنفسهم أكل القرع
والباذنجان، وعندما سألت عن السبب، كانت الإجابة أغرب من الخيال.. السبب الذي
يستندون إليه هو أن القرع والباذنجان يتم حشوهما، والحشو يقتضي إدخال الأرز
بالأصبع في حبة القرع أو الباذنجان، وأسلوب الحشو بهذه الطريقة يحوي رمزا جنسيا
فاضحا، لأنهم يخشون على نسائهم لو فعلت ذلك من الفتنة فقد حرموا على أنفسهم أكل
القرع والباذنجان، أخذا بالأحوط، كارثة والله العظيم" (فرج فودة ومعاركه
السياسية، ص.207). لعل هذه الفتاوى والآراء هو ما دعا فرج فودة للاستشهاد بحديث
معاذ بن جبل حين ولي على اليمن، مستخلصا منه سعادة الرسول بإعمال العقل (فرج فودة،
نكون أو لا نكون، ص. 138- 139). كتب فرج فودة يقول: "إن ما أكتبه في هذا
الكتاب شديد الأهمية في تقديري، لأنه يعكس واقع المعارك الفكرية التي نعيشها، وهو
سجل هام للأجيال القادمة، أكثر بكثير من أهميته لجيلنا، لأنه وثيقة شرف لجيل
آباءهم، ولعلهم لن يصدقوا أننا كتبناه ونحن غارقون في اتهامات التكفير، ومحاطون
بسيوف الإرهاب والتهديد، ويقينا سوف يكتب البعض من الأجيال القادمة ما هو أجرأ،
وأكثر استنارة، لكنه سوف يصدر في مناخ أخر، أكثر حرية وانطلاقا وتفتحا، ولعله من
حقنا عليهم أن نذكرهم أنهم مدينون لنا بهذا المناخ، وسوف يكتشفون عندما يقلّبون
أوراقنا ونحن ذكرى ، أننا دفعنا الثمن ... " (نفسه ، ص. 7 ).
* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الأربعاء 13 يوينو 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق