فرج
فودة:الفن والإبداع في مواجهة طيور الظلام
عبد الواحد بنعضرا
سبق أن نبهت، ذات مقال، إلى أن الدين عندما يكون تجربة
جماعية ويفرض على الفرد أن يذوب به مع الجماعة، يتحول إلى أدلوجة سياسية تبتغي
الوصول إلى هدف معين، وعليه فإما أن يكون الإنسان مقتنعا بهذا الدين المؤدلج فيصير
متطرفا... بالقوة، وإذا ما توفرت الظروف الموضوعية صار كذلك بالفعل.. أو انتهازيا
وصوليا إن كان لايرى في هذا الدين إلا ركوبة ومطية للحصول على الغنيمة كما تفعل
الحركات الدينية،(انظر(ي) مقالي الموسوم بـ: الدين والتحضر، جريدة الأحداث المغربية،
عدد 28 يونيو 2005)، وتسييس الدين يحُول دون أن يعيشه الإنسان كتجربة فردية، إذ أن
جماعات وأحزاب الإسلام السياسي، معنية بدرجة أكبر باستثمار الدين للوصول للسلطة
أكثر من الدين نفسه، ولهذا تنزعج من كل النزعات الفردانية، ولأن هذه النزعات تتجلى
بشكل أكبر في الإبداع والفن، فإن الخطاب الديني المعاصر لم يألُ جهدا في شن حرب
على مواطن الفن والتعبير، يقول أحدهم:"
(...) لهذه الاعتبارات كلها كان اقتناء الجهاز التلفزيوني محرما لما يصاحب هذه
البرامج الترفيهية من معازف وموسيقى، وغناء ماجن، ورقصات فاجرة، كان النظر لهذه
البرامج محرما كذلك لما لها من خطر في تقويض دعائم التربية والأخلاق" (عبد
الله ناصح علوان، حكم الإسلام في وسائل الإعلام، ص، 10 -11). وعمل بالمقابل على
اعتبار كل ما يرتبط بالفن والتعبير مجرد وسائل للإباحية والرذيلة وغرضا
جنسيا !
فخطورة الفن والإبداع على مصالح تيارات الإسلام السياسي تنبع من كون: "الفن على أساس أنه ممارسة إبداعية تتوخى الإتيان بصورة أو حالة أو
رسم أو تخطيط وعلى غير مثال سبق. ومن هنا مفهوم الإبداع على أساس أنه خلق ينبجس من
داخل النفس البشرية من دون وسيط نصي أو عقدي أو أيديولوجي. لذا يفترض في الفنان الأصيل
إن هو أراد أن يأتي بصورة أو فكرة أو تخطيط أن يتخلص من المعتقدات والعادات
والطقوس المجتمعية التي يرزح تحتها كثيرون حتى يصدر إبداعه صافيا غير مشوب بأعمال
من سبقوه"(موليم العروسي، باريس من النهضة إلى ما بعد الحداثة.. الجمال والفن
بما هما معرفة، مجلة عالم الفكر، يناير- مارس 2010، ص. 147). إن الجانب الفردي في
الفن والإبداع يساعد على الخروج من ثقافة القطيع إلى مسؤولية الأنا، إلى الاحتفاء
بالاختلاف، إلى تكريس الحرية الفردية، حرية الإنسان أن يكون كما يشاء لا على مثال
سابق ولا وفق نموذج يخطه فهم معين للنص ويفرضه على الآخرين. يبذل التيار الديني
جهذا في تقليب الأوراق البالية علّه يعثر عمّا يؤيد به مذهبه في الفن، وقد يعمد
إلى الآراء الشاذة فيجلو صدأها وينضو عنها ما تراكم عليها من غبار الزمن، وينفخ
فيها الروح، ساعيا إلى التضييق على الفن والإبداع، من رسم ونحت... ليعلن: "النهي عن تصوير ما فيه روح في الثياب
والجدران والورق وغيرها، سواء كان مرسوما أو مطبوعا أو محفورا أو منقوشا أو مصبوغا
بقوالب أونحو ذلك" (محمد صالح المنجد، التنبيهات الجلية على كثير من المنهيات
الشرعية، ص. 23). ولن يتورع أحدهم عن الإفتاء بتحريم فن الكاريكاتير، لأنه في نظره:
"يعتبر إذاية لصاحب الصورة وإساءة له وإضحاكا للناس منه، لأنه سخرية واستهزاء
بصاحب الصورة" (عبد الباري الزمزمي، سؤال وجواب في حياة المسلم، سلسلة
الفتاوي، الجزء الخامس، ص. 189). بل إن الموقف من الفن سينزلق عند البعض لدرجة أن
يرى في موسيقى بيتهوفن مثيرا جنسيا، فـ: "لا يجد حرجا في الإفتاء بأن سماع
موسيقى بيتهوفن قبل النوم حرام، تاركا إيانا نضرب كفا بكف ونحن نتساءل عن علة هذا
التحريم، وعن مكان هذا الإنسان الوهمي، الذي تتهيج غرائزه عند سماع بيتهوفن (...)
وهل يا ترى تمتد فتواهم إلى كل ما هو متاح وصداح، فتنطلق القوافل الشعبية بحثا عن
طيور الكناري لذبحها خوفا من الفتنة، وإلى خرير الجداول لطمرها تحسبا من الإثارة،
وإلى أبواق السيارات لتدميرها تجنبا لمقدمات الزنى..." (فرج فودة، نكون أو
لانكون، ص. 86-87). وفي ردّ على مقال لعبد الصبور شاهين حول رائعة تشايكوفسكي
الموسيقية "بحيرة البجع" وحديثه عن الأفخاذ الفنية، علّق فرج فودة
قائلا: "أستاذنا الجليل لا يندمج مع هذا كله، ولا ينفعل بهذا كله، ولا ينشغل
بهذا كله، ولا يهتز لهذا كله، ولا يرى على الشاشة إلا أفخاذا في أفخاذ، ولا يشده
إلا المشهد الفخاذ (أقصد الأخاذ)، ولا تؤثر فيه الموسيقى، فالفخذ أعلى صوتا، ولا
يندمج مع الحركة فرجرجة الفخذ أشهى منظرا، ولا ينشغل بالأسطورة فالفخذ عنده أوضح
ما في الصورة، ولا يهتز للإيقاع، لأنه مشغول بحركة الفخذ في الانخفاض والارتفاع...
ما الذي جرى لبعض أساتذتنا الأفاضل، وكيف أصبح الفخذ يحظى منهم بهذا القدر من
الاهتمام"(فرج فودة ومعاركه السياسية، ص. 288). لاتأسى حزنا عزيزي فودة أقول
لك الذي جرى أن البعض قد استقرت عقولهم بين أفخاذهم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى
ابتداع "سروال إسلامي !" لممارسة الرياضة، ولا يستطيع الإنسان إلا أن يضحك.. ضحكا
كالبكاء... يتنذر فودة من السروال الغريب، قائلا:"ولعلهم
يردون علينا بأن السبب كامن فيما يثيره الفخذ من فتنة، وما يدفع إليه من إثارة،
وهو أمر لو صح في عهد السلف، فإنه لا يصح في عصرنا حيث لانرى ما رآه السلف الأول،
وحيث يكر اللاعبون ويفرون، دون أن ينبض لنا عرق، أو يهش لنا فؤاد، أو يفكه لنا
قلب، أو تدغدغ لنا روح، ولا نحسب أن أحدا مدح لاعبا بسمنة فخذه، أو عيّره بنحولها،
ولا نعتقد أن أحدا يمكنه أن يدعي أن اللاعب يكوينا بسهام الهوى إن كرّ، أو يُدمينا
بنار الجوى إن فرّ" (نكون أو لانكون، ص. 11 ). ولندع حديث الأفخاذ الفنية
ونرجع لحديث تحريم الإبداع والفن.. لا يتوقف الأمر عند الإفتاء بالتحريم، بل يتحول
على أيدي بعض الشباب المشحون إلى التنفيذ وإطلاق الوعيد، فينطلق مسلسل تكسير
المسارح، وآلات الموسيقى وتكفير الفنانين و تهديدهم في سلامة أجسادهم، لذا سيعمد
فرج فودة إلى تحية الممثل عادل إمام، بمناسبة إصرار فرقة الفنانين المتحدين تقديم
أعمالها المسرحية في أسيوط رغم ارتفاع حدة التطرف والهجوم على المسارح في هذه
المدينة: "ويا عزيزي عادل، سألني العشرات كيف يتصلون بك وينقلون مشاعرهم إليك
فكان ردي أنك مؤمن بأن ما فعلته أنت وأعضاء فرقتك العظماء، لا يزيد عن كونه واجبا
عليكم في زمن عزّ فيه أداء الواجب، وحقا أديتموه للوطن، فحق للوطن أن يحييكم
ويحميكم، ويشد على أياديكم، ويردد معي ما عنونت به المقال: كان درسا عظيما... يا
إمام" (فرج فودة، نكون أو لانكون، ص. 137 ).
* نشر هذا المقال الأخير من مقالاتي المخلدة للذكرى 20 لاغتيال فرج فوده بجريدة الأحداث المغربية يوم الخميس 14 يونيو 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق