أين يمكن أن تتجلى مظاهر ما بعد الحداثة في الدين، تتجلى في نقد التوظيف السياسي للدين (الإسلام دين ودولة مصحف وسيف) وإلى إزالة كل ما يمس بروحانية التدين، أي هدم الدين السياسي من أجل بناء الدين الفردي عبر أنسنة التدين، حيث يصبح الدين مسالة شخصية، واختلاف الأفكار والأديان ضرورة، غير موجب للعداء والقتل.
ما بعد الحداثة
عبد الواحد بنعضرا
إن أصعب
شيء وأخطره، ألا يستفيد الإنسان من الحوادث التي تمر حوله، وألا يستوعب الدرس،
أقول هذا الكلام بمناسبة المقالات والردود التي كتبت بعد 16 ماي منددة بالأعمال
الإرهابية حيث أن بعض هذه المقالات ــ وهي بقلم أناس حداثيين ــ تستنكر ما وقع
ولسان حالها يقول، نحن مسلمون فلماذا فعلتم بنا هذا، وبعضها لم يبق له إلا أن
يردّد الشهادتين حالفا بأنه مسلم، والحال أنهم بهذا يبررون قتل الأبرياء من غير
المسلمين من حيث لا يشعرون، وأنهم عوض أن يجعلوا من الظرفية الحالية نقطة لانطلاقة
عهد جديد (نطلق عليه ما بعد الحداثة) إذا هم يتراجعون، هذا طريق نسميه عن حسن نية،
سياسة إمساك العصا من الوسط، ونسميه عن يقين سياسة التقية.
وإذا
كنا نتحدث عن مغرب الحداثة، فالذي نؤكده أنه لا يمكن أن تتحقق الحداثة إلا إذا
أسسنا لما بعد الحداثة، فهي علاقة جدلية بين كلا المفهومين، يقول جان فرانسوا
ليوتار: "لا يمكن لعمل أن يصبح حداثيا إلا إذا كان ما بعد حداثيا أولا، وما
بعد الحداثة بناء على هذا الفهم ليست الحداثة في نهايتها بل في حالة الميلاد، وهذه
الحالة دائمة"(1). فما بعد الحداثة هو نقد متجدد مستمر للحداثة، فالحداثة
الحقيقية هي دائما ما بعد حداثية.
أين
يمكن أن تتجلى مظاهر ما بعد الحداثة في الدين، تتجلى في نقد التوظيف السياسي للدين
(الإسلام دين ودولة مصحف وسيف) وإلى إزالة كل ما يمس بروحانية التدين، أي هدم
الدين السياسي من أجل بناء الدين الفردي عبر أنسنة التدين، حيث يصبح الدين مسالة
شخصية، واختلاف الأفكار والأديان ضرورة، غير موجب للعداء والقتل.
وإن
كان هناك مغاربة ليسوا مسلمين أو لادينيين، فإن إنسانيتهم تفرض علينا وعلى الجميع
احترام أفكارهم وعقائدهم.
من
اللحظات الجميلة التي عشتها مع الفيلسوف الوجودي كارل ياسبرز Karl Jaspers في "نهج الفلسفة" هذه اللحظات:
"ربما فزعنا في كل لحظة من تنوع القناعات المتصارعة، فإذا وجدنا أنفسنا إزاء
قناعات غريبة معادية وجب علينا أن نحل المسألة الأساسية: هل نقبل أن نكون جميعا
بشرا، نعم أم لا؟ فإن كان نعم، فلا يحق لنا أن نعتبر الذين يؤمنون بغير ما نؤمن به
أعداءنا وأن نهملهم وندعهم لمصيرهم البائس. ولا يحق لنا أيضا اعتبارهم غير
موجودين، وأن نتمنى إبادتهم. ولكننا في تلك الحالة، نطلب من أنفسنا ما قد يبدو لنا
غير معقول، فأنا أوقف بالفكر الحقيقة (التي هي حقيقة عندي) حتى أسعى إلى الإسهام
في إمكانات الفكر والشعور لدى الآخر وأن أغدو الإنسان الذي تكون فيه الإمكانات
واقعا. وبهذه المناسبة نقوم بتجربة تربطنا، إننا نكتشف أننا نحتاج إلى التفكير مع
الآخر، حتى نصبح أكثر وثوقا بأنفسنا"(2).
عندما
يطرح كارل ياسبرز هذا السؤال: هل نقبل أن نكون جميعا بشرا؟ ويكون الجواب نعم، ما
المقصود بالإنسان: اللحم والعظم؟ أبدا، عندما نموت: الأجساد تبلى والعظام تصبح
رميما فما الذي يبقى مني ومنك؟ أفكارنا إن كانت لنا أفكار. ما الذي بقي من أرسطو،
سوفوكليس، موسى، المسيح، محمد بن عبد الله، ابن رشد، كارل ماركس... بقيت أفكارهم،
خلودهم كان أفكارهم.
إنسانية
الإنسان إذن تتجلى في فكره، والكلام عن الإيمان بإنسانية الإنسان إذن تتجلى في
الإيمان بحقه في الاختلاف في الأفكار وبالتالي في العقائد والأديان، بل إن الدستور
المغربي كان رائدا حين نص في الفصل السادس منه: "الإسلام دين الدولة، والدولة
تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية". فالدولة إذن تضمن لكل فرد مهما
كانت عقيدته وديانته حرية ممارستها.. لذا نقول بأنه قد تم خرق القانون (الفصل 6)
بشكل سافر عندما تم القبض على بعض الأفراد بدعوى أنهم من عبدة الشيطان، مقابل خرق
للقانون في اتجاه آخر بالسماح بتكوين حزب ديني رغم أن ظهير الحريات العامة المؤرخ
في 15 – 11 – 1958 الذي ينظم حق التجمع وحق تكوين الجمعيات ينص على أنه لا يجوز في
المغرب تأسيس أي حزب على أساس ديني أو عرقي أو جهوي.
إن فكر
الإنسان هو الذي يخلق له الوجود وهو الذي يمكنه فعلا أن يصبح إنسانا، يقول كارل
ياسبرز Karl
Jaspers : "أن تتأمل معناه أن تصبح
لك القدرة على التفكير، أن تفكر معناه أن تبدأ في التحول إلى إنسان"(3). وكما
يقول ديكارت: "أنا افكر إذن أنا موجود".
وما
دمنا نتحدث عن التسامح بين الأفكار والأديان، فإننا يجب أن نجسد هذا التسامح، سواء
في مقررات التعليم، أو في مدونة الأحوال الشخصية، ولذا ندعو إلى أنسنة المدونة،
وخاصة الفصل 29 حيث تنص الفقرة 5 منه: "بتحريم زواج المسلمة من غير
المسلم". والأكيد أن هذه الفقرة من الفقرات التي تعزز الانغلاق والعداء بين
الأديان، بل تعني إقصاء الغير لمجرد الاختلاف، ولذا ندعو بأن يكون ضمن التعديلات
المقبلة تعديل هذه الفقرة، بإجازة زواج المسلمة من غير المسلم، وأيضا زواج المسلم
باللادينية. (4).
ويجرنا
هذا الحديث للفصل 228 والذي ينص على أنه: "لا توارث بين مسلم وغير
مسلم...". فإنه لمن مظاهر العنصرية والاستخفاف بالعدالة، ألا يتوارث ابن مع
أمه، لأنه مسلم مثلا ولأنها يهودية أو مسيحية.
فمن
أجل أنسنة المدونة ومن أجل تجسيد التسامح بين الأديان نطالب بتعديل هذين الفصلين
(29 و228) إلى جانب باقي الفصول التي يجب تعديلها.
إن
الكثيرين يرددون بأن الدين الإسلامي قد قضى على العصبية والقبلية، ولكنهم لا
يذكرون بأن المسلمين قد تحولوا إلى قبيلة دينية كبيرة.
في
رواية أمين معلوف Les Jardins de lumière حينما
يُسأل ماني "Mani" إلى أي ديانة ينتسب، يردد
هذا الرد الرائع: "إنني أنتسب إلى كل الديانات، ولا أنتسب لأية واحدة، إنهم
يعلّمون الناس أن عليهم الانتماء إلى عقيدة كما ينتمون لعرق أو قبيلة.. وأنا أقول
لهم: لقد كذبوا عليكم.. تعلّموا كيف تجدوا في كل عقيدة، أو فكرة، المادة المنيرة،
وأن تزيلوا القشور"(5).
الهوامش:
1ـ جان فرانسوا ليوتار، الوضع ما بعد الحداثي، ترجمة، أحمد حسان، دار الشرقيات، ط.الأولى، 1994، ص. 108.
2ــ كارل ياسبرز، نهج الفلسفة، ترجمة، عادل العوا، دار الفكر، دمشق، 1975، ص. 86.
3- Karl Jaspers, Introduction à
la philosophie, U.G.E. col. 10 / 18, Paris, p. 136.
4ــ أقول: تحدث عبد العزيز قباني
وهو يذكر بعض اسباب الزواج المدني: زواج زينب ابنة النبي من أبي العاص بن الربيع،
وكان مشركا أي ليس كتابيا، وكانت مسلمة، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته
زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة
وقال للمسلمين إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا، ففعلوا، فأطلقه رسول الله
على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك،وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله مع
زيد بن حارثة، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم
زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان فردها إليه بالنكاح الأول ــ أي لم يجر نكاحا
جديدا وفق الإسلام ــ ولم يحدث لها صداقا، لما روى أحمد عن ابن عباس أن رسول الله
ردّ ابنته زينب على أبي العاص، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح، ولم
يحدث شهادة ولا صداقا.
عبد
العزيز قباني، مبررات الزواج المدني الاختياري، منشورات دار الآفاق الجديدة،
بيروت، ط. 1، 2000، ص. 114 – 115.
5- Amin Maalouf, Les Jardins de
lumière, L.P., p. 184.
* نشر
المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الأربعاء 25 يونيو 2003.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق