الحروب الصليبية، وجهة نظر أمين معلوف
عبد الواحد
بنعضرا
هذا
الكتاب les croisades vues par les
arabes ليس بعمل روائي، بل هو محاولة من أمين معلوف
تقديم سرد تاريخي للحروب الصليبية، انطلاقا من المصادر العربية. ولذا سيكون من
التعسف نقاش هذا العمل من وجهة أدبية صرف، أو وضعه على مشرحة النقد التاريخي، لأن
صاحبه ليس مؤرخا. أقول لنعتبر هذا العمل وجهة نظر أمين معلوف، لربما جاز لنا أن
نطلق عليه الحروب الصليبية في عيون أمين معلوف انطلاقا من نصوص عربية.
رغم أن
العمل لا يدخل في جنس الرواية، إلا أن المؤلف، بمهارته الأدبية، برع في تقديم
رواية تاريخية للأحداث من بداية دخول الفرنج للمشرق سنة 1096م/ 490هـ، مرورا بدور
آل زنكي، ثم الأيوبيين، ثم المماليك الذين قضوا على الوجود الفرنجي في المشرق سنة
1291م/690هـ، عبر تبئير بعض الأحداث والشخصيات، في نسق سردي معين.
من
خلال هذا العمل سنلمس مجموعة من النقط التي ذكرت في مظان كثيرة، بيد أن براعة
المؤلف تكمن في طريقة تقديمها، من بينها إسهام تضارب المصالح بين الحكام
"العرب/المسلمين" في تسهيل مهمة "الفرنج" الاستيلاء على الشرق
العربي، بل إن الأمر وصل غايته في عهد الكامل (أحد الأيوبيين) الذي سلم القدس
لفرديريك في فبراير 1229 (Ed. j’ai lu, Paris,
2001, p. 262+) دون مبررات قوية وبكل
سهولة، ضاربا بعرض الحائط كل ما تم إنجازه واسترجاعها من طرف صلاح الدين في أكتوبر
1187، بعد أن مهد انتصار الحطين في يوليوز من نفس السنة الطريق لاسترجاع جزء كبير
من المدن المشرقية التي كان يحتلها الفرنج. (ص. 222 +).
تعرض
المؤلف أيضا للمجازر التي قام بها الفرنج
بعد دخولهم للمشرق، ولعل من أبشعها مجزرة مدينة المعرة (ص. 56 وما قبلها وما
بعدها). فضلا عن ذلك أبرز أن أهداف كثير من الصليبيين لم تكن خدمة المسيحية، بل
فقط الاستجابة لمصالح شخصية.
ركز
أيضا المؤلف على تعقد العلاقات التي جمعت بين كل الفاعلين على مسرح الأحداث:
العرب، بقية العناصر المسلمة، مسيحيي المشرق، الفرنج، وغيرهم، وفي هذا الإطار أورد
نصا للرحالة ابن جبير يستغرب فيه من استمرار العلاقات التجارية بين المسلمين وغيرهم
رغم ظروف الحرب !
في الخاتمة، يطرح المؤلف مجموعة من العناصر التي
تشكل في نظره معوقات أمام العرب، من بينها
ــ
حكام المناطق العربية كانوا دائما غير عرب
ــ عدم
قدرة العرب على تكوين مؤسسات خلافا للفرنج الذين استطاعوا ذلك حتى في المشرق
ليخلص
إلى أن السلطة المطلقة للحاكم المسلم أسهمت في غياب الحرية وفي تأخر الأفكار وعدم
انبعاث مدن تجارية
وبتحليل
نص آخر لابن جبير يرى المؤلف أن الفرنج انفتحوا على اللغة العربية وعلوم العرب
بينما رفض المسلمون ذلك فقد رأوا في ذلك خيانة للإسلام، يقول أمين معلوف بأنه في
الوقت الذي كانت فيه الحروب الصليبية بالنسبة لأروبا دافعا لثورة اقتصادية
وثقافية، دخل المشرق من خلال هذه الحروب
"المقدسة" في عصور طويلة من الظلام والانحطاط، فالعالم الإسلامي الذي
كان يتلقى الضربات من كل الجهات فضّل الانغلاق والتقوقع على نفسه فأصبح صداميا،
أقل تسامحا، عقيما... وفي الوقت الذي يواصل العالم فيه تطوره، أحس العالم الإسلامي
أنه مهمش ولا دور له في هذا التطور... لقد أصبح التقدم، الحداثة هي الآخر... أكان
لزاما عليه، لإثبات هويته، رفض الحداثة كرمز للغرب؟ أم الدخول في المغامرة
والانخراط في الحداثة مهما كانت تأثير ذلك على الهوية؟ (ص. 303)
فلا
يستبعد أمين معلوف أن يكون للحروب الصليبية دور في التأثير على المسلمين في تمثلهم
للآخر لغاية اليوم، وتحديد موقفهم منه، وهو ما يعني أن العربي مازال يعيش زمن
الحروب الصليبية، ويرى في كل لقاء مع الآخر وجها من وجوه تلك الحروب، لذا يشير
المؤلف إلى أن الكثيرين أطلقوا على جمال عبد الناصر: صلاح الدين، وبعض كتائب
المقاومة الفلسطينية كانت تحمل أسماء لها علاقة بالحروب الصليبية كفرقة حطين. بينما
يعيش الآخر زمنه زمن الحداثة.
أشير
إلى أن الكتاب صدرت طبعته الأولى سنة 1983، أي بُعَيد بقليل "الثورة
الإيرانية"، والحرب الأهلية اللبنانية، وانتشار الوهابية والأفكار المنغلقة
بفضل فورة النفط وعائدات البترول، وفي ظل استمرار الصراع العربي الإسرائيلي
ومحاولة البعض إلباسه لباسا دينيا... ولعل تركيز المؤلف على بعض التفاصيل تفهم في
ظل هذا السياق، خاصة عندما يؤكد مثلا أن البطل الحقيقي للصراع بين الفرنج
والمسلمين لضم مصر، لم يكن السلطان نور الدين زنكي ولا مملوكه صلاح الدين، بل كان
هو عم هذا الأخير شيركو، الذي غامر وناور وسابق وخطط، حتى تمكن من أن يصبح حاكما
لمصر ووزيرها في سنة 1169م ــ كان الخليفة الفاطمي حاكما صوريا فقط شأنه في ذلك
شأن الخليفة العباسي في بغداد ــ، قبل أن يتوفى ويترك الوزارة لابن أخيه يوسف بن أيوب
المعروف بصلاح الدين الأيوبي، هذا الأخير سيعمل رويد رويدا على الدخول في تمرد
هادئ طويل تجاه سيده نور الدين برفضه الإذعان لقراراته، وتفادي اللقاء به، مما
جعله يفك الحصار عن بعض المدن التي يحتلها الفرنج بمجرد علمه بتحرك زنكي لمساندته،
بل إن صلاح الدين عمد إلى ضم اليمن إلى نفوذه لجعلها ملجأ له ولعائلته إذا ما فكّر
زنكي في مهاجمة مصر، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد بدأ الحديث يروج عن تحالف
بين صلاح الدين وملك أورشليم/القدس ضد السلطان نور الدين زنكي (ص. 199). ووصل
التوتر بين الرجلين قمته لما أمر نور الدين صلاح الدين بإعلان نهاية الخلافة
الفاطمية، حيث رفض في بادئ الأمر؛ لأنه كان يرى أن ذلك سيجعل منه تابعا عاديا
لزنكي، بينما وجود الخليفة الفاطمي ــ ولو صوريا ــ يمنحه الشرعية كوزير لهذا
الخليفة على مصر. ومع ذلك سيضطر ابن أيوب إلى خلع الخليفة العاضد سنة 1174م الذي
كان على فراش الموت.
سارت
الأمور فعلا نحو القيام بحملة على مصر، غير أن الوفاة لم تمهل زنكي الذين أُعلن عن
وفاته يوم 15 ماي 1274. ومن حسن طالع صلاح الدين، كما رأى أمين معلوف أن أغلب
خصومه فارقوا الحياة تباعا، كملك أورشليم أمارك (Amaury)،
في 11 يوليوز من نفس السنة، أو اندحروا كامبراطور الروم عمانويل الذي انهزم سنة
1176 أمام قلج أرسلان الثاني. (ص. 206). ليصبح صلاح الدين أبرز مبارز في الميدان
ويجيد الاستفادة من الفرصة التي أتيحت له ويكبد الفرنجة هزيمة قاسية في معركة حطين
سنة 1187، التي فتحت له أبواب المشرق على مصراعيها.
غير أن
المؤلف لم يفته أن يؤكد على ارتكاب صلاح الدين خطأ فادحا بخصوص مدينة صور(ص. 226)،
التي أصبحت ملجأ لكل الفرنج، ذلك أنها ستصبح لاحقا مدخلا للفرنج القادمين من أوربا
للدخول إلى المشرق، وهو ما تسبب في استسلام عكا للفرنجة في يوليوز 1191، بعد عامين
من الحصار، ولما يمض إلا قليل عن الانتصار الكبير لحطين ولدخول القدس !! لعل بهذا يحاول المؤلف
تعديل صورة صلاح الدين وإرجاعها لبعدها الإنساني خلافا للهالة التي رسمت له في
المخيال الجماعي حتى أصبحت لدى العرب /المسلمين ما يسمى عقدة صلاح الدين فضلا عن
عقدة الماضي ككل ذلك الماضي الذي صوره الخطاب الرسمي ماضيا زاهرا كله إشراقات يسير
في خط مستقيم
* نشر هذا المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الخميس 23 ماي 2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق