الثلاثاء، 12 أغسطس 2014

بستان أطفال.. من زنك ونار، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



بستان أطفال.. من زنك ونار
عبد الواحد بنعضرا


يتعلق الأمر بملحق يوم الجمعة من جريدة التجديد، وهو من خلال عنوانه "بستان الطفولة" موجّه للأطفال. غير أن المطلع على أعداد هذا الملحق لن يجد أية علاقة بينه وبين الأطفال إلا من حيث شحنهم بخطاب إيديولوجي، وبلغة أكبر من سنهم. ففي "حكايات احمد"، نجد عبارات يتداولها أصدقاء صغار مثل: "... كان عليك أن تقف لحظة تأمل لتساءل نفسك عما عملته وما جنيته في السنة الفارطة من أفعال وأعمال فتستغفر الله على السيّء منها وتصلحها.." (2 يناير 2004).
"أعوذ بالله من غضب الله، نستغفر الله عمّا اقترفناه في حق زملائنا" (19 دجنبر 2003).


طبعا لا يوجد عند أصحاب "التجديد" شيء اسمه البراءة، ولا حتى شيء اسمه الطفولة، فأن يكون الإنسان طفلا أو شيخا سيان، المهم عندهم هو الشحن حدّ الامتلاء، ولا يهم، فنفس الخطاب الموجه للكبار يصلح تماما تماما للصغار، فالترغيب للكبار هو ذاته للصغار، لا فرق، والترهيب هو هو لا اختلاف في ذلك، هكذا يؤنّب أحمد أصدقاءه: "كفى توقفوا عن القيام بهذا الفعل القبيح.. هل أنتم حقا مسلمون؟" (19 دجنبر 2003).
وبالمقابل نجد أحمد في حكاية أخرى يقول: "هذا خطأ.. أنت مؤمن بالله وتقيم واجباتك الدينية وتريد ان تدخل الجنة.. أليس كذلك" (15 يناير 2004).
إن أخطر ما في هذا الأمر هو أن الطفل الصغير لا يستوعب جيدا معنى الجنة والنار كما يفهمها الكبار، وبالتالي فإن الصلة التي ستربط بين فعل الخير وبين المقابل ستصبح علاقة لازمة، أي أنه لن يقوم بفعل خيِّر إلا إذا كان وراءه ربح ما، سيتعلّم الطفل كيف يكون انتهازيا بدل فعل الخير. أترى هذا ما قصده أحمد بقوله لأحد اصدقائه: ".. لتحقيق طموحاتنا الدينية والدنيوية.." (2 يناير 2004). إني أفهم معنى (طموحات دنيوية) ولكني لا أفهم ما يريده من عبارة: "طموحات دينية"؟ !! 

غير أن الأنكى في حكايات أحمد هو غياب العنصر الأنثوي، فلا مجال لا في القسم ولا في الشارع لأن تجد طفلة في هذه الحكايات، وطبعا لا يستغرب هذا من أصحاب التجديد، فلا مجال لوجود الأصدقاء ــ ولو كانوا أطفالا ــ من ذكور وإناث.  أهناك حقد أكثر من هذا يمكن أن يكّنه أحد للأنثى حتى لو كانت صغيرة، بل وفي مجرد رسوم فقط !!!
أهذا ما بشرّتم به بستان أطفالنا، ورد من زنك وأزهار من نار.
وفي إصرار أصحاب التجديد على الحجاب، نجد في كل أعداد هذا الملحق صورة لطفلة لا تبدو ملامح وجهها جيدا، بقدر ما يبدو غطاء رأسها الأبيض، وتحت هذه الصورة دعاء (دعاء الريح، الدعاء لمن صنع معروفا...) وكأن مهمة الأنثى عموما هي الدعاء والتحجب، بينما دور الذكر هو العلم والعمل و.. و..
ولا يوجد في هذا الملحق أي جو من المرح، فكل شيء معد مسبقا بكيفية تمكن من شحن الطفل، حتى الحكايات لا تنجو من هذا الأمر، فهي حكايات لا تنتمي إلى القصص العالمي أو المغربي الخاص بعالم الطفولة، ولكنها تنبع من كهوف مظلمة عشّش فيها التحجر وباض وفرّخ، وباب الحكايات هذا يسمى "قصة وعبرة"، وستجد أن العبرة تحضر ــ ولو لم تناسب سن الأطفال ــ بينما تغيب القصة. ففي حكاية "ورقة النقود" نجد مثل هذه العبارات: "أدهشني ردها أكثر من ذي قبل، فسألتها بلهفة: وكيف ذلك؟ ! أجابت [ورقة النقود] بهدوء الواثق من نفسه، من اكتسبني من حلال أو أنفقني في حلال كنت سعادة له في الدنيا والآخرة، ومن اكتسبني من حرام وأنفقني في حرام كنت وبالا عليه في الدنيا والآخرة... ظننت أن الغرور أصاب ورقة النقود فقلت لها: إن الناس تجمعك وتنفقك في الدنيا فما دخلك بالآخرة. أجابت بسرعة وكأنها تستغرب سؤالي: وهل الدنيا إلا مزرعة للآخرة" (23 يناير 2004).
وهكذا القصة/العبرة، لا وجود فيها لعناصر القصة أو الحكاية. بل شحن في شحن، وقل نفس الشيء عن قصة "الخياط وحيلة السلطان" وقصة "المكافأة". 

وكما قلت آنفا فأصحاب التجديد لا يعرفون شيئا اسمه البراءة، ولا الطفولة، فسنجد في كلمة البستان عند اقتراب بداية السنة ما يلي: "إن بداية السنة الميلادية الجديدة تحمل معها دلالات يجب أن لا تمر علينا دون وعي، فالاحتفالات، و"بابا نويل" وشراء الحلويات ليلة نهاية السنة، وشجرة العيد المزينة بالمصابيح وغيرها، كلها دخيلة، وليست من ديننا الحنيف (...) فلنحافظ على صلاتنا وزكاتنا، وبرّ والدينا، أما مظاهر الاحتفال التي هي عادة دخيلة غريبة، وتحريف لما جاء به نبي الله عيسى. فنحن مأمورون بتصحيحها لا باتباعها وتقليدها ولو كانت خاطئة. وكل عام وأنتم على ثبات على الحق. وعزيمة على الرشد" (26 دجنبر 2003).
عند هذه النقطة تكون عزيزي القارئ قد تأكدت أن بستان الطفولة لا علاقة له بعالم الطفولة، وأنه بستان مليء بالألغام ما إن يدخله طفل من أطفالنا حتى تنفجر عليه، وكأن أصحاب التجديد لم يكونوا أطفالا ولم يلعبوا صغارا، لهذا لن تعثر في بستانهم الملغّم على ألعاب رياضة (وهي غائبة حتى في الجريدة الأم !!) أو استطلاع لمكان يستهوي الأطفال (كحدائق الألعاب) أو حوار مع شخصية محبوبة عند الأطفال (فنان، رياضي، كاتب قصص الأطفال..)، أو حكايات عالمية للأطفال. وطبعا دون أن تنتظر صفحة للعلوم فهذا ما لا تتوقعه حتى في امتحانات اللغة العربية في مدارسنا، فامتحانات هذه المادة دائما تتحدث عما تم تجاوزه، بعكس مادة الفرنسية ــ مثلا ــ التي تجد امتحانها يتطرق لموضوع البيئة أو العلوم أو بصفة عامة لما يتوجه بالتلميذ نحو المستقبل، فكيف تتوقع فقرة علمية في بستان "التجديد".
ويبقى المشكل الأكبر هو غياب "إعلام مغربي" خاص بالطفل يمكن أن تواجه به مثل هذه "الملحقات"، ففي غياب مجلات شهرية، وملحقات صحفية خاصة بالطفل ضمن الجرائد المغربية، تبقى الساحة مفتوحة أمام أصحاب التجديد لزرع ألغامهم في مستقبل أطفالنا وسرقة أحلامهم.
وكم هو محزن أن يُقيد أطفالنا بمثل هذا الخطاب الذي يحد من قدراتهم وطاقاتهم الإبداعية، والفرق واضح بين طفل هو كالشيخ في هيئة صبي صغير، وبين طفل يعيش طفولته كما يجب بدون قيود حيث يُمنح فرصا لإبراز مواهبه وإمكاناته. أتذكّر شيئا مما نظمه في شبابه الشاعر الهندي رابندرات طاغور حيث يقول:
إن الطائر المأسور في قفصه
والطائر الحر في غابته
التقيا في الوقت الذي حدده القدر
فقال الطائر الحر: تعال يا حبيبي،
ولننظر جميعا إلى الأدغال،
فأجابه الطائر المأسور متوسلا:
ابق معي، ولنعش جميعا في هذا القفص،
فقال طائر الغابات: ليس بين قضبان
القفص محل لنشر أجنحتي،
فأجاب سجين القفص: وا أسفاه ليس في السماء
محل أستطيع أن أقف عليه.

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الأربعاء 4 فبراير 2004.       
   

حزب العدالة والتنمية وحركة 20 فبراير نقاش هادئ لادعاءات عبد العلي حامي الدين، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



حزب العدالة والتنمية وحركة 20 فبراير
نقاش هادئ لادعاءات عبد العلي حامي الدين 1/2
عبد الواحد بنعضرا
خرج عبد العلي حامي الدين مؤخرا في بعض المنابر الإعلامية ليؤكد أن حزبه حزب العدالة والتنمية كان ضمن فعاليات حركة 20 فبراير. وهذا المقال هو تفاعل مع خرجة الرجل هذه.
من الأبجديات التي يعلمها كل سياسي أن المواقف الرسمية للأحزاب أو لأية هيئة سياسية تُستخرج من بياناتها السياسية، وبعد ذلك يمكن الرجوع لمواقف قيادييها. وبالرجوع لبيانات حزب العدالة والتنمية، فإننا لا نجد أي بيان حول المشاركة مع حركة 20 فبراير. قلتم في مجلة زمان: "بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، كان هناك اختلاف واضح داخل قيادتها، وعلينا أن نميز بين موقف الأمين العام وموقف المجموعة التي أصدرت بيانا يوم 17 فبراير ونزلت إلى الشارع يوم 20 فبراير، وضمنها 4 أعضاء من الأمانة العامة و10 كتاب جهويين وعدد من المسؤولين الإقليميين" (عبد العلي حامي الدين، حوار مع مجلة زمان، العدد5، فبراير ــ مارس 2014، ص. 36).
أقول لكم بأن خروج بضعة أفراد لا يُعدّ مقياسا للقول بأن الحزب كان مساندا لحركة 20 فبراير. ثم إن عدم مشاركتكم في اتخاذ قرارات الحركة لا من خلال جموعها العامة ولا من خلال اللجن، والاقتصار على المشاركة في المسيرات كأنها خروج للقيام بنزهة، يفرغ خروج بعض أعضاء حزبكم، من أي معنى، لأنه لا يمكن اختزال الحركة في مجرد مسيرات أو وقفات.
بالمقابل، فإن الجناح الدعوي للحزب، أي حركة التوحيد والإصلاح كان واضحا في بيانه الرافض للخروج مع الحركة، وحول هذا البيان يقول امحمد الهيلالي نائب رئيس الحركة: "بخصوص البيان أحب أن أوضح أنه اتخذ بعد مناقشة مضامينه بدأت يوم 19 فبراير الذي يزامن انعقاد المكتب التنفيذي والذي جدّد قرار رفض المشاركة بالإجماع وقرّر إبقاء المكتب في حالة انعقاد على أن يؤجل إصدار البيان المذكور إلى غاية تقييم ما سوف يقع يوم 20 فبراير وقد صدر بالفعل يوم الأحد مساء" (امحمد الهيلالي، حوار مع جريدة التجديد، عدد الجمعة/الأحد 4 – 6 مارس 2011).
إذن فالبيان الرسمي الذي بين أيدينا يعكس رفض مساندة حركة 20 فبراير رسميا من طرف حزب العدالة والتنمية. يبقى السؤال: ما الغاية من خروج بعض أعضاء الحزب ضمن مسيرات الحركة؟ يستشف من كلام الهيلالي السابق، أن الحزب تردّد في إعلان موقفه. من الممكن قراءة هذا الأمر بشكل إيجابي واعتبار هذا التردد يدخل ضمن واقعية الأشياء، ويمكن بالعكس توصيفه بكونه انتهازية في التعامل مع هذه الحركة، إما في انتظار الضوء الأخضر من جهات معينة، أو القصد منه هو البحث عن شرعية تاريخية، وهو شيء لن تستطيعوا إليه سبيلا لأن حركة 20 فبراير مبادرة يسارية، بتنسيق بين مجموعة من التيارات والأحزاب اليسارية.
أما كلامكم عن أنكم الحليف الطبيعي للحركة، فهو محل نظر: إذ قلتم: "أن العدالة والتنمية رغم الخلافات داخله، فإنه كان حليفا موضوعيا لحركة 20 فبراير، في حين أن تحالف الأحزاب الثمانية، قبيل الانتخابات التي جرت في 25 نونبر 2011، لم يكن فقط، ضد "البيجيدي"، وإنما أيضا ضد حركة 20 فبراير" (عبد العلي حامي الدين، أخبار اليوم، عدد الأربعاء 26 فبراير 2014).
أذكّركم أنكم تحالفتم مع أحد مكونات تحالف الأحزاب الثمانية لتشكيل حكومة بنكيران2، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن الحركة لم تقل فقط بمحاربة الفساد والاستبداد، بل كانت ترفع في بدايتها، أيضا، شعار الملكية البرلمانية، أي، أن السيادة ينبغي أن تكون للشعب، وأن الشعب مصدر كل السلط، يمارسها عن طريق ممثليه الذين ينتخبهم عبر انتخاب حر ونزيه، ما يعني أن كل السلطة التشريعية للبرلمان، وكل السلطة التنفيذية "للحكومة"، والقضاء سلطة مستقلة يرأسها قاضي منتخب.

حزب العدالة والتنمية وحركة 20 فبراير
نقاش هادئ لادعاءات عبد العلي حامي الدين 2/2
عبد الواحد بنعضرا
ما أريد أن أصل إليه، عوض هذه الادعاءات بخصوص العلاقة بين الحزب والحركة. هناك عمل أهم، ينتظر الحزب، إن كان فعلا جادا في ترسيخ الديمقراطية في المغرب، وهو العمل على سمو الشرعية الشعبية على أية شرعية أخرى كيفما كانت، وهذا مدخل أساسي بالنسبة لي إن كنتم ترغبون في الإصلاح. وحبذا لو أنكم دافعتم عن تعويض مجلس الحكومة ومجلس الوزراء بمجلس واحد هو "مجلس الدولة" الذي اقترحه حزبكم في مذكرتكم حول الدستور، إذاً لكان بالإمكان إيجاد صيغة يصبح فيها هذا المجلس ينعقد تحت رئاسة الملك مرتين في الشهر ورئاسة رئيس الحكومة مرتين في الشهر، في أفق أن تصبح، تدريجيا، كل السلطة التنفيذية من صلاحيات الحكومة المنبثقة عن البرلمان المنتخب.
في أحد لقاءات أوراش المواطنة الذي انعقد في مدرسة الحكامة والاقتصاد بالرباط يوم السبت 19 أكتوبر 2013، حيث كان هناك لقاء جمع شباب بعض الأحزاب السياسية وبعض طلاب المدارس العليا، كان من بين الحاضرين عزيز بنبراهيم، رئيس مقاطعة باب المريسة، وهو من حزب العدالة والتنمية وهو أيضا برلماني عن دائرة سلا... تدخلتُ للتعقيب على مداخلته، حيث قلتُ له أنني شخصيا أعطيت لحزبكم فترة سماح طويلة، رغم اختلافي معكم، فلم أدبج أي مقال ينتقدكم منذ تشكيل حكومة بنكيران1، إلاّ في الآونة الأخيرة، والسبب بسيط، هو أن الحزب يتمتع بشرعية صناديق الاقتراع، ومن تم فإنجاح هذه التجربة هو إنجاح لنا جميعا، غير أن الكيل قد طفح من سوء تدبيركم للشأن العام، وبأن أكثر الأشياء التي تعاب على الحزب عدم إسهامه في سمو الشرعية الشعبية.. وذكرتُ له محطات عديدة بدءا مما قاله بنكيران في يونيو 2011 بكونه يرفض الملكية البرلمانية وأنه مع الإمامة!! وصولا إلى حكومة بنكيران 2 والتي عقدت المجلس الوزاري قبل التنصيب، وهو ما يعني إهمال قضية الشرعية الشعبية حيث كان من المفروض تنصيب الحكومة، من طرف البرلمان، بعد تعيينها... بالمقابل ذكرتُ أنه لا يحق لأي حزب قال بأن الدستور حقق كل مطالبه أن يحدثنا عن التماسيح أو العفاريت، لا حزب العدالة والتنمية، ولا حتى حزب الاتحاد الاشتراكي، إن أمسك بالسلطة مستقبلا بحكم أنه قال أن الدستور حقق 95 في المئة من مطالبه الدستورية... وبالتالي على بنكيران تحمل مسؤوليته..
وهذا ما أعيد التأكيد عليه في هذا المقال، إن كنتم جادين في الإصلاح، فهذا هو المدخل: العمل على سمو الشرعية الشعبية، عوض إعطاء الدستور تأويلا محافظا من خلال مجموعة من الإجراءات أو من خلال القوانين التنظيمية. وإذا لم يكن ذلك ممكنا فإن عليكم الاعتذار للشعب المغربي على ادعاءكم بخصوص الصلاحيات التي يمنحها الدستور الحالي للحكومة.
لقد تعودنا من حزب العدالة والتنمية التباس المواقف وتضارب الآراء، ولذا فإننا لا نفهم القول بأن حزب العدالة والتنمية حليف طبيعي لحركة 20 فبراير إلا من خلال إجراءات واضحة، وإلا فإننا سنجد أنفسنا على الدوام في مواقف مشابهة لما عبّر عنه الأمين العام السابق للحزب بخصوص الفصل 19، في أحد حواراته: وهذا هو سؤال المستجوب: أريد أن أعرف بالضبط الموقف من تعديل الفصل 19 وتقليص السلطات الملكية لصالح السلطة التنفيذية والتشريعية؟ وهذا جواب سعد الدين العثماني: "يمكن أن نعيد التوازن بين السلط، دون الحاجة إلى تعديل الفصل 19، فيمكن أن تقوى سلطات الوزير الأول، سلطات الحكومة والبرلمان، وتساعد على تقوية سلطات القضاء" (سعد الدين العثماني، حوار مع جريدة الأيام، العدد 274، 24 مارس - 6 أبريل، 2007) . وبه تم الإعلام والسلام.

* نشر المقال على جزأين بجريدة الأحداث المغربية، نشر الجزء الأول في عدد السبت/ الأحد 15 – 16 مارس 2014.

ونشر الجزء الثاني يوم الاثنين 17 مارس 2014

الأحد، 10 أغسطس 2014

الدرس الفلسفي : هل تؤدي الفلسفة دورها الحقيقي ؟، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



 

الدرس الفلسفي : هل تؤدي الفلسفة دورها الحقيقي ؟

عبد الواحد بنعضرا



يحكي سورين كيركغارد قصة رجل كان يتفرج على واجهات المحال التجارية بينما هو يسير في الشارع، يصل الرجل مرة إلى واجهة فيها لافتة كتب عليها "هنا تصنع الفلسفة"، بطريقة ما يعرف الرجل أن هذا ما يريده، يدخل إلى المحل وشعور من الأمل يملأ جوانحه، وعندئذ فقط يجد أن ذلك المكان هو محل لرسم لافتات المحال، وأن اللافتة وحدها هي المخصصة للبيع. أوردت هذه الحكاية التي يرويها هذا الفيلسوف، قبل أن يجري القلم بهذه الكلمة، لأنها تلخص حالة الفلسفة اليوم، وخاصة في مؤسساتنا التعليمية، المادة: "مادة الفلسفة" هذا نعم، ولكن المضمون لا علاقة له بالعنوان، فكما هو ملاحظ، فقد تحولت حصص هذه المادة إلى مواضيع في الدين والعقيدة، وبالتالي صارت ملحقة بمادة التربية الإسلامية وتابعة لها، وأول ما يصادفه أستاذ مادة الفلسفة في بداية السنة الدراسية السؤال التالي: هل الفلسفة تؤدي إلى الإلحاد؟ ولن نعدم من يجيب تلاميذه بالنفي، وكأنه أصاب السؤال في مقتل ووأد الفخ في المهد، ومنهم من يذكر أسماء فلاسفة مسلمين كابن رشد وغيره... وهم بهذا يجعلون من الفلسفة مادة عقائدية، وطبعا هذا ليس من ضعف حجة الأساتذة في الجواب ولا من فـيالــة رأيهم، ولكنه في غالب الأحيان الرغبة في دفع المركب إلى شط الأمان وبأبخس الأثمان، ولكن الفخ قد نصب، والسهم قد انطلق من قوسه ولن يرجع، وستستمر الحصص كلها على هذه الشاكلة: نقاشات دينية ومواضيع دوغمائية، وبهذا تتحول الفلسفة إلى أجوبة جاهزة وتقريرية ويقينية وإلى مطلقات... وهذه هي ألد أعداء هذه المادة، فالأصل في الفلــسفة أنها تساؤلات مـتلاحقة وما يكاد الفيـلسوف يظن أنه وجد جوابا حتى يـلقاه سؤالا آخر، وفي هذا الإطار يقول الفـيلـسوف كارل ياسـبرز : "إن كـلمة فيلـسوف اليونانيـة (philosophos) مركـبة بالتـقابـل مع sophos، فالكـلـمة ( فيلسوف) تعني ذلك الذي يبحث عن المعرفة، في مقابل ذلك الذي يمتلك المعرفة ويدعى عالما، هذا المعنى مازال مستمرا إلى اليوم. إن جوهر الفلسفة هو البحث عن المعرفة وليس امتلاكها (...) إن الأسئلة في الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة ، كل إجابة تصير سؤالا جديدا"
 )Karl Jaspers, introduction à la philosophie, pp. 10 - 11).
 هذه هي الفلسفة، بحث مستمر وأسئلة تتلاحق، ولا وجود فيها للمطلق أو الجاهز، والتفكير الفلسفي هو تفكير تساؤلي إشكالي ونقدي، فالفلسفة تدفع صاحبها إلى التساؤل ونقد الأفكار أو ما يعبر عنه بروح النقد، وهنا تطرح إشكالية حقيقية ألا وهي تدريس مادة الفلسفة والتربية الإسلامية في مستوى واحد؛ إذ كيف لتلميذ أن يجمع بين المطلق و النسبي، بين مادة تجعل كل شيء مطلقا ومادة تجعل كل شيء نسبيا، أما عندما يقرأ التلميذ درسا في مادة التربية الإسلامية موضوعه الإعجاز العلمي في القرآن فهذا معناه إعلان خطل وبطلان المواد العلمية من فيزياء وكيمياء وعلوم طبيعية ورياضيات... إضافة إلى مادة الفلسفة، والمطلوب تقديم عقل التلميذ لاستقالته.. وهناك مبدأ في الميكانيكا الكلاسيكية يقول إن الجسم الذي يخضع لقوتين لهما نفس الشدة ومنحيان متعاكسان يبقى ساكنا و جامدا في مكانه، ولربما هذا يفسر لنا لماذا العقل لدينا جامد وثابت أو بالأحرى مستقيل، وعلى ذكر المواد العلمية أتساءل لماذا لا يطرح نفس المشكل؟ لماذا لا يتجرأ التلاميذ على مناقشات دينية أثناء حصصها؟ فتتحول هذه المواد أيضا إلى ملحقات لمادة التربية الإسلامية؟ مع أن هذه المواد لو فتحت فيها مثل هذه النقاشات لما عرفت لها النهاية، وعلى سبيل المثال لا الحصر: تصور الكون في الفيزياء ومفهوم الزمكان النسبي عند آينشتين المخالف لتصور الكون كما في النصوص، ونظرية داروين في العلوم الطبيعية وغيرها... وإذا علمنا أن بعض التلاميذ في المرحلة الابتدائية يرفضون الغناء لأن آباءهم قد أدخلوا في روعهم أن الغناء والموسيقى حرام، ووضعنا أمام أعيننا كل أحكام القيمة السلبية التي يلصقها الإسلامويون بالفلسفة واختزالها في البحث في قضية الوجود ــــ مع أن الجانب الأكثر أهمية في الفلسفة هو البحث عن وسائل المعرفة أو الطرق والمناهج التي يتم بها التوصل إلى المعرفة وهذا ما ميز الفلسفة الأوروبية خاصة مع كانت و ديكارت، إضافة إلى الجانب المتعلق بالحرية والعدالة أو بصفة عامة كل ما له علاقة بحقوق الإنسان ـــ وذلك ناتج عن مواقفهم المعارضة للعقلانية وحقوق الإنسان، أدركنا مدى ما سيتعرض له التلميذ من شحن وضغوطات وتهييج تجاه مادة الفلسفة، عدا ما سيقوم به كثير من أساتذة مادة التربية الإسلامية وبعض أساتذة المواد الأخرى ـــ حتى العلمية منها ـــ من المحسوبين على الإسلامويين من تحريض للتلميذ ودفعه إلى تمييع مادة الفلسفة وخلق البلبلة فيها بتحويلها إلى حلقة دينية. وبعد، فبالنظر إلى ما تعرفه الفلسفة من تمييع لمواضيعها وانحراف عن مقصودها، وما جرى في الموسم المنصرم من مهازل في تدريسها في مستوى الجذع المشترك، أتساءل هل هناك نية حقيقية كي تؤدي الفلسفة دورها وتساهم في جعل التلميذ ينزع إلى النقد والتساؤل، أم أنها مجرد لافتة فقط؟ أليس أولى الشروط اللازم توفرها، كيما تحقق هذه المادة أهدافها، بعض من الجدية في التعامل مع دروسها سواء من طرف التلاميذ أوالأساتذة أو الوزارة الوصية ؟

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الأحد 21 غشت 2005

التسامح هل يمكن دون معرفة الآخر؟، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



التسامح هل يمكن دون معرفة الآخر ؟

عبد الواحد بنعضرا

ونحن نتناول كثيرا موضوع التسامح بين الأديان والشعوب وتقام اللقاءات الفكرية هنا وهناك بين النخب، ولم يستطع أن ينتشر التسامح إلا بالقدر الذي تنتشر به أغاني الإعلانات التلفزية والتي تصير مع الوقت لازمة لا طعم لها ولا مذاق.. والحال أن المعني بهذا وهي الشعوب تكاد تجهل الكثير بعضها عن البعض، أما النخب فهي ليست بحاجة للقاءات بقدر ما أن عليها مسؤولية كبيرة تتجلى في العمل على وصل ما انقطع بين الثقافات والحضارات وتقريب ما بعد، ومن الطبيعي أن يتم ذلك عبر محاور عدة: التعليم، الإعلام، الكتاب، المحاضرات والندوات واللقاءات مع المواطنين.. ويجمع هذه المحاور موضوع أساسي يتعلق بدراسة مقارنة للأديان ــ خاصة ــ ويشكل كتاب فراس السواح : «مغامرة العقل الأولى» مادة للاشتغال- إلى جانب مؤلفات أخرى -، وهذا ما سيجعل العُصاب الديني تخفت حدته إذ سيكتشف الإنسان المهووس دينيا أن خصائص الأديان متشابهة وأن عناوينها الرئيسية مشتركة، تماما مثلما سيكتشف من جهة أخرى أن كل دين - بعد توظيفه سياسيا- على مر التاريخ عرف قراءة رسمية أرثوذوكسية وقراءات أخرى نعتتها الأنظمة الحاكمة بالبدعوية والهرطقية.. إننا عندما نفترض إمكانية التسامح بين إنسان وآخر يجهلان عن بعضهما الكثير، فإننا لا نعدو نكرر صفحة من صفحات تاريخ قد مضى: أي التسامح كمِنّة على الآخر أو هبة تجود بها عليه من موقع القوة والتعالي، وبإمكانك تحويلها إلى نكاية به أو تنكيل حسب الظروف.. ومفهوم «أهل الذمة» يشكل عنوانا من بين عدة على ما قلت. إن التسامح الذي ننشد هو تسامح الند للند، باعتراف الإنسان بالقيمة النسبية لثقافته وحضارته،  وتلعب نظرية التناص (intertextualité) دورا مهما بهذا الخصوص بتأكيدها على أن كل نص هو أضمومة أو تركيب لمجموعة من النصوص السابقة، وعلى أنه لا يوجد نص ينطلق من فراغ، مما يحدّ من غلواء ادعاء البعض أنهم يملكون كل الحقائق المطلقة، ويمكنهم من الانفتاح على الآخر وعلى ثقافته بالاعتراف بنسبية تلك الحقائق.. ومن المفكرين الذين سبق لهم أن نبهوا على هذه المسألة، أي ضرورة معرفة الآخر من أجل احترامه والتعايش معه بسلام، الفيلسوف الوجودي Karl Jaspers إذ يقول: «وربما فزعنا في كل لحظة من تنوع القناعات المتصارعة، فإذا وجدنا أنفسنا إزاء قناعة غريبة معادية وجب علينا حتما أن نحل المسألة الأساسية: هل نقبل أن نكون جميعا بشرا، نعم أم لا؟ فإن كان نعم، فلا يحق لنا أن نعتبر الذين يؤمنون بغير ما نؤمن به أنهم أعداؤنا وأن نهملهم وندعهم لمصيرهم البائس. ولا يحق لنا أيضا اعتبارهم غير موجودين، أو أن نتمنى إبادتهم. ولكننا، في تلك الحالة، نطلب من أنفسنا ما قد يبدو لنا غير معقول: فأنا أوقف، بالفكر، الحقيقة التي هي (حقيقية - عندي)، حتى أسعى إلى الإسهام في إمكانات الفكر والشعور، لدى الآخر وأن أغدو الإنسان الذي تكون فيه هذه الإمكانات واقعا، وبهذه المناسبة نقوم بتجربة تربطنا: إننا نكتشف أننا نحتاج إلى الفكر بالنسبة إلى الآخر، وإلى التفكير مع الآخر، حتى نصبح أكثر وثوقا بأنفسنا» (نهج الفلسفة، ص: 86). إن الإنسان الذي يرفض الاطلاع على فكر ودين الآخر، لأنه يخشى أن يزعزعه ذلك عن عقيدته، لإنسان فعلا يفتقد الثقة بنفسه، إنه في مهب الريح، وإيمانه إيمان العجائز، يمكن أن يتبخر بقراءة كلمة، ويمّحي بجرة قلم... وماذا لو كان هذا الإنسان جاهلا حتى بنفسه، ماذا لو كان عدوا لجسده، غير متصالح مع ذاته، هل يمكن أن يكون متسامحا مع غيره، أليس فاقد الشيء لا يعطيه؛ إنه في الوقت الذي اكتشفت فيه البشرية قارة سادسة وهي قارة الجسد، مازال الإنسان المسلم يجهل الكثير من هذه القارة ويحتقرها وينسب إليها كل مشين وعائب ومهين، هذا الإنسان الذي يعذب وينكل جسده ويحرمه من أبسط ضرورياته، ويرفض الغناء والموسيقي، بل ويرفض حتى مصافحة يد الجنس الآخر، ويعيش في حرب دائمة مع ذاته، ويفتقد السلام والتسامح معها، هل يمكن أن يكون متسامحا مع الآخر؟ أليست هذه إشكالية أخرى تسبق أو توازي في إيجاد الحل لها إشكالية التسامح مع الآخر؟ وأخيرا، أليس الإطلاع على فكر مختلف كنز كبير، وحياة أخرى يعيشها الإنسان وعمر طويل يضاف إلى عمره، وكما يقول ميخائيل نعيمة: كلما وضعت يدي في يد ما لمستها من قبل قلت: تبارك الله! فتح جديد وكنز لا نفاذ له...


* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الخميس 16 يونيو 2005

السبت، 9 أغسطس 2014

ما بعد الحداثة، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



أين يمكن أن تتجلى مظاهر ما بعد الحداثة في الدين، تتجلى في نقد التوظيف السياسي للدين (الإسلام دين ودولة مصحف وسيف) وإلى إزالة كل ما يمس بروحانية التدين، أي هدم الدين السياسي من أجل بناء الدين الفردي عبر أنسنة التدين، حيث يصبح الدين مسالة شخصية، واختلاف الأفكار والأديان ضرورة، غير موجب للعداء والقتل.

ما بعد الحداثة
عبد الواحد بنعضرا
إن أصعب شيء وأخطره، ألا يستفيد الإنسان من الحوادث التي تمر حوله، وألا يستوعب الدرس، أقول هذا الكلام بمناسبة المقالات والردود التي كتبت بعد 16 ماي منددة بالأعمال الإرهابية حيث أن بعض هذه المقالات ــ وهي بقلم أناس حداثيين ــ تستنكر ما وقع ولسان حالها يقول، نحن مسلمون فلماذا فعلتم بنا هذا، وبعضها لم يبق له إلا أن يردّد الشهادتين حالفا بأنه مسلم، والحال أنهم بهذا يبررون قتل الأبرياء من غير المسلمين من حيث لا يشعرون، وأنهم عوض أن يجعلوا من الظرفية الحالية نقطة لانطلاقة عهد جديد (نطلق عليه ما بعد الحداثة) إذا هم يتراجعون، هذا طريق نسميه عن حسن نية، سياسة إمساك العصا من الوسط، ونسميه عن يقين سياسة التقية.
وإذا كنا نتحدث عن مغرب الحداثة، فالذي نؤكده أنه لا يمكن أن تتحقق الحداثة إلا إذا أسسنا لما بعد الحداثة، فهي علاقة جدلية بين كلا المفهومين، يقول جان فرانسوا ليوتار: "لا يمكن لعمل أن يصبح حداثيا إلا إذا كان ما بعد حداثيا أولا، وما بعد الحداثة بناء على هذا الفهم ليست الحداثة في نهايتها بل في حالة الميلاد، وهذه الحالة دائمة"(1). فما بعد الحداثة هو نقد متجدد مستمر للحداثة، فالحداثة الحقيقية هي دائما ما بعد حداثية.
أين يمكن أن تتجلى مظاهر ما بعد الحداثة في الدين، تتجلى في نقد التوظيف السياسي للدين (الإسلام دين ودولة مصحف وسيف) وإلى إزالة كل ما يمس بروحانية التدين، أي هدم الدين السياسي من أجل بناء الدين الفردي عبر أنسنة التدين، حيث يصبح الدين مسالة شخصية، واختلاف الأفكار والأديان ضرورة، غير موجب للعداء والقتل.
وإن كان هناك مغاربة ليسوا مسلمين أو لادينيين، فإن إنسانيتهم تفرض علينا وعلى الجميع احترام أفكارهم وعقائدهم.
من اللحظات الجميلة التي عشتها مع الفيلسوف الوجودي كارل ياسبرز Karl Jaspers في "نهج الفلسفة" هذه اللحظات: "ربما فزعنا في كل لحظة من تنوع القناعات المتصارعة، فإذا وجدنا أنفسنا إزاء قناعات غريبة معادية وجب علينا أن نحل المسألة الأساسية: هل نقبل أن نكون جميعا بشرا، نعم أم لا؟ فإن كان نعم، فلا يحق لنا أن نعتبر الذين يؤمنون بغير ما نؤمن به أعداءنا وأن نهملهم وندعهم لمصيرهم البائس. ولا يحق لنا أيضا اعتبارهم غير موجودين، وأن نتمنى إبادتهم. ولكننا في تلك الحالة، نطلب من أنفسنا ما قد يبدو لنا غير معقول، فأنا أوقف بالفكر الحقيقة (التي هي حقيقة عندي) حتى أسعى إلى الإسهام في إمكانات الفكر والشعور لدى الآخر وأن أغدو الإنسان الذي تكون فيه الإمكانات واقعا. وبهذه المناسبة نقوم بتجربة تربطنا، إننا نكتشف أننا نحتاج إلى التفكير مع الآخر، حتى نصبح أكثر وثوقا بأنفسنا"(2).
عندما يطرح كارل ياسبرز هذا السؤال: هل نقبل أن نكون جميعا بشرا؟ ويكون الجواب نعم، ما المقصود بالإنسان: اللحم والعظم؟ أبدا، عندما نموت: الأجساد تبلى والعظام تصبح رميما فما الذي يبقى مني ومنك؟ أفكارنا إن كانت لنا أفكار. ما الذي بقي من أرسطو، سوفوكليس، موسى، المسيح، محمد بن عبد الله، ابن رشد، كارل ماركس... بقيت أفكارهم، خلودهم كان أفكارهم. 
إنسانية الإنسان إذن تتجلى في فكره، والكلام عن الإيمان بإنسانية الإنسان إذن تتجلى في الإيمان بحقه في الاختلاف في الأفكار وبالتالي في العقائد والأديان، بل إن الدستور المغربي كان رائدا حين نص في الفصل السادس منه: "الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية". فالدولة إذن تضمن لكل فرد مهما كانت عقيدته وديانته حرية ممارستها.. لذا نقول بأنه قد تم خرق القانون (الفصل 6) بشكل سافر عندما تم القبض على بعض الأفراد بدعوى أنهم من عبدة الشيطان، مقابل خرق للقانون في اتجاه آخر بالسماح بتكوين حزب ديني رغم أن ظهير الحريات العامة المؤرخ في 15 – 11 – 1958 الذي ينظم حق التجمع وحق تكوين الجمعيات ينص على أنه لا يجوز في المغرب تأسيس أي حزب على أساس ديني أو عرقي أو جهوي.
إن فكر الإنسان هو الذي يخلق له الوجود وهو الذي يمكنه فعلا أن يصبح إنسانا، يقول كارل ياسبرز Karl Jaspers : "أن تتأمل معناه أن تصبح لك القدرة على التفكير، أن تفكر معناه أن تبدأ في التحول إلى إنسان"(3). وكما يقول ديكارت: "أنا افكر إذن أنا موجود".
وما دمنا نتحدث عن التسامح بين الأفكار والأديان، فإننا يجب أن نجسد هذا التسامح، سواء في مقررات التعليم، أو في مدونة الأحوال الشخصية، ولذا ندعو إلى أنسنة المدونة، وخاصة الفصل 29 حيث تنص الفقرة 5 منه: "بتحريم زواج المسلمة من غير المسلم". والأكيد أن هذه الفقرة من الفقرات التي تعزز الانغلاق والعداء بين الأديان، بل تعني إقصاء الغير لمجرد الاختلاف، ولذا ندعو بأن يكون ضمن التعديلات المقبلة تعديل هذه الفقرة، بإجازة زواج المسلمة من غير المسلم، وأيضا زواج المسلم باللادينية. (4).
ويجرنا هذا الحديث للفصل 228 والذي ينص على أنه: "لا توارث بين مسلم وغير مسلم...". فإنه لمن مظاهر العنصرية والاستخفاف بالعدالة، ألا يتوارث ابن مع أمه، لأنه مسلم مثلا ولأنها يهودية أو مسيحية.
فمن أجل أنسنة المدونة ومن أجل تجسيد التسامح بين الأديان نطالب بتعديل هذين الفصلين (29 و228) إلى جانب باقي الفصول التي يجب تعديلها.
إن الكثيرين يرددون بأن الدين الإسلامي قد قضى على العصبية والقبلية، ولكنهم لا يذكرون بأن المسلمين قد تحولوا إلى قبيلة دينية كبيرة.
في رواية أمين معلوف Les Jardins de lumière حينما يُسأل ماني "Mani" إلى أي ديانة ينتسب، يردد هذا الرد الرائع: "إنني أنتسب إلى كل الديانات، ولا أنتسب لأية واحدة، إنهم يعلّمون الناس أن عليهم الانتماء إلى عقيدة كما ينتمون لعرق أو قبيلة.. وأنا أقول لهم: لقد كذبوا عليكم.. تعلّموا كيف تجدوا في كل عقيدة، أو فكرة، المادة المنيرة، وأن تزيلوا القشور"(5).
الهوامش:
1ـ جان فرانسوا ليوتار، الوضع ما بعد الحداثي، ترجمة، أحمد حسان، دار الشرقيات، ط.الأولى، 1994، ص. 108.
2ــ كارل ياسبرز، نهج الفلسفة، ترجمة، عادل العوا، دار الفكر، دمشق، 1975، ص. 86.
3- Karl Jaspers, Introduction à la philosophie, U.G.E. col. 10 / 18, Paris, p. 136.
4ــ أقول: تحدث عبد العزيز قباني وهو يذكر بعض اسباب الزواج المدني: زواج زينب ابنة النبي من أبي العاص بن الربيع، وكان مشركا أي ليس كتابيا، وكانت مسلمة، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة وقال للمسلمين إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا، ففعلوا، فأطلقه رسول الله على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك،وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله مع زيد بن حارثة، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان فردها إليه بالنكاح الأول ــ أي لم يجر نكاحا جديدا وفق الإسلام ــ ولم يحدث لها صداقا، لما روى أحمد عن ابن عباس أن رسول الله ردّ ابنته زينب على أبي العاص، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح، ولم يحدث شهادة ولا صداقا.
عبد العزيز قباني، مبررات الزواج المدني الاختياري، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط. 1، 2000، ص. 114 – 115.
5- Amin Maalouf, Les Jardins de lumière, L.P., p. 184.

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الأربعاء 25 يونيو 2003.

الملعونات في كتاب "النساء حبائل الشيطان" لصاحبه خريج كلية أصول الدين بتطوان، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



الملعونات في كتاب "النساء حبائل الشيطان" لصاحبه خريج كلية أصول الدين بتطوان
عبد الواحد بنعضرا


وأنا أمرّ الشهر الماضي أمام باعة الكتب أثارني عنوان كتاب وصورة صاحبه، أما الكاتب فهو شاب يرتدي بذلة "الإفرنجة" ورباطة العنق "الإفرنجية"، حليق الوجه (لا لحية ولا ذقن)، وتصفيفة شعره توحي بأنه يتبع الموضة في ذلك، وبالمقابل ونحن في القرن الحادي والعشرين نجد عنوان كتاب يحمل هذه العبارة: (النساء حبائل الشيطان)، ولما قلبت بعض الصفحات وجدت أن الكتاب حديث الصدور أي في سنة 2005 (الطبعة الأولى) وطبع بمطبعة الخليج العربي بتطوان، أما الشاب فهو من مواليد 1974 بتطوان وحاصل على الإجازة العليا من كلية أصول الدين بتطوان.
أخذت الكتاب معي وأخذت اقرأ فيه، فما وجدت فيه إلا مكرورا من الكلام ومعادا، فصاحبه يلوك كلاما أكل عليه الدهر وشرب، ويجتر معاني بليت ــ كما نحسب ونظن ــ وأصبحت هشيما تذروه الرياح، وكابدت كل المشقة وجاهدت النفس على إتمامه مع أنني في كل سطر ومع كل فقرة أحس بالغثيان وبالرغبة في القيء، وتذكرت قول المتنبي:
        ومن نكد الدنيا على الحر                         أن يرى عدوا له ما من صداقته بد
فصاحبت صفحات هذه الأكتوبة ــ على وزن الأكذوبة ــ على ما في الأمر من شدة الوطأة على النفس وجلب الكدر على الفؤاد.
إن أغلب ما جاء في الكتاب هو لعن في لعن في توعد للنساء بالعذاب الأليم. وهذا بعض كلام فاه به المؤلف في مقدمة كتابه أو أكتوبته: "إن جل النساء العربيات في هذا الزمن، متحالفات مع الشيطان مدافعات عن حقوقه (...) لقد صارت هؤلاء النساء ملعونات من الله ورسوله والناس أجمعين: أليست نامصات الحواجب ملعونات؟ أليست الواصلات لشعرهن بشعر آخر ملعونات؟ أليست الكاسيات العاريات ملعونات؟ أليست اللواتي تخرجن بغير إذن أوليائهن ملعونات؟ أليست اللواتي ترضين لأنفسهن الذل والمهانة على صفحات الجرائد والمجلات وفي الفيديو كليبات ملعونات؟... أليست اللواتي تجلسن وترفعن أصواتهن وسط حشد من المؤمنين ملعونات؟ أليست تلتصق نحورهن بالرجال في سيارات الأجرة والحافلات وفي الازدحام ملعونات؟ أليست العاريات في الشواطئ ملعونات؟ أليست المغنيات النواحات ملعونات؟ أليست البطلات من الممثلات وأغلب مقدمات البرامج ملعونات؟.." (النساء حبائل الشيطان، رؤية نقدية لواقع المرأة العربية المعاصرة، نقد مدونة الأسرة المغربية ــ نموذجا، ص. 5 – 6). 

فقد نشر "القديس" الطاهر وبحر الإيمان الهادر مؤلف الكتاب الباتر لكل صلة لنا مع الحضارة، نشر لعناته وبسطها على كل امرأة من المغنيات والممثلات، مرورا بمن يضطرهن ضيق الحال أو شظف العيش أو عموما من لا تملك سيارة إلى الازدحام في الحافلات أو سيارات الأجرة، وصولا إلى النقابيات والبرلمانيات حيث كتب عنهن: "أما تلك المرأة المترجلة التي تتعلم من أجل الخروج من منزلها للوقوف بين الرجال في المنابر والفضائيات والبرلمانات والنقابات والاجتماعات فهي ملعونة لقول رسول الله عن أبي هريرة: لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال" (نفسه، ص. 12).
وأتساءل إن قمت بالقياس على ما ذكر وقلت له أن هناك رواية تروى عن النبي بأنه قال: (من تشبه بقوم فهو منهم)، ماذا عساك أن تفعل وأن تحلق وجهك وترتدي رباطة عنق وبذلة "إفرنجية" ــ والعياذ بالله ــ أتراك صرت من الإفرنجة "الكفرة" وبدلت دينك وارتضيت مذهبهم وعقيدتهم لك سلوكا؟
هون عليك فما قصدت لعنك ولا تعزيرك، إنما هي دعابة مثل دعاباتك الثقيلة ولغوك في أكتوبتك العجيبة والتي لفت انتباهنا فيها إلى ما يقض مضجعك ويثير مخيلتك ويملك عليك سحابة نهارك وبياض ليلك، ويأخذ بمجامع قلبك أنت وأمثالك من خريجي التعليم الديني، إذ صرحت بـ: "أننا نعيش في زمن رديء يطغى عليه هذا الصنف من النساء، نساء متبرجات كاسيات عاريات صدورهن عارية، متنمصات الحواجب، أفخاذهن عارية، لباسهن ضيق وشفاف، صابغات شعورهن، متمايلات في مشيتهن رافعات أصواتهن في الفضائيات والنقابات والبرلمانات والجمعيات وفي الشوارع" (نفسه، ص. 19). فما أدراك بكل هذا لو لم تكن تطيل النظر إلى الرخام الأنثوي من صدور وأفخاذ وتستمتع برؤيتها وتتشوق لمعانقتها، وقد خرج المؤلف بوصف جديد لكل المدافعات عن حقوق المرأة حيث نعتهن مرارا بعدوات الله، ومن ذلك كلامه: "وجاءت مدونة الأسرة المغربية مستجيبة لشهوات ورغبات هؤلاء المتبرجات من النساء عدوات الله ورسوله والمؤمنين جميعا.." (نفسه، ص. 26). وأيضا كلامه عن أن: "هؤلاء النساء عدوات الله ورسوله تسعين إلى انسجام بنود مدونة الأسرة المغربية مع المواثيق الدولية.." (نفسه، ص. 27).
ركّز المؤلف في نقد مدونة الأسرة على نقاط جرى حولها الخلاف سابقا كرفع سن الزواج والولاية والقوامة، وبطريقة سمجة وأسلوب فج، فرأى أن: "رفع سن الزواج إلى 18 سنة (...) لدى الفتاة المغربية معناه تشجيعها صراحة على الزنا والبغاء بدب تحصينها وعفافها في سن مبكرة، حسبنا الله، نعم الوكيل" (نفسه، ص. 29). وسأكتفي بسؤالك في حالة ما إذا ولدت لك بنت مستقبلا وسهرت على تربيتها وتعليمها، إلخ، ثم جاءك خاطب لها وهي مثلا في سن الرابعة عشر ماذا ستفعل؟ وحذار من المراوغة فبما أنك ملأت أكتوبتك بنوص كثيرة فدعني أذكّرك بمروية تحكى عن النبي بأنه قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، وإلا تكن فتنة...). فماذا ياتراك تكن فاعلا هل ستزوج طفلتك ذات الرابعة عشر ربيعا فقط؟ سنرى وسننتظر وإن غدا لناظره لقريب.
وتناول مسألة الولاية وخلص إلى تساؤل ساذج: "يا ترى كم من نكاح باطل سوف تشهده الأيام المقبلة" (نفسه، ص. 29). وإني لأستغرب أن يكون واحد من خريجي كلية أصول الدين يجهل رأي أبي حنيفة في الموضوع، هذا عن الرأي الفقهي !! أما دون ذلك فإن طرح الموضوع من أساسه يثير الشفقة على المؤلف والرثاء أكثر مما يبعث على السخرية والضحك، لم لا والشاب المؤلف الذي يعيش في القرن الحادي والعشرين ويتزيا بزي "الإفرنجة" يصر ويدندن حول القوامة، وبالنسبة له: "فالزوج المسلم هو الذي يعُول وينفق وحده والمرأة تقوم بأشغال البيت" (نفسه، ص. 31).
والقوامة بالنسبة إليه تأخذ كل الأبعاد التي ترضي مرضى النفوس، ففي فصل حول القوامة كان يستشهد بنصوص تجيز للرجل لطم زوجته بما معناه أن هذا من القوامة أي وجوب تأديب الرجل لزوجته والأخذ على يدها، ثم ينصح المؤلف الشاب النساء بما يلي: "ويا أيتها النساء كن طائعات لأزواجكن لأن طاعة الزوج من طاعة الله وإلا فالويل لكن من عذاب الله تعالى يوم القيامة، ولن تنفعكن الأفاعي ولا مكائد الشيطان، واعلمن أن جهنم سوف تستعر بكن" (نفسه، ص. 119).
ثم يخصص فقرة، هي الطامة الكبرى وثالثة الأثافي والديار البلاقع، فقرة تحمل عنوان: "جواز ضرب المرأة في الإسلام"، يستعرض فيها المؤلف الشاب تفسيرات ابن كثير والجلالين والطبراني والقرطبي، وتتلخص كلها في ما يلي: "أمر الله أن يبدأ (الرجل) النساء بالموعظة أولا ثم الهجران فإن لم ينجعا فالضرب هو الذي يحملها على توفية حق" (نفسه، ص. 124).
إن قضية ضرب المرأة وأيضا ما حوته ثنايا الأكتوبة من نصوص تحقر شأن المرأة وتزري بقدرها من أمثال تلك النصوص المنسوبة للنبي حينا ولعلي بن أبي طالب حينا آخر والتي تقول بأن النساء ناقصات عقل ودين ــ والتي رددها المؤلف الشاب مرارا في طيات أكتوبته ــ، إن هذه المسائل تثير بإلحاح ضرورة فرض عقوبات على كل من يدعو إلى تحقير المرأة وإهانتها وممارسة العنف عليها سواء العنف الجسدي أو اللفظي... وفي خاتمة أكتوبته يدعو المؤلف الشاب الحكومات لمنع الاختلاط، ويدعو النساء للزوم بيوتهن، ويذكر كل امرأة منهن بما يلي: "واعلمي أن أكثر النساء ملعونات من الله ورسوله والناس أجمعين" (نفسه، ص. 145). وإن كانت المرأة تريد أن تدخل الجنة فما عليها حسب المؤلف الشاب إلا أن تطيع زوجها.
ولا يفوتني أن أشير إلى أن الحول الذي أصاب فكر هذا الكاتب الشاب جعله يعتبر تاريخ النضال النسائي للمطالبة بحقوق المرأة تاريخا لـ: "حركة تبرج المرأة" كما جاء في عنوان إحدى الفقرات.
إن هذه الأكتوبة تذكّرنا بأكتوبة المدعو فريد الأنصاري والموسومة بـ "الفجور السياسي" وهما معا تدخلان في ما أسميته من قبل (ممارسة السياسة في الجنس) بالنسبة لفقه الأزمة، أو (لممارسة السلطة عبر الجنس) في فقه التخلف، وطالما ظل المجال السياسي ملتبسا ومختلطا أو فاتحا كوة للتوظيف السياسوي للدين فسنظل نشاهد ونقرأ لهذه الكتابات التي تمارس الاستمناء الفكري.
وبعد، فإنني أطالب أولا بالمتابعة القانونية لمؤلف كتاب "النساء حبائل الشيطان" الصادر سنة 2005، وأدعو جميع المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان عامة وقضايا المرأة خاصة للتصدي لهذا الأمر، إذ لا يكفي توعية الناس بالحقوق إن لم تواكبه ترسانة قانونية وتطبيق لهذا القانون وردع وزجر ومعاقبة الداعين لتحقير شأن المرأة وممارسة العنف عليها.
ثانيا: أتساءل عن الدور الذي يقوم به المسؤولون عن الحقل الديني بالمغرب إزاء ما تقوم به كلية أصول الدين بتطوان من تكريس للتطرف والانغلاق.
وثالثا: أدعو كل المثقفين والمتنورين الذين يبحثون عن تبرير لوضعية جديدة للمرأة، انطلاقا من تأويلات معينة للنصوص، من إعادة النظر في هذا الأمر لتفادي المغالطات التاريخية والدوران في حلقة مفرغة وفتح الباب أمام التأويل والتأويل المضاد.

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية، يوم الأحد 8 يناير 2006.        
  

الجمعة، 8 أغسطس 2014

"الصينيون المعاصرون" وجهة نظر صينية، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



"الصينيون المعاصرون"
وجهة نظر صينية
عبد الواحد بنعضرا
وأنا اقرأ بداية الاهتمام بتشكل الذات الصينية من كتاب "الصينيون المعاصرون: التقدم نحو المستقبل انطلاقا من الماضي" لمؤلفه الصيني وُو بِن ( ج1، ص، 26 ) تبادر إلى ذهني تساؤل حول ماهية الذات المغربية، وإلى أي حدّ من الممكن المقارنة بين المسار المغربي والصيني، عوضا عن المقارنة المغربية اليابانية ! يقول المؤلف: « وفي أثناء حرب الأفيون [1840 – 1842] والفترة التاريخية التالية لها، اقتحم الإمبرياليون بوابة الصين القديمة بالمدافع، وهزوا بعنف التركيب النفسي لدى الصينيين في الاعتماد على الثقافة التقليدية، وتسببوا لهم في إحداث جرح عميق لكرامة الأمة والثقة بالذات والصورة النموذجية القائمة على المفهوم التقليدي للثقافة. وغرق الصينيون في حالة من الشعور بالقلق والهم لم يعرفوها من قبل، وفقدوا التوازن النفسي الاجتماعي بصورة خطيرة، وفي الوقت الذي كانوا يبحثون عن مخرج لإنقاذ الأمة من الاضمحلال ومحاولة البقاء، كانوا يبحثون أيضا في عجالة عن مواطن النقائص والعيوب على وجه التحقيق، وبدأوا في محاسبة النفس بدقة واستجوابها. ومن هنا بدأ التعريف بذات الأمة الصينية، ولذا كانت تحمل تلك الذات في طياتها منذ البداية الواقعية المباشرة ونكهة مشاعر الحزن العميق، ومن ناحية أخرى، تعد حرب الأفيون السلسلة الأولى من الهزائم التي جعلت الكثير من الحكماء الصينيين من ذوي النظر البعيد يدركون أن ذلك ليس هزيمة في المجال العسكري فحسب، بل إنها " هزيمة كبرى " للثقافة الصينية التقليدية أيضا » ( نفس الصفحة ). في نفس الفترة، أيضا، تعرض المغرب لهزيمة في معركة إيسلي  (غشت 1844)، أمام قوة غربية هي فرنسا. يهمنا هنا ردة فعل الصينيين تجاه الحدث، حدث الضغط الاستعماري الغربي الذي فرض نفسه بقوة (تم توقيع اتفاقية نانكين التي فتحت الموانئ الصينية أمام البضائع الإنجليزية). ركّز المؤلف، في عدة صفحات ( من بينها ص، 28 وما بعدها، ج1 ) على  حركة 4 ماي 1919، والتي دعت إلى "الإطاحة بدار كونفوشيوس" ومن بين زعمائها تشين دوشيو، لي دا جاو، لو شيون... والذين دعوا إلى معارضة التقاليد والمذهب الكونفوشيوسي خاصة. في مقابل حركات أخرى رافضة لكل ما هو غربي من بينها حركة يي هتوان، وهي حركة محافظة ومقاومة للتغيير: « وبالنسبة لحركة يي هتوان، كانت البضائع الأجنبية تعد أقوى الشرور، مثل المصابيح الكهربائية الأجنبية، والفناجين الخزفية الأجنبية، وكان مؤيدو هذه الحركة يستشيطون غضبا عند رؤيتها، ويرون أنه يجب تحطيمها حتى يشعروا بالغبطة. وكانوا يتجولون في شوارع المدينة، وعندما يشاهدون بائعي البضائع الأجنبية أو الذين يرتدون الملابس المحبوكة والأكمام الضيقة، أو يشاهدون نماذج الأشياء التي على الطراز الغربي، أو المكتوب عليها بالحروف الأجنبية، فإنهم يحطمون تلك الأشياء ويقتلون الأشخاص » ( ص، 241 ). كذلك ظهرت حركة الشؤون الأجنبية، والتي كانت تقول: « التعليم الصيني هو الجوهر، والتعليم الغربي من أجل المهنة » ( ج1، ص، 194 ــ 195 ). وعموما، لاحظ المؤلف بكون الحركات التي ظهرت في النصف الثاني من ق 19 لا يعدو أمرها إما الدعوة للحفاظ على هيكل قديم أو لتطور سطحي.
في المغرب كانت، لدينا، أيضا ردود فعل متباينة تجاه الغرب، ويمكن الاستئناس ببعض الرحلات السفارية؛ حيث نستشف في نفس المتن الرحلي، أحيانا، ولنفس المؤلف مواقف متعددة تنوس بين الرفض والقبول والتردد !
ولا يفوت المؤلف الإشارة إلى أن الصين قد أصابها الضعف قبل أن تصل إليها القوات البريطانية ( ج1، ص، 170 ). وكذلك الحال بالنسبة للمغرب قبل إيسلي، فقد كان يعيش الاستقرار في ظل الانحطاط، كما يقول البعض.
ركّز الكاتب في عدة فصول على أن تحديث الإنسان هي الوسيلة الحقيقية لتحديث الصين، فهي عملية موازية للعملية الأممية، من ذلك مثلا قوله: « ولقد أظهرت العديد من الدراسات أن البشر أهم عامل في حركة التحديث، وإذا لم يتم تحديث البشر يكون من المستحيل تقريبا تحديث العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد والسياسة » ( ج1، ص، 42 ). مع التأكيد أن الفهم الصيني للتحديث مازال سطحيا ( ج2، ص، 37 ). وينبه المؤلف إلى القلق الذي ينتاب الصينيين جراء التغيرات السريعة، من خلال حديثه عن سرعة التغييرات في الدول المتخلفة ومحاولة قطع مئات السنوات من التطور الغربي في فترة وجيزة، أي حرق المراحل: « يفتقر الصينيون إلى الاستعداد النفسي والمعرفي الكافي تجاه تلك التغييرات المطردة وواسعة النطاق. ويشعر الناس عادة بالحيرة إزاء التغييرات الحالية، ويحتاجون إلى فترة يستطيعون خلالها فهم واستيعاب طبيعة التغييرات الاجتماعية الهائلة ومضمون ثقافتها. وجسد ذلك النقص السيكولوجي المتجمد، أحد التناقضات العميقة في الثقافة الصينية الحديثة... » (ج2،  ص، 62 ). ومن ثم كان البحث عن تعويض الهزيمة الثقافية والحضارية والعلمية بنصر رياضي ( ج2، ص، 72 ) كتعبير عن حالة الاغتراب النفسي. ويعتبر المؤلف عدم الاستقرار الاجتماعي في الفترات الانتقالية مرحلة لا بد من المرور منها: « إن مرحلة عدم الاستقرار الاجتماعي هي فترة تاريخية وحلقة متوسطة لا بد من اجتيازها في الانتقال من استقرار المجتمع التقليدي إلى أقصى درجات استقرار المجتمع الحديث، وبالتالي يتحقق التحول الرئيسي في الطبيعة الاجتماعية » ( ج2، ص، 76 )
وبعد، فقد نشر هذا الكتاب سنة 1992، وطبعت ترجمته إلى العربية سنة 1996 (سلسلة عالم المعرفة في جزأين). واستطاع الصينيون اجتياز مجموعة من المراحل، وتشير المعطيات إلى أن الصين، ستصبح قريبا القوة الاقتصادية الأولى في العالم، تليها الولايات المتحدة الأمريكية ثم الهند. ما لم يحدث أمر يقلب المعطيات رأسا على عقب، ويؤكد أحد الباحثين في الاقتصاد (lee Jong-Wha)، أن استمرار التقدم الصيني وباقي القوى الآسيوية رهين بمجموعة من العناصر، على رأسها بناء وتعزيز المؤسسات الضرورية لتسيير الاندماج الجهوي بين الدول الأسيوية (L’économiste, N 27 Septembre 2013) .
فإلى أي حدّ نستطيع، نحن أيضا الخروج من الماضي إلى المستقبل، وتجاوز سوريالية وضيق ثنائية الأصالة والمعاصرة إلى رحابة تعددية المعنى؟ أم أننا سنعيد تكرار ما خلص إليه البعض من خلال المقارنة مع اليابان: تشابه المقدمات واختلاف النتائج؟ 

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية، في عدد السبت/الأحد 29 - 30 مارس 2014

من قصور الشاه إلى سجون الثورة الإيرانية رحلة مع حسن ناراغي، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



من قصور الشاه إلى سجون الثورة الإيرانية
رحلة مع حسن ناراغي

عبد الواحد بنعضرا
عندما تحدث لي أخي عبد اللطيف بنعضرا والرفيق عبد الرحيم تافنوت عن هذا الكتاب، أول مرة، ركزا على رجال الدين الإيرانيين وانقلابهم على حلفاء الأمس من التيارات اليسارية ونكبهم إياهم. عندما قرأت الكتاب اكتشفت فيه أشياء أخرى. 
الكتاب عبارة عن قسمين كبيرين، يتضمن القسم الأول حوارات أجراها مؤلفه، وهو عالم اجتماع ويترأس مركزا للعلوم الإجتماعية بإيران، مع الشاه في أيامه الأخيرة. أما القسم الثاني فهو مذكرات المؤلف في سجون إيران بعد "الثورة الخمينية".
وأنا أقرأ كتاب من قصور الشاه إلى سجون الثورة (Des Palais du Chah aux prisons de la révolution)  يتأكد لي مرة أخرى أن الحركات المعارضة في المغرب لم تكن تمارس معارضتها على أرض الواقع المغربي، بالمقابل يظهر أن الحسن الثاني، كان يمارس دوره كملك للمغرب، لذا كان أكثر فعلا على أرض الواقع وأكثر تأثيرا، بينما كانت المعارضة تمارس دورها لا كمعارضة في أرض مغربية بواقع مغربي، ولكن كمعارضة هلامية يمكن أن تكون في روسيا القيصرية أو فرنسا، أو أمريكا اللاتينية أو أي مكان آخر إلا المغرب، ولذا كان فعلها أقل، وتأثيرها هامشي. وإذا استعرنا من الأستاذ عبد الله العروي عبارة "لا دولة الخلافة" فيمكن أيضا أن نتحدث عن "لا دولة الاشتراكية" و"لا دولة الشيوعية"، إنها نفس الطوبي، والنتيجة هي الفعل خارج التاريخ.


أقول هذا الكلام وأنا أرى كيف استفاد الحسن الثاني من تجربة الشاه ومن علاقته به، وأحسب أنه أيضا استفاد من هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والصادرة طبعته الأولى هذه سنة 1991، وللمصادفة فهذه الفترة تميزت بالحوار مع الكتلة الديمقراطية.
 كثير من القضايا طرحها ناراغي مع الشاه ابتداء من قضية أسلمة الشباب، مرورا بالجمع بين الثروة والسلطة، واستغلال أسرة الشاه للنفوذ لاحتكار الصفقات والشركات والسطو على الممتلكات العامة، تسمية المؤسسات والمنشآت بأسماء أسرة الشاه، تضييع الفرص كلما سنحت الفرصة لتدارك الأخطاء من طرف الشاه، قضية يسود الملك ولا يحكم (Le souverain doit régner et non gouverner)، مشكل التقنوقراط الذين يجيبون عن الأسئلة المطروحة ويفتقدون القدرة على المبادرة والإبداع، لذا يفتقدون لرؤية شاملة وعميقة، فقد تحل أجوبتهم المشاكل مؤقتا، ولكنها تؤدي لكوارث على المدى المتوسط والبعيد. الحديث عن المعتقلين السياسيين، عن الحريات ، عن العلاقة بين السياسة والدين، المؤسسة العسكرية، قضية الأمن، الهوة بين الفئة المتنفذة وفئات المجتمع المسحوقة، العلاقة مع القوى الغربية... وغيرها من الأمور العديدة...
عندما أستحضر  تجربة العدل والإحسان، وكيف حاول عبد السلام ياسين النسج على منوال الخميني، أنظر إلى اختلاف المذهب المنتشر في المغرب وإيران، ففي إيران طبيعة المذهب الشيعي تجعل الإنسان الإيراني يتشوف للنموذج الكامل نموذج المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلا ونورا، وهو ما يجعل المذهب الشيعي ــ حسب المؤلف ناراغي ــ مذهبا صالحا للثورة خاصة مع مجهودات علي شريعتي الذي نظّر لرؤية جديدة للتدين تجمع بين خصائص المذهب الشعي وحركات التحرر العالمثالثية، وهو ما استفاد منه لا حقا فقهاء الحوزة بقم... لينبه ناراغي الشاه إلى أنه محاصر بين نموذج علي بن أبي طالب ونموذج المهدي المنتظر، لأقول بأن العدل والإحسان أيضا كانت ومازالت تفعل خاج الزمن خارج التاريخ. بل إن من أعطاب حركة 20 فبراير الأساسية هو الفعل خارج الواقع المغربي، واللعب في الهامش لا حقا.
لذا أقول أنه من المفيد للسياسيين قراءة هذا الكتاب، مع استحضار شيء أساسي أن التاريخ لا يعيد نفسه أبدا.

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الأربعاء 4 دجنبر 2013 
وأعيد نشره بنفس الجريدة عدد السبت/الأحد 14 - 15 دجنبر 2013

نظرات في كتاب "قداس السقوط" لأحمد دلباني، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



نظرات في كتاب "قداس السقوط" لأحمد دلباني

عبد الواحد بنعضرا

أتناول في هذا المقال كتاب الكاتب والشاعر الجزائري أحمد دلباني، الموسوم ب"قدّاس السقوط: كتابات ومراجعات على هامش الربيع العربي"، الصادر عن دار التكوين للتأليف وللترجمة والنشر، دمشق، 2012. وهو عبارة عن مجموعة مقالات قبيل وإبان انطلاقة الربيع العربي، وإلّم يوضح صاحبها هل نشرت جميعها، بالتواريخ المشار إليها، أم أن الأمر يتعلق بتاريخ كتابتها... ابتدأ المؤلف بالتهليل للعهد الجديد، وانتقد الدور السلبي للمثقفين في الحراك العربي.

ينْظم هذه المقالات خيط جامع، ينطلق من كون الاكتفاء بإسقاط النظام،غير كافي لأحداث التغيير المنشود، إذ لا يكفي إزالة رئيس دولة من مكانه ما لم يصحب ذلك تغيير في بنية النظام: "دون ذلك لن تكون الانتفاضة ثورة وإنما زلزالا اجتماعيا يفتقر إلى هاجس التخطي والتجاوز ويفتقر إلى الحلم الإنساني الأعمق بالتحرر الشامل. الثورة، جوهريا، ليست حِراكا فحسب بقدر ما هي تحرّك نحو واتجاه إلى. إنها هدف معلن واعتقاد عميق بصداقة التاريخ لشرعية المعنى الذي يعتق الإنسان من تفاهته في الغبار الكوني، ويمنح وجوده جدارة لا تتحقق بغير الوعي والحرية" (ص. 25)؛ حيث يلحظ أن من المشاكل التي عاشتها المجتمعات العربية منذ الاستقلال استمرار نفس النظام الحاكم المستبد حتى في وجود أحزاب تدعي تحرير الإنسان، ــ حزب البعث نموذجا ــ ، والأمر لا يقتصر على طبيعة الحاكم المستبد فحسب، بل إن المعضلة في المجتمع ذاته الذي ألِف وجود "الأب"؛ إذ يتعلق الأمر بحاجة هذه المجتمعات لهذا الحاكم/المخلّص/المهدي المنتظر: عبد الناصر/صدام حسين...: "تكمن مشكلتنا ـ بوصفنا عربا ومسلمين ــ في أننا لم نشهد قتل الأب في ثقافتنا وإنما أعدنا إنتاجه في أشكال جديدة من الأصولية العقائدية والانغلاق الإيديولوجي المذهبي الذي اعتقل العالم والحقيقة في شباك النظرية والكلمة الأولى التي ادعت أنها تعلو على وقائعية العالم وفجائعيته. مشكلتنا أننا لم نشهد اضمحلال المقدس أو انسحابه من فضاء العمل التاريخي في توليد المعنى على ما يرى البروفيسور محمد أركون، وإنما ظلت تتناسل فينا شهوة التماهي مع الأصل احتماء من فوضى الحاضر غير المسيطر عليه بشكل جيد. هذا ما يدفع بي إلى الحديث عن خطر الثورة السياسية في ظل غياب الثورة الثقافية والعقلية التي تناوش الواقع وتفكك سلطة المرجعيات المتآكلة. دون ذلك تبقى بيوتنا مشرعة دائما لضيوفها من الآلهة التي ترفض أن تموت" (ص. 29 – 30).

وإذن فالأمر يتعلق بذهنية انبنت منذ القديم على انتظار المخلص/ القائد الملهم، بقراءة معينة للدين فرضتها السياسة منذ العهد الأول للإسلام، فالمشكل ليس سياسيا فحسب بل هو ذو أبعاد متعددة أبرزها المشكل الثقافي. خصوصا في ظل غياب الشرعية الشعبية كمحدد للنظام الديمقراطي، ووجود شرعية تارخية: الشرعية الدينية، أو الشرعية الثورية أو غيرها: "من الواضح والجلي أننا لم ندخل بعد عصر الشرعية السياسية الديمقراطية بمعناها الشامل. فلم يولد عندنا الإنسان بوصفه مرجعا للقيم(...) فلقد تأسست الدولة العربية ــ منذ عقود ــ على الشرعية الثورية أو على شخصية الزعيم الملهم، وبقيت بذلك حبيسة الزمن الثقافي الأسطوري الذي يربط الشرعية بالبدايات المقدسة وبالبطولة الفردية. إنها الشرعية التي تنهل من المخيال ومن الزمن النبوي. هذا ما يبين كيف أن نظام الشرعية السياسية العربية بقي يتحصن بالمرجعية العاطفية/ الأسطورية من أجل تجاوز مآزقه الخاصة كلما جابه التحديات والأسئلة الجديدة" (ص. 79)

فالمستبد العربي لا يفهم السياسة كمجال لتدبير الشأن العام، ولكنه يرها مكانا لتحقيق الأحلام الطوباوية أو الخلاصية، وهو ما يجب تغييره.

وعموما هذه القراءة السياسية هي نتيجة تكريس الوحدانية في كل شيء في الثقافة، السياسة، الفن... وبالتالي تخوين وتكفير وتبديع كل من يخالف النموذج الجاهز أو يغرد خارج السرب، ومن هنا احتقار العقل والإبداع وتكفيرهما (ص.130).
ومن هنا أهمية دراسة أدونيس للشعر، باعتبار الشعر انفتاحا على المستقبل على المجهول على تعددية المعنى، وليس التشرنق في أحادية المعنى المكرسة للاستبداد. ولقد كرع الجميع من معين الثقافة الوحدانية وهو ما يلاحظ حتى في الحركات المعارضة، التي وإن نادت بالحرية فإنها تستبطن غيرها، وهي الأخرى تكرس الاستبداد.

 بلغة أخرى أُدخِلت المجتمعات العربية قسرا إلى الحداثة، بيد أنها لم تكن حداثة حقيقة هي فقط بعض مظاهرها التحديثية، وليس عمقها الفلسفي (ص. 114). ما قامت به بعض الأحزاب القومية والاشتراكية هو الاستعاضة عن عمامة الفقيه بخوذة العسكر، هي علمنة الاستبداد !!
بمعنى آخر انتشرت حداثة النظام، ولم تنتشر حداثة التفكيك، وهذا هو ما نحتاجه اليوم، إن الحداثة في عمقها هو بحث مستمر عن المعنى الجديد، وليس المعطى المنجز الجاهز، إذ حاولت الأنظمة العربية دائما اغتصاب الدلالة باسم المقدس والمعنى الجاهز، إن الحداثة/التفكيك هي بحث في الواقع /الانطلاقة من التجربة وليس البقاء رهين سلطة النص، وهذه إحدى معضلات الثقافة العربية الإسلامية عبادة النصوص، خصوصا عندما يتم تحنيطها وتحويلها إلى المطلق (ص.111و150).

ملاحظة: أتساءل شخصيا ما الفرق حينها بين قال ابن حنبل، قال الشافعي، وقال ماركس، أو قال ستالين، أو لينين... عندما يصبح النص مقدسا مطلقا؟ وهذه معضلة حقيقية، شخصيا كنت أقول لبعض الرفاق، إنكم تعانون من المانوية والإيمانوية، من جهة، مشكل المنطق الثنائي: مناضل/مخزني، تقدمي/رجعي، وتخوين كل الآراء المخالفة.. مثلما يوجد عند الآخرين ثنائية: الحلال/الحرام، المؤمن/الكافر... ومن جهة أخرى تقديس كلام مجموعة من الأشخاص والنصوص.

إن حداثة التفكيك، بالنسبة للمؤلف شيء أساسي للخروج بالمجتمعات العربية من متحف التاريخ، ويقع العاتق بشكل كبير على المثقفين، الذين يعد دورهم الأول تحرير دلالة الأشياء من تاريخها المرتبط بالسلطة: "الذين أصبحوا يفهمون الحداثة لا على أنها نظام شمولي ونظرة ناجزة منتهية، بل بوصفها موقفا نقديا وحركية لا تنتهي في اكتناه المجهول ومراجعة المسبقات في ضوء السديم التاريخي الذي نشهده" (ص. 176).

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الأربعاء 27 نونبر 2013