عقيدة
الولاء والبراء:
أدلوجة سياسية من المودودي إلى
حزب العدالة والتنمية
عبد الواحد
بنعضرا
1- توطئة: الحديث عن
عقيدة الولاء والبراء بمعزل عن الحديث عن مفهوم الحاكمية صعب جدا، إذ لا يمكن عزل
المفهوم الأول عن الثاني لارتباطهما سياسيا، فظروف ظهور الثاني هي التي في غالب
الأحيان تؤدي إلى أن يبرز على السطح مفهوم الولاء والبراء سواء عند الخوارج أو عند
الجماعة الإسلامية التي ترأسها أبو الأعلى المودودي سنة 1941. قد يختلف اللفظ بين
الولاء والموالاة والقومية الإسلامية، ولكن المفهوم واحد ... وسأحاول أن أظل في
إطار مناقشة عقيدة الولاء والبراء دونما إغفال أن عزله عن المفهوم الآخر ليس إلا
إجرائيا، إذ أن واقع الحال يلزم جمعهما جنبا إلى جنب ..
2- مفهوم الولاء والبراء
تاريخيا: أدى الصراع بين القبائل العربية على موارد الثروة إلى عقد التحالفات
بين بعضها - سواء من أجل الحماية بالنسبة للقبائل الضعيفة، أو من أجل خلق تكتل
أقوى في مواجهة تكتل مماثل ...- ومن هنا نشأت علاقات الولاء بين القبائل، لذا سنجد
أن كلمة المولى تدل في أحد معانيها في لسان العرب على ما يلي : "المولى:
الحليف، وهو من انضم إليك فعزّ بعزك وامتنع بمنعتك، قال عامر الخصفي من بني خصفة:
هم المولى، وإن جنفوا علينا وإنا من لقائهم لَزُورُ" (ابن منظور، لسان العرب،
مادة ولي، دار الفكر ودار صادر بيروت، 1990). بهذا المعنى، لمفهوم الولاء - ما قبل
إسلامي- استعمل القرآن مشتقات لفظ الولاء للدلالة على تكتل - يضم المسلمين
وحلفاءهم- يواجه تكتلا خصما، إبّان معركة ما أو توتر في العلاقات بين أطراف النزاع
في المدينة؛ وصدى هذا موجود خاصة في سورتي التوبة والمائدة... ولهذا سنجد آيات
أخرى تحث على مسالمة ومهادنة المسالمين غير المقاتلين؛ ولا يمكن التعسف لاستخراج
دلالات أخرى لمفهوم الولاء في القرآن إلا بإهدار البعد التاريخي وعزل النصوص عن
سياقها التاريخي، إذ هذه آيات جاءت في ظروف خاصة، من المفروض أن مشروطيتها تزول مع
زوال هذه الظروف وإلا لماذا أباح القرآن الزواج من الكتابيات؟ فهل يُعقل أن يكره
رجل مسلم زوجته المسيحية أو اليهودية ويفضّل عليها امرأة أخرى - أية امرأة- فقط
لأن هذه مسلمة !! ثم أي معنى لهذه الحياة الزوجية إذا كان المفروض أن يسود بين
أطرافها الحقد والكره وليس الحب والسلام ... على أن البعض يستند على الحكايات
التأطيرية للآية: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء... بعضكم
أولياء بعض... ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين)
(المائدة/51). ولكن هذه الحكايات متهافتة لتضارب رواياتها، فمرة رويت أنها في
رجلين بعد وقعة أُحُد، وفي رواية أخرى أنها تعني أبا لُبابة بن عبد المنذر حين
بعثه النبي إلى بني قريظة... وإلى جانب هاتين الروايتين ذكر ابن كثير رواية ثالثة
في عبد الله بن أبيّ: "وقيل نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول كما قال ابن
جرير حدثنا أبو كريب حدثنا ابن إدريس قال سمعت أبي عن عطية بن سعد قال جاء عبادة
بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله، فقال يا رسول الله إن لي موالي
من يهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله،
فقال عبد الله بن أبي إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي فقال رسول الله
لعبد الله بن أبي: يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت
فهو لك دونه، قال قد قبلت، فأنزل الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا
اليهود والنصارى أولياء) الآيتين" (تفسير ابن كثير، الجزء الثاني، تفسير سورة
المائدة، المكتبة العلمية، بيروت، 1994). وقد كفانا الألباني الدخول في نقاش حول
رواية الأحاديث وحول منهج النقد في علوم الحديث، فهذا ليس مكانه، وقد سبق أن
تناولت ذلك بالدراسة والنقد في مكان آخر، حيث ذكر الألباني ما يلي: "رواه ابن
إسحاق عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت وابن جرير عن عطية العوفي وعن
الزهري، وكلها مرسلات، وقد أشار ابن كثير في تفسيره إلى تضعيف نزول الآية في ابن
أبي، والله أعلم -والآية من سورة المائدة : 52" (الألباني، تعليق على هامش
كتاب محمد الغزالي، فقه السيرة، دار الريان للتراث، القاهرة، 1987، ص. 253). من
الواضح، إذن، أن هذه الروايات قد وضعت في عصر التدوين، ومن الملاحظ على الفكر
الإسلامي بأنه فكر متموج يقوم غالبا بتأسيس السابق بناء على اللاحق، واللاحق هنا
هو ما قام به الخوارج بعد حادثة التحكيم وخروجهم على عليّ بن أبي طالب، وبحكم
معارضتهم أصلا لمعاوية بن أبي سفيان، فقد بات الخوارج يحتاجون لوسيلة يجمعون بها
من حولهم الناس وما كان يمكنهم ذلك بواسطة أية عصبية كانت في مواجهة أكبر حزبين
(أو عصبيتين) بني هاشم والأمويين، لذا سيلتجئون إلى رابطة من نوع آخر وعبر قراءة
معينة لنصوص القرآن تعزل هذه النصوص عن سياقها التاريخي وتجعلهم يتقمصون وضعية
النبي - حسب هذه القراءة- ويتصرفون كأنهم في هذه الوضعية فعلا، وسيقصرون اسم "المسلمين" عليهم فقط، وكل مخالف لهم فهو كافر ينفون عنه الإسلام ويوجبون قتله، بل
حتى لو وافقهم ولم يقم للقتال معهم فهو كافر يحق قتله لأنه لم يتولّهم - والمؤمنون
بعضهم أولياء بعض-، ليس هناك بَيْن بَيْن : إما معنا أو ضدنا، لذا عرف عليهم شدتهم
على كل مخالفيهم حتى كانوا لا يرحمون امرأة ولا طفلا رضيعا ولا شيخا فانيا ... ومن
هنا برز مفهوم الولاء والبراء كعقيدة ظاهريا وكرابطة أساسا سياسية، والدليل على
ذلك أن الخوارج كان موقفهم مغايرا تجاه النصارى واليهود والمشركين، فقد عرف عنهم
تسامحهم الكبير إزّاء هذه الأصناف، لماذا ؟ لأن هذه الأصناف لم يكن لها دور - أو
على الأقل دور أساسي- في الصراع السياسي الدائر بين أصحاب علي وأصحاب معاوية وبين
الخوارج، لذا كان موقفهم معهم مسالما جدا حتى أنه يروى أن واصل بن عطاء - رأس
المعتزلة - وقع في أيديهم فادّعى أنه مشرك مستجير، ورأى أن هذا ينجيه أكثر مما
تنجيه دعواه أنه مسلم مخالف لهم... وسيكون لمعارضتهم للحزبين الكبيرين تأثير في
نظريتهم عن الخلافة، إذ أنهم قالوا بأن الخليفة يصح أن يكون من غير قريش، بل يصح
حتى أن يكون عبدا حبشيا... وسيعيدون قراءة التاريخ أيضا انطلاقا من مفهوم الولاء
والبراء، يروي الشهرستاني: "وقد قُبِضَ على أحدهم وقدم إلى زياد بن أبيه،
فسأله عن أبي بكر وعمر، فقال فيهما خيرا، وسأله عن عثمان، فقال: كنت أتولى عثمان -
على أحواله- في خلافته ست سنين، ثم تبرأت منه بعد ذلك، وشهد عليه بالكفر ؟ فسأله
عن أمير المؤمنين عليّ فقال: أتولاه إلى أن حَكَّم، ثم أتبرأ منه بعد ذلك، وشهد
عليه بالكفر، فسأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا..." (أحمد أمين، فجر الإسلام،
مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط، الحادية عشرة، 1975، ص. 258).
بعد الضربات القوية التي وجهها
الحَجَّاج للخوارج، انكسرت شوكتهم وبدأ يضمحل ذكرهم، وبالتالي ضمور عقيدتهم في
الولاء والبراء، إذ من الطبيعي أن الإسلام الرسمي الأرثوذوكسي السني أو الشيعي لن
يظهرها باعتبارها نظرية حزب معارض - لهما معا-، وستظل كامنة إلى أن التقط خيطها
أبو الأعلى المودودي في الهند، ولا يمكن فهم آراء الرجل تجاه الديموقراطية،
القومية والوطنية، وأيضا سبب تغير موقفه منها بعد ذلك إلا إذا استحضرنا الظروف
السياسية والتاريخية للمنطقة... فالهند الواقعة تحت الاستعمار البريطاني كانت تضم
أقلية مسلمة - ضخمة الحجم حوالي ثمانين مليونا- تشكل ربع ساكنة الهند، تنحدر من
أصول هندو- أروبية (أو هندو- آرية) لا تشترك معهم فيها الهندوس إلا قطاعا صغيرا،
لذا كانوا يشعرون بذاتية خاصة وميول انفصالية كحنين لدولة المغول الأكبر في شمال
الهند، والتي أسسها في القرن السادس عشر بابرو أكبر وقضى عليها الاستعمار
البريطاني. وبما أن حزب المؤتمر الوطني يدعو إلى إقامة دولة قومية، ديموقراطية
وعلمانية - بعد أن تأخذ الهند استقلالها-، فقد رأى المسلمون أن هذه الدولة ستضر
بمصالحهم، إذ أن الأغلبية فيها ستكون دائما للهنادكة الذين يخالفونهم في الدين
وكذلك في العرق، باعتبار نسبة ثلاثة الأرباع للهنادكة مقابل الربع للمسلمين، وبالتالي
فإن تحكم الأغلبية الهندوكية في مؤسسات الدولة قد يكون ثابتا... ومن هنا لجوء
المودودي إلى عقيدة الولاء والبراء كما صاغها الخوارج وإعادة تبيئتها وإعطائها
دلالة أوسع، فبعد أن كانت ولاء تجاه حزب (حزب الخوارج) ستصبح ولاء لدولة، ومرة
أخرى ليس هناك بين بين، فإما دولة دينية وإما دولة علمانية لادينية جاهلية. إذن
كانت حرب المودودي على الديمقراطية، القومية، الوطنية والعلمانية حربا على الدولة
الهندية - بالأساس- ذات الأغلبية الهندوكية وحيث - كما رأى المسلمون- مصالح
الأقلية المسلمة في خطر، إنها السياسة إذن وليس شيئا آخر... والدليل أيضا على ذلك
هو لفظ "القومية الإسلامية" المعبرة عن مفهوم الولاء والبراء بعد توسيع
آفاقها- من حزب إلى دولة -، وبما أن القومية: "في حقيقتها، حركة سياسية تنادي
بحق كل أمة في أن تكون وحدة سياسية مستقلة" (محمد سعيد العشماوي، الإسلام
السياسي، سينا للنشر القاهرة، ط. الثالثة، 1992، ص. 150-149 و133)، فإن معنى
القومية الإسلامية -كما يرى العشماوي- أن تجعل من الإسلام حركة سياسية تسعى لكي
يكون المسلمون وحدة سياسية مستقلة. وقد كان للمسلمين الهنديين ما أرادوا، وفي غشت
1947 أعلن قيام دولة باكستان... في كتابه عن أبي الأعلى المودودي، حاول محمد عمارة
أن يبرز الفرق الكبير بين آراء الرجال والتي تختلف باختلاف الظروف - السياسية
طبعا- ونبّه على جملة ملاحظات من بينها: "أن الكثيرين من قراء المودودي
ومريديه - ومنهم سيد قطب- قد عزلوا نصوصه عن ملابساتها، فنظروا إليها كدِين، أو
على الأقل "نظريات إسلامية" عامة، ولم ينظروا إليها كفكر سياسي إسلامي،
صِيغ لملابسات متميزة وخاصة... وساعدهم على ذلك أن الرجل لم يقدم مقولاته
باعتبارها: الرؤية الإسلامية لمناضل مسلم في بيئة محددة، وإنما قدمها باعتبارها : "الإسلام"؟!...
ثم إن هؤلاء القراء والمريدين لم يلحظوا أن الرجل قد غير آراءه في الموضوع الواحد
عندما تبدلت الظروف والملابسات - وسيأتي في هذا الكتاب ذكر لكثير من هذه النمادج
والحالات-، وثانية هذه الحقائق: أن صياغات الأستاذ المودودي لكثير من مقولاته قد
ساعدت على كثير من اللبس والغموض والإبهام، الذي حال دون فهم حقيقة مراميه من وراء
هذه المقولات فحينا تكون الصياغات موهمة بغير ما يعنيه، وذلك بالتركيز على جانب من
الفكرة، وإهمال الضوابط وعدم الإشارة إلى الجوانب الأخرى- وستأتي، في ثنايا هذا
الكتاب، أمثلة على ذلك في عرضنا لفكره عن "الحاكمية" و"التكفير"
- وهما من أخطر المقولات التي أشاعت وتُشيع الغلو في صفوف كثير من الشباب
الإسلاميين... والحقيقة الثالثة: أن الكثيرين من تلامذة الأستاذ المودودي وأتباعه
لم ينتبهوا إلى أن الرجل كان "مفكرا مناضلا – إثاريا" يكتب للجماهير،
ومن ثم فلقد استخدم التحريض العاطفي مع الفكر النظري المنضبط، ولجأ إلى العبارات
المجازية مع المصطلحات العلمية، وشاع جميع ذلك واختلط في سياق صياغاته نظريات
سياسية إسلامية هي أشد ما تكون حاجة إلى الصياغة الدقيقة المنضبطة، لتعلقها
بالإسلام من ناحية، ولما يترتب عليها من الحكم على عقائد الناس من ناحية أخرى..."
(محمد عمارة، أبو الأعلى المودودي والصحوة الإسلامية، دار الشروق، القاهرة وبيروت،
1987، ص. 17 - 18). ونتساءل هل فعلا لم يفهم قراء ومريدو أبي الأعلى المودودي،
أفكاره جيدا، ومن ضمنهم سيد قطب؟ أم أن الرجوع إلى الظروف السياسية والتاريخية
المحيطة بأفكار قطب - مثلا- كفيلة لتوضيح المسألة؟!
بعد إقامة دولة باكستان، تعالت
أصوات فيها لإقامة «إسلامستان» أي الدولة الإسلامية العالمية!!؟ وجاء ذلك تزامنا
مع انتهاء الحرب العاملية الثانية وبروز معسكرين كبيرين، غربي تقوده
و.م.الأمريكية، وآخر شرقي يقوده الاتحاد السوفيتي، ومن ثم كانت استراتيجية المعسكر
الغربي تعتمد على الإحاطة والتطويق لحصار الكتلة الشرقية عامة والاتحاد السوفييتي
خاصة بسلسلة من الأحلاف العسكرية والسياسية المتصلة الحلقات، لذا جاءت نظرية
إسلامستان أو ماعرف بعدُ بجامعة دول إسلامية أو اتحاد الدولة الإسلامية، خصوصا
وأن: "أطول حدود مشتركة مباشرة للاتحاد السوفييتي هي مع دول إسلامية، ابتداء
على الأقل من الباكستان وأفغانستان عبر إيران حتى تركيا، هذا فضلا عن أن جسم
العالم الإسلام الأساسي في مجموعه بعد هذا ظهير ضخم للكتلة الشيوعية" (جمال
حمدان، العالم الإسلامي المعاصر، كتاب الهلال، 1993، ص. 199). إننا أمام مفهوم
الولاء والبراء وهو يزداد اتساعا، سيصبح الولاء لكتلة كبيرة تدافع عن الإسلام ضد
كتلة شيوعية ملحدة (كذا)، وليس هناك مرة أخرى بين بين! في هذه الفترة ازدحمت ألفاظ
المفهوم وتعايشت فيما بينها ـ أيضا لفظ القومية الإسلامية، إلى حين طبعا- ومع
الحكم الناصري في مصر سيكون التمايز أكثر وضوحا بين قسمين سياسيين: "القسم
الأول منه: كان بزعامة الرئيس عبد الناصر، يرفع راية القومية العربية، ويسمي نفسه
بالاتجاه التقدمي، بينما يقول خصومه إنه اتجاه علماني يوالي الاتحاد السوفييتي
(يقصدون بذلك تأويل العلمانية على مايفيد مضادة الدين). القسم الثاني منه: كان يضم
النُظم الأخرى التي كانت تفضل التكتلات الإقليمية بدلا من الوحدة الشاملة، وترفض
الاشتراكية نظاما، ويسمي نفسه بالاتجاه الديني أو المحافظ أو التقليدي، بينما يقول
خصومه إنه اتجاه رجعي يخدم الاستعمار الغربي" (محمد سعيد العشماوي، الإسلام
السياسي، ص. 154). وقد ركنت السعودية لاتهام القسم الأول بمعاداته للدين، وفي هذا
الإطار أنشأت المؤتمر الإسلامي ليضم جميع الدول الإسلامية، كما أسست الرابطة
الإسلامية لتعمل - كما يقول العشماوي- على مستوى الشعوب الإسلامية من خلال
المؤسسات المالية والتجارية ودور النشر والطباعة وبعض الفقهاء والكتاب، لذا رفض
جمال عبد الناصر الانضمام إلى هذا المؤتمر الإسلامي سنة 1966، إلا أن هزيمة 1967
والتي عملت على تقويض فكرة القومية العربية، قد جعلت عبد الناصر يعود للانضمام
بمصر للمؤتمر الإسلامي سنة 1969، ومن هنا يكون قد وضح لنا أسباب وملابسات آراء سيد
قطب، خصوصا إذا ما قارناها بما جاء في كتابه "معركة الإسلام والرأسمالية"،
فلم تكن الأولوية في هذا الكتاب للحاكمية ولا للولاء والبراء كعقيدة وحتى نظرته
للانتخابات كانت متزنة - إلى حد ما-، ولكن ولأن الأمور تسير في اتجاه معقد سياسيا
يتداخل فيه الدور الذي تمثله جماعة الإخوان المسلمين دوليا مع طموحهم الداخلي للاستيلاء
على الحكم كان لزاما أن تأخذ آراء سيد قطب منحى آخر: "لم يعد وطن المسلم هو
الأرض، إنما عاد وطنه هو دار الإسلام، الدار التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها
شريعة الله وحدها، الدار التي يأوي إليها ويدافع عنها، ويستشهد لحمايتها ومد
رقعتها (...) والأرض التي لا يهيمن فيها الإسلام ولا تحكم فيها شريعته هي دار
الحرب بالقياس إلى المسلم، وإلى الذمي المعاهد كذلك، يحاربها المسلم ولو كان فيها
مولده، وفيها قرابته من النسب وصهره، وفيها أمواله ومنافعه" (سيد قطب، معالم
في الطريق، دار الثقافة، الدار البيضاء، ودار الشروق، بيروت والقاهرة، 2000، ص.
157).
ما وقع بعد ذلك في عهد السادات لم يغير كثيرا في
مفهوم الولاء والبراء الذي صار ولاء لكتلة كبيرة أو حلف كبير، سوى أن هذا الولاء
صار وسيلة لعدد من الجماعات التي ظهرت في مصر وغيرها من أجل استدرار عطف السعودية
- مع الفورة النفطية- لملء جيوبها ريالات ودولارات... وأنور السادات نفسه إذ فسح
المجال لبروز التيار الديني، فمن أجل ضرب خصومه بهم أولا، وثانيا من أجل إعادة
تطبيع العلاقات مع السعودية لكي تقدم مساعداتها لمصر... وبعد سقوط جدار برلين، ومع
العولمة، سيأخذ مفهوم الولاء والبراء اتجاها آخر يدل على أنه - كمفهوم- يسير إلى
الاحتضار - سياسيا- إذ أصبح شباب الجماعات أو بعض المسلمين يتولون كل من يعارض -
ولو ظاهريا- و. م. الأمريكية، المهم أنه يظهر بمظهر المدافع عن الإسلام، وبن لادن
نفسه يشدد على النصرة بين المسلمين انطلاقا من عقيدة الولاء والبراء كمفهوم هذه
المرة يلتصق به لفظه..
3- الولاء والبراء عند حركة
التوحيد والإصلاح/حزب العدالة والتنمية: تعد عقيدة الولاء والبراء ركيزة
أساسية من ركائز الحركة/الحزب، نقرأ في ميثاق الحركة: "أما الولاء فهو خلق من
أهم أخلاق الإيمان، ومن مقتضياته المحبة والنصر، قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات
بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة
ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) (التوبة/ 72) وللولاء
قيمة خاصة فالله سبحانه أمر أن يكون دائرا بين المؤمنين خاصة وحصر المستحقين لهذه
الموالاة في (الذين يقيمون الصلاة ويوتون الزكاة وهم راكعون) (المائدة/ 57). وجعل
تحرير الموالاة لله ورسوله سببا في أهم أسباب الدخول في رحمته، كما جعلها شرط غلبة
حزب الله" (ميثاق حركة التوحيد والإصلاح، طبع طوب بريس، الرباط، 1998، ص. 29).
كما هو العادة دائما، عزل للنصوص عن سياقها التاريخي، وإهدار لبعدها التاريخي
أيضا، وبالمثل تقمص وضعية النبي، والأخطر من ذلك الإشارة إلى حزب الله بما يعني أن
مخالفيهم - سياسيا- هم حزب الشيطان !! وحصر دائرة الولاء في أضيق الحدود - إقامة
الصلاة وإيتاء الزكاة- مما يعني أن باقي المواطنين لا ولاء لهم حتى ولو كانوا
مسلمين - إذا لم يقيموا الصلاة مثلا- فإذا تعدى الأمر إلى المواطنين المسيحيين أو
اليهود، فإن الحديث هنا لن يكون إلا تحت اسم البراء، لا معنى هنا للوطن وللمواطنين،
كل شيء يقاس بالدين، لذا لن نستغرب إذا ما قرأنا ما يلي لأحمد الريسوني: "فمثلا
الزواج بالكتابيات جائز لا شك فيه، لكن إذا أصبح يفضي حتما أو غالبا إلى محرمات
ومفاسد راجحة الاعتبار، فإن منعه والإفتاء بتحريمه في الحالات المؤدية إلى المفاسد
والأضرار المعتبرة، يصبح لازما وصوابا، كما في زواج ذوي المناصب الخطيرة في الدولة
بيهوديات أو نصرانيات يصبحن أداة تجسس وإفشاء لأسرار الدولة، بشكل مقصود أو غير
مقصود، ويصبحن عنصر تأثير على صاحب المنصب، حيث يعي أولا يعي" (أحمد الريسوني،
الفكر المقاصدي- قواعده وفوائده، منشورات الزمن (ك.ج)، شتنبر 1999، ص. 102). كلام
كله عنصرية، خطير ومثير للفتنة وفحواه أن ذوي المناصب المهمة - بالأحرى- لا يجب أن
يكونوا لا يهودا ولا مسيحيين، ولو كانوا مواطنين مغاربة؟! هذا معناه أنهم مواطنون
من الدرجة الثانية، وهذه قمة العنصرية، وهذا مما يفيدنا في شيء آخر بأنه لا يمكن
لحزب العدالة والتنمية أن يكون حزبا مدنيا، لأنه ببساطة لا يمكن لمواطن مغربي
يهودي أو مسيحي أن يصبح فيه عضوا، مادام الحزب يقوم على أساس ديني وعلى أساس
الولاء بين أعضائه، جاء في ميثاق الحركة: "ومعنى هذا المبدأ أننا نرتبط في
الأصل بأخوة الإسلام ومودة الإيمان قبل أن نرتبط بعلاقات التعاون والعمل المشترك
داخل التنظيم، وهذا ما يجمعنا ويربطنا بسائر المسلمين الذين يجب أن نتبادل معهم
الأخوة والمحبة والتناصح والتناصر" (ميثاق حركة التوحيد والإصلاح، ص. 28).
يجوز إذن التناصر والنصر للمسلمين حتى لو كانوا في جزر الوقواق، ويمنع ذلك في
مواطن مغربي إذا كان مسيحيا أو يهوديا! وبقي سؤال حول المنجزات الكونية والإنتاجات
الأوربية والتكنولوجيا الغربية، هل هي أيضا مرفوضة برفض الولاء لأصحابها؟ أم أن
لها حكما آخر؟؟ أما القول بأنها شيء وفكر أصحابها شيء فهذا وَهْم! إن العقل
الأوربي وآلياته هي التي أنتجتها ولا ينفصلان أبدا، إلا إذا كنتم ستستفيدون منها
وأنتم تبطنون الكره لأصحابها وهذا ما أفهمه من كلام محمد يتيم: "ومظاهره
[الولاء] أيضا التشبه بالكافرين فيما كان علامة لهم وشعارا، ففي الحديث: (من تشبه
بقوم فهو منهم)، ومظاهر الولاء هذه تكون كفرا مخرجا عن الملة إذا كان الدافع إليها
محبة للكفار ونصرة لهم واتباع ومخالطة وطاعة لذات الكفر الذين هم عليه، ففي هذه
الحالة تصبح هذه المظاهر آثارا تعبر عما في قلب الموالي" (محمد يتيم، العمل
الإسلامي والاختيار الحضاري، منشورات جمعية الجماعة الإسلامية، البيضاء، 1989، ص.
69). إن لم تكن هذه انتهازية في التعامل مع الأوربيين فماذا تكون؟! ومع ذلك لا
أعلم إن كان عمر بن الخطاب وهو يتشبه بالفرس والروم في إنشاء دولته عبر إقامة
الدواوين ونظام الجندية، هل كان يضمر لهم الحقد؟ لا أعلم إن كان الفقهاء وهم
ينشئون أصول الفقه على أساس المنطق اليوناني (رواقيا كان أم أرسطيا) يضمرون الكره
والبغضاء لأرسطو ولليونان؟ لا أعلم...
4- سؤال الختام: أما آن
لمفهوم الولاء والبراء أن يزول كما زال مفهوم الجزية ومفهوم أهل الذمة، لأننا
اليوم ننشد وطنا به مواطنون بما للكلمة من معنى؟ ثم كيف سيتعامل أصحاب حزب العدالة
والتنمية مع قانون الأحزاب إن صودق عليه، خصوصا أن الباب الأول من مشروع قانون
الأحزاب السياسية تنص المادة الرابعة منه على أنه يعتبر باطلا وعديم المفعول كل
تأسيس لحزب سياسي يرتكز على أساس ديني أو يقوم بكيفية عامة على كل أساس تمييزي أو
مخالف لحقوق الإنسان؟
*نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية عدد الأربعاء 9 مارس 2005
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق