الجمعة، 16 يناير 2015

هل مات ابن المقفع مرتين؟، بقلم عبد الواحد بنعضرا*

هل مات ابن المقفع مرتين؟

عبد الواحد بنعضرا
فأدخل الطائر رأسه تحت جناحيه فوثب عليه الثعلب مكانه فأخذه فهمزه همزة دق عنقه ثم قال: يا عدو نفسه ترى الرأي للحمامة وتعلمها الحيلة لنفسها وتعجز عن ذلك لنفسك حتى يتمكن منك عدوك، ثم قتله فأكله. (عبد الله بن المقفع، كليلة ودمنه، باب الحمامة والثعلب ومالك الحزين- وهو آخر الكتاب- طبعة دار القلم بيروت 1986).

 1- ابن المقفع أم مالك الحزين؟ لغاية ما جعل ابن المقفع آخر حكاية في كتابه كليلة ودمنة هي قصة حمامة كانت تحت تهديد الثعلب تضحي بفراخها له، ثم توقفت عن ذلك بواسطة حيلة نصحها بها مالك الحزين -وهو نوع من الطيور- فلما علم الثعلب منها بما فعله هذا الطائر احتال عليه ثم قتله!! هل كان ابن المقفع يعلم أن نهاية كل واعظ هي الموت، حتى لو كان موتا رمزيا فقط؟! نعم كم من المواعظ ماتت بموت أصحابها، وكم من الحكايات والقصص والأمثال عاشت بين الناس في وعيهم وفي لا وعيهم أيضا، بل كم من مرة يحسم فيها نقاش ما بذكر مثل من الأمثال، رب قائل يقول هذا طبيعي لأن مجتمعاتنا شفهية، أو أن الأمثال تمثل نوعا من سلطة الأسلاف؟ ولكن هذا لا ينفي أن المثل -خصوصا إذا كان مرفوقا بقصة- يشكل جمالية ذات وقع خاص حتى في المجتمعات ما بعد الشفهية أو الكتابية... لغاية ما إذن كان باب الحمامة والثعلب ومالك الحزين آخر كتاب كليلة ودمنة، ولسبب ما أيضا سيموت مالك الحزين ناصح الحمامة والعاجز عن إيجاد حيلة لنفسه، لم ينفعه نصحه إذن!! وقد كان للحمامة الناصح الأمين!! هل كان ابن المقفع يتصور نهايته البشعة، وهو الناصح الأمين في كتابيه (كليلة ودمنة) و(رسالة الصحابة).. أطرافه قطعت وشويت على النار أمام عينيه، مات في النهاية بعد عذاب فظيع، وختم قصة حياته كما ختم مالك الحزين كتاب كليلة ودمنة. نعم كان ابن المقفع واعظا سياسيا وليس دينيا، ولكنه الوعظ على أي حال...

2- الكاثرسيس  في تعريفه للمأساة يقول أرسطو: «فالمأساة إذن هي محاكاة فعل نبيل تام، لها طول معلوم، بلغة مزودة بألوان من التزيين تختلف وفقا لاختلاف الأجزاء، وهذه المحاكاة تتم بواسطة أشخاص يفعلون، لا بواسطة الحكاية، وتثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات».(أرسطو طاليس، فن الشعر، ترجمة عبد الرحمن بدوي،دار الثقافة بيروت ط الثانية 1973، ص. 18 ). وقد أثارت نظرية التطهير أو الكاثرسيس كثيرا من التأويلات والقراءات، ويمكننا الأخذ هنا بتلك القراءة التي ترى بأن بإمكان الذين يعانون من انفعالات ما أو انحراف ما أن يعالجوا أنفسهم بمشاهدة المآسي التي تثير مثل هذه الانفعالات... إلى ماذا يقودنا هذا؟ إذا كنا نعتبر الإنسان مجرد بوق وصدى للغة ما، فإن هذا سيجعلنا نحمل هراوة لا قلما وعصا غليظة يسيل مدادها وعظا ويقطر عنفا وزجرا... أما إذا كنا نعتبر الإنسان تناصا أو كتابا متحركا تتفاعل فيه مجموعة من الكتب! فإن أ ي نقد يوجه إليه يجب أن يشعره أنه نقد الند للند، وليس نقدا ينزل من عل إما يخضع له خانعا مقموعا وإما يرفضه متمردا على كل شيء... إن رواية Les jardins de lumière لأمين معلوف تؤثر فيمن هو مستعد -ذهنيا واجتماعيا وماديا -للتخلي عن التطرف والتعصب أكثر مما تفعله خطبة عصماء أو موعظة نجلاء من فم خطيب مفوه، كذلك الحال في مسرحية Le tartuffe لموليير بالنسبة لمن يريد أن يرى النفاق يمشي على رجلين ويأكل بيدين.. إن قيمة العمل الأدبي والفني تتجلى بالخصوص في تلك الحميمية التي يخلقها الراوي مع القارئ التي تفتح باب العقول والقلوب بدون استئذان فإذا ببطل العمل الأدبي والفني يتلبس بالقارئ، وإذا بهذا الأخير يتقمص دورا من الأدوار التي يتعاطف معها، يسير معها وينشغل بهمومها يسائلها وتسائله، وقد يرى وجهه في المرآة واضحا مكشوفا، وإذا بالنهاية تكون نوعا من التطهير؟! ما معنى هذا، أن يصبح كل عمل أدبي فني عبارة عن منشور سياسي أو عبارة عن موعظة؟ أبدا، إنه عمل يجب أن يخضع لعناصر جنسه الأدبي وأن تصل الرسالة بطريقة فنية، حتى المبدع الذي يرفض أن يكون عمله رسالة موجهة لأحد ما، فإن عمله نفسه رسالة جمالية وما أجملها من قيمة نشيعها بين شبابنا، قيمة الجمال هذه هي أبلغ مواجهة مع العنف مع الإنحطاط والابتذال.

 3- تحليل نفسي: لماذا المسلمون أكثر من غيرهم مهووسون بإلقاء الخطب على بعضهم البعض وكثيرا ما تحولت النصيحة إلى فضيحة، هل بيننا من هو كامل حتى يعطي لنفسه الحق في نصح الآخرين وقصفهم من برجه العالي بكلام قد يجرح أكثر مما يداوي ويشفي، ألا يؤشر هذا على انجراحات نفسية يعيشها سكان المنطقة، ألسنا في كثير من نصائحنا للآخرين نعبر أكثر على نقصنا وعلى أننا نسقط على الآخرين الصورة المثالية التي عجزنا عن الوصول إليها- لأن الإنسان سيبقى إنسانا-، وبالتالي إذا ما تركنا جانبا ماهو سياسي واقتصادي، أفلا تعبر كثرة مواعظ الفقهاء عن إنجراحاتهم النفسية بسبب ما سبق ذكره، وبسبب العجز أيضا، فالعطالة الفكرية والإنسحاب من الحضارة والنقص في المعرفة، والهروب عن العمل والمساهمة في التنمية ستدفع الفقهاء إلى مزيد من اللغو.. في حديثه عن الفقيه/ الشيخ والذي مازال يتقمص دور الكاهن، يقول على زيعور:« ولأنه امتص دور الكهل فهو لايشتغل. وبالتالي فهو لاينخرط في جذور المجتمع، يبقى بعيدا، يرى من الخارج مشكلات الآخر. يتصورها، لايشاطر، وقل أن يساهم. وفي تحليلي أن من أكبر دوافع أنشداده إلى الوراء كونه لايعيش الواقع أي أنه لايعمل، بل يعيش من تعب الآخرين. يعيش من الغير، ولذا يفكر في الأقدمين، في المكتوبات والمدونات، لافي العياني والحسي. إنه خارج الظروف، كأنه يتفرج(...) عصابه ذو علائق مع ربطه للدين بالموت، ومع ثقافته البعيدة المضبوطة، وحملاته على الجسد تغليبا للأخروي، وتشبثه رافضا النضج والتكيف». ( علي زيعور، التحليل النفسي للذات العربية، أنماطها السلوكية والأسطورية،دار الطليعة بيروت ط الثالثة1982، ص. 187 و 188) . ما يحتاجه شاب اليوم أو طفل اليوم، ذكرا كان أم أنثى، هي الثقافة وليس الوعظ، هو الفن وليس الزجر، هو الحوار وليس الردع، هو التساؤل وليس القمع!؟ وكثرة الوعظ اليوم ستلعب دورا خطيرا في تشويه المبنى والمعنى معا، إذ عندما يرتبط كل سلوك قويم بالثواب وكل فعل مشين بالعقاب لن يترك هذا عند الطفل مثلا سوى ربط للخير بالربح وللقبيح بالخسارة وهذا سيقود الطفل إلى سلوكات انتهازية بدل اتيان أفعال خيرة.. لوقام ابن المقفع من موته لقال للفقهاء اليوم لاتقتلوني مرتين!! فهل نستطيع اليوم أن نحترم الإنسان كإنسان ونهديه بدل الموعظة كتابا قصة كان أم رواية أم شعرا أم مسرحية، هل أن لنا أن نحتفي بالكتاب؟ وعندما أقول الكتاب أضيف للأصناف السالفة أيضا الكتاب العلمي والنقدي وكل نوع من الكتب قادر على أن يجعل من الإنسان إنسـانا لاصدى أو بوقا...

*  نشر بالأحداث المغربية عدد الاربعاء 23 فبراير 2005


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق