الإسلام الأرثوذوكسي الجديد
عبد الواحد بنعضرا
استطاعت الحركات السلفية أن تنجح في إيهام الشباب المسلم بإمكانية الوصول إلى الإسلام الصحيح عبر الرجوع مباشرة إلى الأصلين الرئيسيين عن طريقة قراءة "السلف" لهما. وليس هذا النجاح مرتبطا فقط بغياب الحس النقدي لدى هؤلاء الشباب، بل وبالأساس لأن العقل في البلاد العربية -الإسلامية لم يتحرر بعد، وخاصة، من الآليات التي عمل بها الفقيه، ولم يستطع كثير من المفكرين تغيير الفكرة، لأنهم في الأساس تباروا في نفس الساحة «السلفية».
من المعلوم أنه في ظل الصراعات السياسية بين
الأمويين (ثم
العباسيين) وبين المعارضين (الشيعة والخوارج)، تبنت
الدولة الحاكمة تفسيرا معينا للقرآن، ووضعت أحاديث تدعم
بها مشروعية حكمها، وكانت النتيجة إسلاما رسميا، وشرعية رسمية،
بالمقابل اعتبرت الدولة الحاكمة ما يقوله الشيعة والخوارج، وبقية المعارضين، مجرد بدعة وافتراء على الدين، ونشأ بالتالي ما يسمى بالإسلام
الأرثوذوكسي. وهو أرثوذوكسي، لأن الفقهاء المعتمدين من طرف
السلطة- كما يقول محمد أركون- أكدوا على إمكانية قراءة
مطابقة لما أراد أن يقوله الله، ومعرفة التراث/السنة النبوية بشكل شامل من أجل استنباط جميع الأحكام التي ستكوّن الشريعة انطلاقا من هذين
الأصلين القرآن والتراث-السنة- النبوية ... فعندما نقرأ لمحمد عزيز الحبابي بأن
التصوف من بين الأسباب المهمة لاندحار الإسلام، وبأنه دخيل على الإسلام، وقد عمل التصوف على تغيير الروح الأصلية للإسلام واجتاح كل
بنياته: فمعه
بدأ المسلمون يتعاطون لكل أنواع القدرية والجبرية... وبالمقابل
يدافع الحبابي عن السلفية باعتبارها الطريق إلى الاجتهاد.. نستشف إذن تحليلا بسيطا، وانتقائية بعيدة عن الشروط التاريخية لبروز تيار من
التيارات!! وإذا تجاوزنا مسألة فكر دخيل أو أصيل باعتبار
الإنسانية هي تداخل للحضارات والأفكار، فإن الصوفية في
مبدئها، كانت تعبيرا عن حركة معارضة. في هذا الإطار يقول مهدي عامل، بأن الصوفية تنطلق من أن للنص ظاهرا وباطنا، يفرض أن على المؤمن، كي يكتمل
إيمانه في
الإسلام، أن يتجاوز الظاهر، الذي هو حيز الشرع، نحو
الباطن، الذي هو حيز الحق.. ولهذا التمييز بين الشريعة والحق دلالة
نظرية وسياسية كبيرة، فتحديد الشريعة بأنها ظاهر الحقيقة
هو قول يستدعي بالضرورة التأويل، والتأويل ليس واحدا.. والتأويل الصوفي والإشراقي يحدد الشرع كعائق هو ظاهر يحول دون الوصول إلى باطن
هو الحق، هكذا ينزع هذا التأويل على الشرع قدسيته،
ويفرض ضرورة تخطيه كشرط لإدراك الحق في ذاته لا في ظاهره. إذ
كانت غاية الإسلام هي الحق لا الشرع... (كتاب "نقد الفكر اليومي").
الصوفية
كانت تسعى إذن لمواجهة استبداد النظام الحاكم عبر كشف زيف
ادعائه بأن تفسيره للقرآن هو التفسير الصحيح.. قبل أن ينتبه
الحاكمون ويعملوا بتلك الحكمة المعروفة: وداوها بالتي كانت هي
الداء، ليشجعوا على بروز صوفية سلبية تعبر عن دروشة واعتزال ومسكنة لا تحرك للسلطة ساكنا ولا تزعزع لها قاطنا، بل وأصبحت تدافع عن مصالح
الطبقة
الحاكمة وإيديولوجيتها، كما فعل أبو حامد الغزالي في
انتقاده للشيعة في كتابه "فضائح الباطنية"، والذي يعترف في مقدمته بأنه
كتبه تنفيذا لأوامر الخليفة العباسي أحمد المستنصر بالله.
عندما يقوم محمد عابد الجابري بالحديث عن العقل المستقيل-العرفاني
بالنسبة للصوفية والشيعة، ألا يحق لنا أن نتساءل أين كانت هذه الاستقالة؟ عند الحركات المعارضة أم عند الجماهير؟ بالنسبة للجماهير
فنعم، وإلى
غاية اليوم!!.. أما بالنسبة للحركات المعارضة فهي استقالة
عن منطق العقل الإسلامي الأرثوذوكسي أو ما يسميه الجابري بالعقل
البياني، وبالتالي فهي طريقة لنزع الشرعية عن النظام الحاكم
باسم إسلام أرثوذوسكي، يجد تبريره بواسطة عقل أرثوذوكسي.. لقد وصلنا اليوم تراث كبير، متناقض في جله، عاكسا الصراعات السياسية
المتمثلة أيضا في ثرات «أرثوذوكسي» وآخر «بدعوي»، فتفاسير
القرآن كثيرة ومختلفة، فتفسير الطبري مختلف عن تفسير
الزمخشري مختلف عن تفسير ابن عربي، وصحيح البخاري عند السنة يقابله الكافي للشيخ الكليني عند الشيعة، وتاريخ الطبري يختلف عن تاريخ اليعقوبي..
والصوفية التي يجعلها الحبابي سببا لتراجع الإسلام
والمسلمين، هي عند مهدي عامل حركة ثورية، تماما مثل التيارات
الشيعية، وابن رشد الذي يرفعه الجابري على رأس البرهان والعقل، لا يرى فيه مهدي عامل سوى فكر رجعي شأنه في ذلك شأن المعتزلة باعتباره فكرا
يعتمد على
التأويل وبالتالي فهو يشتغل ضمن نفس المنطق العقلي للنظام
الحاكم وليس من اختلاف بينهما إلا في حدود الدلالة اللفظية.
والتاريخ الأرثوذوكسي يقابله تاريخ مسكوت عنه، ومثلما تماما،
يكتفي البعض عند السنة بالتعليق على الخلافات بين الصحابة والمعارك التي سالت فيها دماء المسلمين بأن هذا نتيجة اجتهاد بين الصحابة،
للمصيب عشرة أجور وللمخطئ أجر واحد... هناك من الشيعة من
يعتبر هذه النزاعات هي مؤامرات لسلب عليّ حقه في الحكم
وإخفاء لوصية النبي له بخلافته. وكما يعتبر البعض الحروب التي قام بها أبو بكر ضد القبائل العربية حروب ردة تبعا للتاريخ الأرثوذوكسي، فإن
بعض النصوص قد تسمح للبعض باعتبارها حروبا من أجل فرض
السلطة وتسميتها بالتالي حروب الصدقة. وبقدر ما قد رسخ في
ذهن الكثيرين أن عبد الله بن سبأ هو المحرض على الثورة ضد عثمان بن عفان، وهو الرأي الذي تبناه مفكر مثل أحمد أمين في كتابه "فجر
الإسلام" وبعده حسن إبراهيم حسن في كتابه "تاريخ
الإسلام.." نجد طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى" يعتبر كثيرا مما قيل عن عبد الله بن سبأ هو مبالغة كبيرة، ويصل الأمر
عند مرتضى
العسكري إلى تأليف كتاب كبير من جزأين يصل فيه إلى عدم
وجود هذا الرجل في الحقيقة والواقع، وأنه مجرد اختراع لراوية اسمه
سيف التميمي من أجل تشويه الحركة المعارضة للأمويين عامة
ولعثمان بن عفان خاصة.
إن الحضارة الحديثة قد أتاحت فرصة بروز علوم إنسانية جديدة
أنثربولوجية ولسانية واجتماعية.. وظهور عقل كوني - ما بعد حداثي- قادر على
تفكيك كثير من الشيفرات وتحديد الشروط الموضوعية والتاريخية لبروز ظاهرة من الظواهر... وإذا كان همّ الكثيرين منا هو إبراز إسلام متنور عقلاني - نظرا
للظروف
العالمية - فإن هذا لا يجب أن يمر عبر خلق إسلام أرثوذوكسي جديد، وانتقاء حركة أو تيار من التيارات كممثل لهذا الإسلام
الأرثوذوكسي
"العقلاني"،
وانتقاء نصوص بعينها، لأن هذا لن يحرك أي شيء لدى الجماهير، وسيبقى العقل لديها مستقيلا. وبما أن الساحة هي نفسها، فإن النصوص حمالة أوجه
ويستطيع كل
من يريد، أن يسقط عليها توجهاته وطموحاته سواء السلمية أو
العنيفة!! إذا كانت المعركة التي خاضها كثير من المفكرين في
البلاد العربية- الإسلامية تستهدف إقامة مجتمعات مدنية
مبنية على العدالة وتوزيع الثروات واحترام حقوق الإنسان، فإن الإسقاطات
الممارسة على الماضي كالشخصانية في الإسلام والديمقراطية أو الاشتراكية أو الليبرالية في الإسلام ستجعل المعركة في عمقها تأخذ طابع
إيمان/كفر.. مادام العقل مغيبا لدى الجماهير التي تمشي تبعا
لنفس المنطق، منطق الثنائيات.. وستزيد من عمق الأزمة أن
توجد حركات معارضة تعتمد ما كان ذات يوم نقدا واحتجاجا وصار اليوم نوعا من الهلوسة والوسوسة أو الدروشة، إذْ ما كان بالأمس ثورة على
التفسير
الأورثوذوكسي لا يستطيع اليوم بنفس تلك الآليات أن يكون
ما كانه في الماضي... وإذا كان المجال السياسي بالأمس منحصرا في
الدين أي لا فرصة لممارسة السياسة إلا في الدين، فإن
إمكانات الحاضر وبروز وعي جديد للإنسان بشروطه، يحدد للسياسة مجالا واضحا للممارسة، لا يختلط فيه الدين بالسياسة ولا يتداخلان.. إن
الكثيرين يسقطون طموحاتهم على الماضي، فمن يريدها دولة دينية.
يحكي بأن النبي كان قائدا روحيا وزمنيا، ومن يريدها دولة
علمانية يروي أن النبي لم يكن قط قائد دولة، عبر انتقاء كليهما لنصوص
معينة لتدعيم نظريته. بيد أن العقل الكوني- ما بعد الحداثي لن يقع في هذا الإسقاط، فهب أن النبي كان قائد دولة أيضا إضافة إلى مكانته
الدينية، فهل هذا يعني إقامة دولة دينية اليوم، أبدا، فإذا
كانت الشروط التاريخية تسمح بذلك في تلك الفترة، فإننا
اليوم في زمن آخر والشروط تسمح بفصل السياسة عن الدين، بل إنه لم يكن ممكنا في ذلك الوقت إلا أن نرى ارتباطا للسياسة بالدين والقبلية، بل
حتى الدين
بالنسبة لكل قبيلة كان فرصة لها للتعالي بخصوصيتها بل
ولهيمنة ممكنة على قبائل أخرى، وهذا دور الأنثروبولوجيا لكي تكشف
عنه. وكذلك القول بأن الإسلام يختلف عن المسيحية
باعتبار المسيح قد أعلن (اعط مال لله لله، وما لقيصر لقيصر)، فلتفادي الدوران في حلقة مفرغة يجب الرجوع إلى الشروط التاريخية لنشوء كل دين،
فإن غياب
سلطة مركزية في الجزيرة العربية إبان ظهور الإسلام، يختلف
عن ظهور المسيحية في فلسطين التابعة للسلطة المركزية في روما،
وبالتالي لم يكن بإمكان المسيح الحصول على سلطة زمنية ومع
ذلك- كما يرى محمد أركون- فإن المسيح قد قام بعميلتين مهمتين: لقد تفادى المواجهة المباشرة مع السلطة السياسية لروما، ولكنه طرح ضمنيا
مشكل شرعيتها
لأنها غير مستمدة من السيادة الروحية العليا للإله الموحي
في شخص المسيح،
(Ouverture sur l’Islam)، فالأديان في خطوطها العريضة متشابهة، وكلها تنطلق مما يسميه مارسيل كوشي Marcel Gauchet بـ "دَيْن المعنى" (La dette de sens)، وإن الدراسات
المقارنة للأديان حاليا يمكنها من إبراز نقط الالتقاء بين الديانات فيما بينها وأيضا بينها وبين الحضارات القديمة البابلية والمصرية.. إن البعض
يحاول سلب
المرأة حقوقها عبر التأكيد أن هناك دراسات تبين أن هناك
فروقا بين المرأة والرجل من حيث القوة أو من حيث الذكاء... بل لقد
وصل الأمر بأحدهم إلى اعتبار: الضرب والهجر من الإعجاز
العلمي في القرآن (مصطفى محمود، حوار مع صديقي الملحد)؟؟؟ فعوض الدوران حول تأويلات وتأويلات مضادة، يجب على الباحثات والباحثين مساعدة المرأة
على الوعي
بشرطها، وهنا يتدخل العقل بكل ما تتيحه الدراسات والعلوم
الإنسانية الحديثة من كشف الظروف والشروط التاريخية، في ظل مجتمعات
ذكورية بطريركية طبقية، التي أدت إلى ظهور أحكام متشددة
نحو المرأة انعكست في كثير من الأفكار القديمة بل وحتى في الديانات، ومازالت تجد لها اليوم صدى لعدة أسباب يتلزم توضيحها أيضا!!... إن على
المفكرين ألا
يضيعوا هذه الفرصة من جديد، أمام الإمكانات العلمية
الحديثة وأمام تغيير شروط الوعي، من أجل تحرير العقل من استبداد
العقلية الفقهية الانتقائية، ومساعدة الجماهير على
التخلص من وعيها المزيف...
* نشر في جريدة "الأحداث" المغربية عدد الأربعاء 22 دجنبر 2004
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق