فقه التخلف
عبد الواحد بنعضرا
1- ممارسة السلطة عبر الجنس: لا أعني بفقه التخلف، جمود الفقه وتخلفه، فقد
سبق أن تحدثت عن هذا عند تناول فقه الأزمة (الأحداث المغربية 19 نونبر 2003) وقلتُ
أن النص ثابت وبما هو كذلك فهو محدود وأقصى ما فعلوه هو التأويل ووضع الأحاديث، وكلاهما
قد استنفذ نفسه، ففي الأزمة حيث تجتمع المتناقضات وحيث يتراوح المؤشر بين التقدم
والتخلف، بين الحداثة والرجعية... يمكن لفقيه أن يأخذ رأيا بالتحريم حسب المرحلة،
ويأخذ رأيا بالتحليل حسب مرحلة أخرى، وفقهاء الأزمة في هذا تياران فواحد تابع
للنظام الحاكم يبرّر له قراراته، وتيار آخر أشد خطرا هو ذاك الذي يقوده يوسف
القرضاوي ومن وراءه، حيث ينحنون للعاصفة حتى تمرّ وأعينهم على الهدف البعيد إقامة
الدولة الدينية والعودة إلى الفتاوي التي يحنّون إليها كما يحنون إلى قطع الأيادي
والأطراف من خلاف... وهو تيار له فروع في العالم وطبعا له أصحابه في المغرب
أيضا...
أعني إذن أن كل ظرف ينتج فقهه، فالأزمة تنتج فقهها،
والتخلف ينتج فقهه، كما أن التطور ينتج ثقافته التي من أول مبادئها حرية التعبير.
وأركّز هنا على أبرز فقهاء التخلف فقهاء السعودية
والملحقين بهم، وكما أن لفقه الأزمة خصائصه، فكذلك فقه التخلف فمنها ما يشترك به
مع الفقه الآخر وخاصة تزييف الوعي عبر اختزال كل شيء في الدين، بل إن فقه الأزمة
يتقاطع مع فقه التخلف أحيانا إن صعودا وإن
نزولا ــ لو تحولت الدولة إلى تيوقراطية ــ. وسأتناول أهم خصائص هذا الفقه
وأولها: "ممارسة السلطة عبر الجنس".
وإذا كان الحديث عن ممارسة السياسة في الدين ممكنا عند
بعض الحركات المعارضة التي مرّت قديما، فإن الأمر يختلف اختلافا كليا بالنسبة
لفقهاء التخلف في السعودية، ولا يجهل أحد هذه الحرب الضروس التي يشنها هؤلاء
الفقهاء بلا هوادة على كل ما يرتبط بالمرأة. ومن المعروف أن أي حركة إصلاحية تريد
التغيير تبدأ أول ما تبدأ بالحديث عن الحريات وخاصة فيما يتعلق بوضعية المرأة،
ووأْداً لهذه المحاولات في مهدها لجأ ويلجأ فقهاء السعودية إلى اختزال المرأة في
موضوع جنسي، وجعل كل ما يرتبط بالتغيير مجرد وسائل للإباحية والرذيلة وغرضا جنسيا،
وسيرددون ما نطق به ابن القيم عن الغناء بأنه رقية اللواط والزنا وسيركبون على
الموضوع الجنسي (المرأة/ الغناء/...) لمحاربة أهم وسيلة للتعبير، وهي الإعلام،
وهكذا سنجد مثل هذه الفتاوى:
"ما دام التلفزيون اليوم يرمي في أكثر برامجه إلى
إهدار الشرف، ويوجه نحو الفساد والإباحية، ويشجع على السفور والاختلاط فإن
اقتناءه، والاستماع إلى برامجه، والنظر إلى مشاهده، يُعد من أكبر الحرام، وأعظم
الإثم" (عبد الله ناصح علوان، حكم الإسلام في وسائل الإعلام، دار السلام، ط.
السادسة، 1986، ص. 9).
"وباعتبار أن الاستماع إلى الموسيقى والمعازف محرم
بالنص (...) لهذه الاعتبارات كلها كان اقتناء الجهاز التلفزيوني محرما لما يصاحب
هذه البرامج الترفيهية من معازف وموسيقى، وغناء ماجن، ورقصات فاجرة، كان النظر
لهذه البرامج محرما كذلك لما لها من خطر في تقويض دعائم التربية والأخلاق"
(نفسه، ص. 10-11).
وللصحافة طبعا نصيب: "... بل أصبحنا نسمع عن مجلات
ليس لها من غاية سوى الدعوة إلى الإباحية الفاجرة، والوجودية الداعرة، والإلحادية
الكافرة... حتى ينزلق الشباب والشابات في متاهات الرذيلة ويتخبطوا في أوحال
الفاحشة، ويسقطوا في مهاوى الإلحاد. ومن وراء هذه الصحف قيادات يهودية وماسونية
واستعمارية وشيوعية وصليبية" (نفسه، ص. 32).
وطبعا لا يوجد شيء اسمه فن أو تمثيل ، وإن وُجد فبهذه
الشروط: "ألا يظهر في التمثيل نساء ورجال، أو نساء يراهن رجال، لكون الإسلام
يحرّم السفور والاختلاط والخلوة بالمرأة الأجنبية والنظر إليها..." (نفسه، ص.
47).
يتحول كل شيء إلى موضوع جنسي تجب محاربة من يدعون إليه.
يمارس الأمراء إذن سلطتهم بواسطة الفقهاء عن طريق الجنس، وللمفارقة، هذا في الوقت
الذي لا يُسمعُ لهؤلاء الفقهاء همس، ولا يشير لهم بنان وتنبس لهم شفة إلى ما يفعله
أمراؤهم من فضائح في أوروبا وغيرها، ويسكتون عمن بلغ إسرافهم ملايين الدولارات في
ليالي القمار وفيما يعرفه الجميع.
بينما تجد صوتهم مرتفعا في أمور لا تعيد حقوقا لأحد، ولا
تنصف مظلوما ولا مهضوما، ويصبح أي كلام عن حقوق الإنسان والحريات وتوزيع الثروات
عبثا، ويصل بهم الأمر إلى إخراج فتاوي إن لم تكن هي الإرهاب، فماذا يمكن أن نسمي
الإرهاب، انظر مثلا فتوى ابن العثيمين حول من له أهل لا يصلّون:
"إذا كان هؤلاء الأهل لا يصلّون أبدا فإنهم كفار،
مرتدون، خارجون عن الإسلام ولا يجوز أن يسكن معهم ولكن يجب عليه أن يدعوهم ويلح
عليهم ويكرر لعل الله يهديهم لأن تارك الصلاة كافر والعياذ بالله" (أسئلة
مهمة، ط. الثانية، 1407هـ، ص. 11).
ويترتب عن هذا الحكم أمور منها حسب ابن العثيمين: "أنه
[تارك الصلاة] إذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين،
فماذا نصنع به؟ نخرج به إلى الصحراء ونحفر له وندفنه بثيابه لأنه لا حرمة له"
(نفسه، ص. 13).
أعلم عزيزي القارئ أن عينيك جاحظتان لا تغادران إلا
بصعوبة هذا الكلام، فكيف يسكت الأمراء على مثل هذه الأفكار الملغمة، وعلى فقهاء لا
ينتجون أي شيء، ويعيشون في عطالة فكرية دائمة، ولا يقف الأمر بأنهم لا نفع لهم، بل
إن ضررهم كان بالغا وهم يصنعون ويخلقون قنابل بشرية، فيغدق عليهم الأمراء بأغلفة
مالية كبيرة، وبإنعامات عديدة، ولكنه المثل البدوي الذي يحفظونه جميعا أمراء
وفقهاء، والذي يقول اشهد لي بعنزة أشهد لك بجمل، وقد شهد الأمراء للفقهاء بعنزة
فشهدوا لهم بجمل في سنامه بترول.
2- الأخذ بأشد الآراء بداوة: هكذا يشتغل فقهاء السعودية ويشغلون الناس في
فتاوي لا طائل وراءها سوى هدر الطاقة وجر الجميع إلى معارك وهمية من قبيل إسبال
الإزار وحف الشارب وإعفاء اللحي، و "النهي عن تصوير ما فيه روح في الثياب والجدران
والورق وغيرها، سواء كان مرسوما أو مطبوعا أو محفورا أو منقوشا أو مصبوغا بقوالب
ونحو ذلك، وإن كان لابد فاعل فليصنع الشجر وما لا روح فيه" (محمد صالح
المنجد، التنبيهات الجلية على كثير من المنهيات الشرعية، دار القاسم، الرياض،
1419هـ، ص. 23).
كذلك
من الأمور "الهامة": "النهي عن الاستنجاء بالعظم، لأنه زاد إخواننا
من الجن وعن الاستنجاء بالروث لأنه علف لدوابهم" (نفسه، ص. 10).
من
يقرأ مثل هذا الكلام، ويرى أيضا معركتهم العظيمة "معركة الذباب" حيث
يروون عن أبي هريرة أنه إذا سقطت ذبابة في إناء فيجب غمسها جيدا قبل شرب ما فيه،
وإذا سقطت فأرة في السمن فحسب أبي هريرة أيضا إذا كان السمن جامدا طُرِح محل سقوط
الفأرة واكل الباقي، قلتُ من ينظر إلى كل هذا سيظن أن العرب قد خرجوا للتو من كهف
أشد إظلاما من الليلة الظلماء ما زالوا في صراع مع الهوام والقمل، وأدواتهم
بدائية: حجر وعظم.
هذا،
إذن، مجتمع البداوة والصحراء ينطق، وتأمل هذا الكلام: "النهي عن النوم في بطن
الوادي ومجرى السيل" (نفسه، ص. 26). أرأيت؟ فقه بدوي غارق في البداوة، وإذا
كان المقصود بهذا الكلام من لا يجد مأوى أو دارا ينام فيها ويحتمي بها، فأعتقد أن
الذي يصل به الأمر إلى هذا الحد فإنه لا ينتظر مثل هذه الفتوى، بل يترقب شيئا آخر،
وسيأتيه الرد، ولكنه بشيء آخر: انظر: "والنهي أن ينظر الإنسان إلى من هو فوقه
في أمور الدنيا، بل ينظر إلى من هو أسفل منه حتى يعرف نعمة الله عليه فلا
يزدريها" (نفسه، ص. 30).
فطوبى
لأمرائهم بطول تمتع بدون حسيب ولا رقيب. هذا ومن منا لا يذكر تلك الفتوى العلمية
البدوية التي أصدرها ابن باز تحت عنوان: " الأدلة النقلية والحسية على إمكان
الصعود إلى الكواكب وعلى جريان الشمس والقمر وسكون الأرض"، ومما جاء فيها:
"فلقد "فلقد شاع بين كثير من الكتاب والمؤلفين والمدرّسين في هذا العصر
أن الأرض تدور، والشمس ثابتة، وراج هذا على كثير من الألسن، وكثر السؤال عنه،
فرأيت من الواجب أن أكتب في هذا كلمة موجزة ترشد القارئ إلى أدلة بطلان هذا القول
ومعرفة الحق في هذه المسألة، فأقول قد دلّ القرآن الكريم، والأحاديث النبوية،
وإجماع علماء الإسلام، والواقع المشاهد على أن الشمس جارية في فلكها كما سخرها
الله سبحانه وتعالى، وأن الأرض ثابتة قارة قد بسطها الله لعباده وجعلها لهم فراشا
ومهدا وأرساها لئلا تميد بهم..." (مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، ط. الثانية،
1402هـ، ص. 21).
3- حدثني عبد الجبار نيازي قال: مرت دبابة وأنا أرى على مجاهد اسمه (غلام محيي
الدين) وبقي حيا: من الخصائص الأخرى التي يتميز بها فقه التخلف هو الإغراق في الخرافة،
فإضافة إلى ما يشترك به مع فقه الأزمة من أمور المسيح الدجال وحوارات مع الجن
والمهدي المنتظر، هناك أشياء أخرى مثلا: "النهي عن إخراج الصبيان خارج البيت
عند غروب الشمس حتى يشتد السواد لأنها ساعة تنتشر فيها الشياطين" (محمد صالح
المنجد، م.س، ص. 31).
والنهي "عن ترك اللقمة إذا سقطت، بل يزيل عنها الأذى ولا يدعها للشيطان" (نفسه، ص. 25).
والنهي "عن ترك اللقمة إذا سقطت، بل يزيل عنها الأذى ولا يدعها للشيطان" (نفسه، ص. 25).
ومن
الملحقين بفقهاء السعودية نجد أحدهم يسمى الدكتور عبد الله عزام، يؤلف كتابا اسمه
"آيات الرحمان في جهاد الأفغان" فماذا نجد في هذا الكتاب/الأكتوبة؟
أشياء تستغرب كيف تجد لها في هذا الزمن موضع قدم ومكانا تحت الشمس، وحتى لا أطيل
على القارئ العزيز أقتبس منه بعض فقرات فهو مليء بهذه الفقرات وأكثر، فمما جاء
فيه: "حدثني جلال حقاني: أعطيت مجاهدا يضع رصاصات ونزل المعركة وأطلق رصاصا
كثيرا ولم تنقص الرصاصات وعاد بها" (الناشر المجتمع، جدة، ط. الخامسة، 1985،
ص. 108).
"حدثني
عمر حنيف قال: لقد جاءت الأفاعي مرارا تبيت مع المجاهدين في فراشهم ومنذ أربع
سنوات لم تلدغ أفعى مجاهدا على كثرتها" (نفسه، ص. 110).
وفي
مكان آخر: "حدثني عبد المنان فقال: كنا ثلاثة آلاف مجاهد في مركزنا فجاءت
الطائرات وألقت علينا ثلاثمائة قذيفة نابالم فلم تنفجر ولا واحدة ونقلناها جميعا
إلى كؤته (بلد باكستاني فيه مجاهدون)" (نفسه، ص. 111).
"حدثني
جلال الدين: لقد رأيت الكثير من المجاهدين معي يخرجون من المعركة وألبستهم مخرقة
من الرصاص ولكن لم يدخل جسدهم رصاصة واحدة" (نفسه، 111).
أما
الذين يموتون منهم ــ لا أعرف كيف يموتون والرصاص لا يخترق أجسادهم ــ فإن هؤلاء
الشهداء لا تتغير جثثهم، بل تنبعث منهم رائحة طيبة: "حدثني محمد شيرين:
استشهد معنا أربعة مجاهدين في مكان اسمه بوت وردك. وبعد أربعة أشهر وجدنا لهم
رائحة عطرية كالمسك تنبعث منهم" (نفسه، ص. 125).
وهكذا
الكتاب/الأكتوبة شأنه شأن باقي الأفكار البدائية التي يصدرها فقه التخلف لغاية في
نفس الأمراء من جهة، وفي نفس من لا يريد لهذه الشعوب أن تفيق من نومها العميق.
ومثل
هذه الكتب يتأسف عليها أولئك الذين أعرفهم وتعرفهم عزيزي القارئ أنها كانت غائبة
عن معرض الكتاب الأخير. وعندما تسمع إقبالا على "الكتب الدينية" فقد
عرفت عبر هذا المقال عينة منها، وتعلم لماذا يتأسفون أن حضرت دار نشر واحدة سعودية
إلى جانب الجناح السعودي الرسمي !!! فهم لا يكفيهم إلا أن تغرق البلاد في هذا المستنقع الآسن، ولتعلم
أنه لا فرق بين فقه الأزمة وفقه التخلف إلا من حيث المرحلة أي الدرجة أما في العمق
فإنه فكر يصدر عن منبع واحد، ولذا لا تستغرب أن ترى فتاوى فقهاء التخلف تنتشر في
الكويت ومصر، والمغرب... ولتصبح المعركة أكبر من معركة الذباب إنها اليوم ملحمة
الذباب والحجاب.
* نشر
بجريدة الأحداث المغربية عدد الأربعاء 3 مارس 2004