الأربعاء، 28 يناير 2015

فقه التخلف، بقلم عبد الواحد بنعضرا*

فقه التخلف
عبد الواحد بنعضرا

1-   ممارسة السلطة عبر الجنس: لا أعني بفقه التخلف، جمود الفقه وتخلفه، فقد سبق أن تحدثت عن هذا عند تناول فقه الأزمة (الأحداث المغربية 19 نونبر 2003) وقلتُ أن النص ثابت وبما هو كذلك فهو محدود وأقصى ما فعلوه هو التأويل ووضع الأحاديث، وكلاهما قد استنفذ نفسه، ففي الأزمة حيث تجتمع المتناقضات وحيث يتراوح المؤشر بين التقدم والتخلف، بين الحداثة والرجعية... يمكن لفقيه أن يأخذ رأيا بالتحريم حسب المرحلة، ويأخذ رأيا بالتحليل حسب مرحلة أخرى، وفقهاء الأزمة في هذا تياران فواحد تابع للنظام الحاكم يبرّر له قراراته، وتيار آخر أشد خطرا هو ذاك الذي يقوده يوسف القرضاوي ومن وراءه، حيث ينحنون للعاصفة حتى تمرّ وأعينهم على الهدف البعيد إقامة الدولة الدينية والعودة إلى الفتاوي التي يحنّون إليها كما يحنون إلى قطع الأيادي والأطراف من خلاف... وهو تيار له فروع في العالم وطبعا له أصحابه في المغرب أيضا...
أعني إذن أن كل ظرف ينتج فقهه، فالأزمة تنتج فقهها، والتخلف ينتج فقهه، كما أن التطور ينتج ثقافته التي من أول مبادئها حرية التعبير.
وأركّز هنا على أبرز فقهاء التخلف فقهاء السعودية والملحقين بهم، وكما أن لفقه الأزمة خصائصه، فكذلك فقه التخلف فمنها ما يشترك به مع الفقه الآخر وخاصة تزييف الوعي عبر اختزال كل شيء في الدين، بل إن فقه الأزمة يتقاطع مع فقه التخلف أحيانا إن صعودا وإن  نزولا ــ لو تحولت الدولة إلى تيوقراطية ــ. وسأتناول أهم خصائص هذا الفقه وأولها: "ممارسة السلطة عبر الجنس".
وإذا كان الحديث عن ممارسة السياسة في الدين ممكنا عند بعض الحركات المعارضة التي مرّت قديما، فإن الأمر يختلف اختلافا كليا بالنسبة لفقهاء التخلف في السعودية، ولا يجهل أحد هذه الحرب الضروس التي يشنها هؤلاء الفقهاء بلا هوادة على كل ما يرتبط بالمرأة. ومن المعروف أن أي حركة إصلاحية تريد التغيير تبدأ أول ما تبدأ بالحديث عن الحريات وخاصة فيما يتعلق بوضعية المرأة، ووأْداً لهذه المحاولات في مهدها لجأ ويلجأ فقهاء السعودية إلى اختزال المرأة في موضوع جنسي، وجعل كل ما يرتبط بالتغيير مجرد وسائل للإباحية والرذيلة وغرضا جنسيا، وسيرددون ما نطق به ابن القيم عن الغناء بأنه رقية اللواط والزنا وسيركبون على الموضوع الجنسي (المرأة/ الغناء/...) لمحاربة أهم وسيلة للتعبير، وهي الإعلام، وهكذا سنجد مثل هذه الفتاوى:
"ما دام التلفزيون اليوم يرمي في أكثر برامجه إلى إهدار الشرف، ويوجه نحو الفساد والإباحية، ويشجع على السفور والاختلاط فإن اقتناءه، والاستماع إلى برامجه، والنظر إلى مشاهده، يُعد من أكبر الحرام، وأعظم الإثم" (عبد الله ناصح علوان، حكم الإسلام في وسائل الإعلام، دار السلام، ط. السادسة، 1986، ص. 9).
"وباعتبار أن الاستماع إلى الموسيقى والمعازف محرم بالنص (...) لهذه الاعتبارات كلها كان اقتناء الجهاز التلفزيوني محرما لما يصاحب هذه البرامج الترفيهية من معازف وموسيقى، وغناء ماجن، ورقصات فاجرة، كان النظر لهذه البرامج محرما كذلك لما لها من خطر في تقويض دعائم التربية والأخلاق" (نفسه، ص. 10-11).
وللصحافة طبعا نصيب: "... بل أصبحنا نسمع عن مجلات ليس لها من غاية سوى الدعوة إلى الإباحية الفاجرة، والوجودية الداعرة، والإلحادية الكافرة... حتى ينزلق الشباب والشابات في متاهات الرذيلة ويتخبطوا في أوحال الفاحشة، ويسقطوا في مهاوى الإلحاد. ومن وراء هذه الصحف قيادات يهودية وماسونية واستعمارية وشيوعية وصليبية" (نفسه، ص. 32).
وطبعا لا يوجد شيء اسمه فن أو تمثيل ، وإن وُجد فبهذه الشروط: "ألا يظهر في التمثيل نساء ورجال، أو نساء يراهن رجال، لكون الإسلام يحرّم السفور والاختلاط والخلوة بالمرأة الأجنبية والنظر إليها..." (نفسه، ص. 47).
يتحول كل شيء إلى موضوع جنسي تجب محاربة من يدعون إليه. يمارس الأمراء إذن سلطتهم بواسطة الفقهاء عن طريق الجنس، وللمفارقة، هذا في الوقت الذي لا يُسمعُ لهؤلاء الفقهاء همس، ولا يشير لهم بنان وتنبس لهم شفة إلى ما يفعله أمراؤهم من فضائح في أوروبا وغيرها، ويسكتون عمن بلغ إسرافهم ملايين الدولارات في ليالي القمار وفيما يعرفه الجميع.
بينما تجد صوتهم مرتفعا في أمور لا تعيد حقوقا لأحد، ولا تنصف مظلوما ولا مهضوما، ويصبح أي كلام عن حقوق الإنسان والحريات وتوزيع الثروات عبثا، ويصل بهم الأمر إلى إخراج فتاوي إن لم تكن هي الإرهاب، فماذا يمكن أن نسمي الإرهاب، انظر مثلا فتوى ابن العثيمين حول من له أهل لا يصلّون:
"إذا كان هؤلاء الأهل لا يصلّون أبدا فإنهم كفار، مرتدون، خارجون عن الإسلام ولا يجوز أن يسكن معهم ولكن يجب عليه أن يدعوهم ويلح عليهم ويكرر لعل الله يهديهم لأن تارك الصلاة كافر والعياذ بالله" (أسئلة مهمة، ط. الثانية، 1407هـ، ص. 11).
ويترتب عن هذا الحكم أمور منها حسب ابن العثيمين: "أنه [تارك الصلاة] إذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين، فماذا نصنع به؟ نخرج به إلى الصحراء ونحفر له وندفنه بثيابه لأنه لا حرمة له" (نفسه، ص. 13).
أعلم عزيزي القارئ أن عينيك جاحظتان لا تغادران إلا بصعوبة هذا الكلام، فكيف يسكت الأمراء على مثل هذه الأفكار الملغمة، وعلى فقهاء لا ينتجون أي شيء، ويعيشون في عطالة فكرية دائمة، ولا يقف الأمر بأنهم لا نفع لهم، بل إن ضررهم كان بالغا وهم يصنعون ويخلقون قنابل بشرية، فيغدق عليهم الأمراء بأغلفة مالية كبيرة، وبإنعامات عديدة، ولكنه المثل البدوي الذي يحفظونه جميعا أمراء وفقهاء، والذي يقول اشهد لي بعنزة أشهد لك بجمل، وقد شهد الأمراء للفقهاء بعنزة فشهدوا لهم بجمل في سنامه بترول.

2-   الأخذ بأشد الآراء بداوة: هكذا يشتغل فقهاء السعودية ويشغلون الناس في فتاوي لا طائل وراءها سوى هدر الطاقة وجر الجميع إلى معارك وهمية من قبيل إسبال الإزار وحف الشارب وإعفاء اللحي، و "النهي عن تصوير ما فيه روح في الثياب والجدران والورق وغيرها، سواء كان مرسوما أو مطبوعا أو محفورا أو منقوشا أو مصبوغا بقوالب ونحو ذلك، وإن كان لابد فاعل فليصنع الشجر وما لا روح فيه" (محمد صالح المنجد، التنبيهات الجلية على كثير من المنهيات الشرعية، دار القاسم، الرياض، 1419هـ، ص. 23).
كذلك من الأمور "الهامة": "النهي عن الاستنجاء بالعظم، لأنه زاد إخواننا من الجن وعن الاستنجاء بالروث لأنه علف لدوابهم" (نفسه، ص. 10).
من يقرأ مثل هذا الكلام، ويرى أيضا معركتهم العظيمة "معركة الذباب" حيث يروون عن أبي هريرة أنه إذا سقطت ذبابة في إناء فيجب غمسها جيدا قبل شرب ما فيه، وإذا سقطت فأرة في السمن فحسب أبي هريرة أيضا إذا كان السمن جامدا طُرِح محل سقوط الفأرة واكل الباقي، قلتُ من ينظر إلى كل هذا سيظن أن العرب قد خرجوا للتو من كهف أشد إظلاما من الليلة الظلماء ما زالوا في صراع مع الهوام والقمل، وأدواتهم بدائية: حجر وعظم.
هذا، إذن، مجتمع البداوة والصحراء ينطق، وتأمل هذا الكلام: "النهي عن النوم في بطن الوادي ومجرى السيل" (نفسه، ص. 26). أرأيت؟ فقه بدوي غارق في البداوة، وإذا كان المقصود بهذا الكلام من لا يجد مأوى أو دارا ينام فيها ويحتمي بها، فأعتقد أن الذي يصل به الأمر إلى هذا الحد فإنه لا ينتظر مثل هذه الفتوى، بل يترقب شيئا آخر، وسيأتيه الرد، ولكنه بشيء آخر: انظر: "والنهي أن ينظر الإنسان إلى من هو فوقه في أمور الدنيا، بل ينظر إلى من هو أسفل منه حتى يعرف نعمة الله عليه فلا يزدريها" (نفسه، ص. 30).
فطوبى لأمرائهم بطول تمتع بدون حسيب ولا رقيب. هذا ومن منا لا يذكر تلك الفتوى العلمية البدوية التي أصدرها ابن باز تحت عنوان: " الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب وعلى جريان الشمس والقمر وسكون الأرض"، ومما جاء فيها: "فلقد "فلقد شاع بين كثير من الكتاب والمؤلفين والمدرّسين في هذا العصر أن الأرض تدور، والشمس ثابتة، وراج هذا على كثير من الألسن، وكثر السؤال عنه، فرأيت من الواجب أن أكتب في هذا كلمة موجزة ترشد القارئ إلى أدلة بطلان هذا القول ومعرفة الحق في هذه المسألة، فأقول قد دلّ القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وإجماع علماء الإسلام، والواقع المشاهد على أن الشمس جارية في فلكها كما سخرها الله سبحانه وتعالى، وأن الأرض ثابتة قارة قد بسطها الله لعباده وجعلها لهم فراشا ومهدا وأرساها لئلا تميد بهم..." (مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، ط. الثانية، 1402هـ، ص. 21).

3-   حدثني عبد الجبار نيازي قال: مرت دبابة وأنا أرى على مجاهد اسمه (غلام محيي الدين) وبقي حيامن الخصائص الأخرى التي يتميز بها فقه التخلف هو الإغراق في الخرافة، فإضافة إلى ما يشترك به مع فقه الأزمة من أمور المسيح الدجال وحوارات مع الجن والمهدي المنتظر، هناك أشياء أخرى مثلا: "النهي عن إخراج الصبيان خارج البيت عند غروب الشمس حتى يشتد السواد لأنها ساعة تنتشر فيها الشياطين" (محمد صالح المنجد، م.س، ص. 31).
والنهي "عن ترك اللقمة إذا سقطت، بل يزيل عنها الأذى ولا يدعها للشيطان" (نفسه، ص. 25).
ومن الملحقين بفقهاء السعودية نجد أحدهم يسمى الدكتور عبد الله عزام، يؤلف كتابا اسمه "آيات الرحمان في جهاد الأفغان" فماذا نجد في هذا الكتاب/الأكتوبة؟ أشياء تستغرب كيف تجد لها في هذا الزمن موضع قدم ومكانا تحت الشمس، وحتى لا أطيل على القارئ العزيز أقتبس منه بعض فقرات فهو مليء بهذه الفقرات وأكثر، فمما جاء فيه: "حدثني جلال حقاني: أعطيت مجاهدا يضع رصاصات ونزل المعركة وأطلق رصاصا كثيرا ولم تنقص الرصاصات وعاد بها" (الناشر المجتمع، جدة، ط. الخامسة، 1985، ص. 108).
"حدثني عمر حنيف قال: لقد جاءت الأفاعي مرارا تبيت مع المجاهدين في فراشهم ومنذ أربع سنوات لم تلدغ أفعى مجاهدا على كثرتها" (نفسه، ص. 110).
وفي مكان آخر: "حدثني عبد المنان فقال: كنا ثلاثة آلاف مجاهد في مركزنا فجاءت الطائرات وألقت علينا ثلاثمائة قذيفة نابالم فلم تنفجر ولا واحدة ونقلناها جميعا إلى كؤته (بلد باكستاني فيه مجاهدون)" (نفسه، ص. 111).
"حدثني جلال الدين: لقد رأيت الكثير من المجاهدين معي يخرجون من المعركة وألبستهم مخرقة من الرصاص ولكن لم يدخل جسدهم رصاصة واحدة" (نفسه، 111).
أما الذين يموتون منهم ــ لا أعرف كيف يموتون والرصاص لا يخترق أجسادهم ــ فإن هؤلاء الشهداء لا تتغير جثثهم، بل تنبعث منهم رائحة طيبة: "حدثني محمد شيرين: استشهد معنا أربعة مجاهدين في مكان اسمه بوت وردك. وبعد أربعة أشهر وجدنا لهم رائحة عطرية كالمسك تنبعث منهم" (نفسه، ص. 125).
وهكذا الكتاب/الأكتوبة شأنه شأن باقي الأفكار البدائية التي يصدرها فقه التخلف لغاية في نفس الأمراء من جهة، وفي نفس من لا يريد لهذه الشعوب أن تفيق من نومها العميق.
ومثل هذه الكتب يتأسف عليها أولئك الذين أعرفهم وتعرفهم عزيزي القارئ أنها كانت غائبة عن معرض الكتاب الأخير. وعندما تسمع إقبالا على "الكتب الدينية" فقد عرفت عبر هذا المقال عينة منها، وتعلم لماذا يتأسفون أن حضرت دار نشر واحدة سعودية إلى جانب الجناح السعودي الرسمي !!! فهم لا يكفيهم إلا أن تغرق البلاد في هذا المستنقع الآسن، ولتعلم أنه لا فرق بين فقه الأزمة وفقه التخلف إلا من حيث المرحلة أي الدرجة أما في العمق فإنه فكر يصدر عن منبع واحد، ولذا لا تستغرب أن ترى فتاوى فقهاء التخلف تنتشر في الكويت ومصر، والمغرب... ولتصبح المعركة أكبر من معركة الذباب إنها اليوم ملحمة الذباب والحجاب.


* نشر بجريدة الأحداث المغربية عدد الأربعاء 3 مارس 2004  

الثلاثاء، 27 يناير 2015

عقيدة الولاء والبراء: أدلوجة سياسية من المودودي إلى حزب العدالة والتنمية، بقلم عبد الواحد بنعضرا*

عقيدة الولاء والبراء:

أدلوجة سياسية من المودودي إلى حزب العدالة والتنمية


عبد الواحد بنعضرا
1- توطئة: الحديث عن عقيدة الولاء والبراء بمعزل عن الحديث عن مفهوم الحاكمية صعب جدا، إذ لا يمكن عزل المفهوم الأول عن الثاني لارتباطهما سياسيا، فظروف ظهور الثاني هي التي في غالب الأحيان تؤدي إلى أن يبرز على السطح مفهوم الولاء والبراء سواء عند الخوارج أو عند الجماعة الإسلامية التي ترأسها أبو الأعلى المودودي سنة 1941. قد يختلف اللفظ بين الولاء والموالاة والقومية الإسلامية، ولكن المفهوم واحد ... وسأحاول أن أظل في إطار مناقشة عقيدة الولاء والبراء دونما إغفال أن عزله عن المفهوم الآخر ليس إلا إجرائيا، إذ أن واقع الحال يلزم جمعهما جنبا إلى جنب ..

2- مفهوم الولاء والبراء تاريخيا: أدى الصراع بين القبائل العربية على موارد الثروة إلى عقد التحالفات بين بعضها - سواء من أجل الحماية بالنسبة للقبائل الضعيفة، أو من أجل خلق تكتل أقوى في مواجهة تكتل مماثل ...- ومن هنا نشأت علاقات الولاء بين القبائل، لذا سنجد أن كلمة المولى تدل في أحد معانيها في لسان العرب على ما يلي : "المولى: الحليف، وهو من انضم إليك فعزّ بعزك وامتنع بمنعتك، قال عامر الخصفي من بني خصفة: هم المولى، وإن جنفوا علينا وإنا من لقائهم لَزُورُ" (ابن منظور، لسان العرب، مادة ولي، دار الفكر ودار صادر بيروت، 1990). بهذا المعنى، لمفهوم الولاء - ما قبل إسلامي- استعمل القرآن مشتقات لفظ الولاء للدلالة على تكتل - يضم المسلمين وحلفاءهم- يواجه تكتلا خصما، إبّان معركة ما أو توتر في العلاقات بين أطراف النزاع في المدينة؛ وصدى هذا موجود خاصة في سورتي التوبة والمائدة... ولهذا سنجد آيات أخرى تحث على مسالمة ومهادنة المسالمين غير المقاتلين؛ ولا يمكن التعسف لاستخراج دلالات أخرى لمفهوم الولاء في القرآن إلا بإهدار البعد التاريخي وعزل النصوص عن سياقها التاريخي، إذ هذه آيات جاءت في ظروف خاصة، من المفروض أن مشروطيتها تزول مع زوال هذه الظروف وإلا لماذا أباح القرآن الزواج من الكتابيات؟ فهل يُعقل أن يكره رجل مسلم زوجته المسيحية أو اليهودية ويفضّل عليها امرأة أخرى - أية امرأة- فقط لأن هذه مسلمة !! ثم أي معنى لهذه الحياة الزوجية إذا كان المفروض أن يسود بين أطرافها الحقد والكره وليس الحب والسلام ... على أن البعض يستند على الحكايات التأطيرية للآية: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء... بعضكم أولياء بعض... ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين) (المائدة/51). ولكن هذه الحكايات متهافتة لتضارب رواياتها، فمرة رويت أنها في رجلين بعد وقعة أُحُد، وفي رواية أخرى أنها تعني أبا لُبابة بن عبد المنذر حين بعثه النبي إلى بني قريظة... وإلى جانب هاتين الروايتين ذكر ابن كثير رواية ثالثة في عبد الله بن أبيّ: "وقيل نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول كما قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا ابن إدريس قال سمعت أبي عن عطية بن سعد قال جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله، فقال يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي فقال رسول الله لعبد الله بن أبي: يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه، قال قد قبلت، فأنزل الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) الآيتين" (تفسير ابن كثير، الجزء الثاني، تفسير سورة المائدة، المكتبة العلمية، بيروت، 1994). وقد كفانا الألباني الدخول في نقاش حول رواية الأحاديث وحول منهج النقد في علوم الحديث، فهذا ليس مكانه، وقد سبق أن تناولت ذلك بالدراسة والنقد في مكان آخر، حيث ذكر الألباني ما يلي: "رواه ابن إسحاق عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت وابن جرير عن عطية العوفي وعن الزهري، وكلها مرسلات، وقد أشار ابن كثير في تفسيره إلى تضعيف نزول الآية في ابن أبي، والله أعلم -والآية من سورة المائدة : 52" (الألباني، تعليق على هامش كتاب محمد الغزالي، فقه السيرة، دار الريان للتراث، القاهرة، 1987، ص. 253). من الواضح، إذن، أن هذه الروايات قد وضعت في عصر التدوين، ومن الملاحظ على الفكر الإسلامي بأنه فكر متموج يقوم غالبا بتأسيس السابق بناء على اللاحق، واللاحق هنا هو ما قام به الخوارج بعد حادثة التحكيم وخروجهم على عليّ بن أبي طالب، وبحكم معارضتهم أصلا لمعاوية بن أبي سفيان، فقد بات الخوارج يحتاجون لوسيلة يجمعون بها من حولهم الناس وما كان يمكنهم ذلك بواسطة أية عصبية كانت في مواجهة أكبر حزبين (أو عصبيتين) بني هاشم والأمويين، لذا سيلتجئون إلى رابطة من نوع آخر وعبر قراءة معينة لنصوص القرآن تعزل هذه النصوص عن سياقها التاريخي وتجعلهم يتقمصون وضعية النبي - حسب هذه القراءة- ويتصرفون كأنهم في هذه الوضعية فعلا، وسيقصرون اسم "المسلمين" عليهم فقط، وكل مخالف لهم فهو كافر ينفون عنه الإسلام ويوجبون قتله، بل حتى لو وافقهم ولم يقم للقتال معهم فهو كافر يحق قتله لأنه لم يتولّهم - والمؤمنون بعضهم أولياء بعض-، ليس هناك بَيْن بَيْن : إما معنا أو ضدنا، لذا عرف عليهم شدتهم على كل مخالفيهم حتى كانوا لا يرحمون امرأة ولا طفلا رضيعا ولا شيخا فانيا ... ومن هنا برز مفهوم الولاء والبراء كعقيدة ظاهريا وكرابطة أساسا سياسية، والدليل على ذلك أن الخوارج كان موقفهم مغايرا تجاه النصارى واليهود والمشركين، فقد عرف عنهم تسامحهم الكبير إزّاء هذه الأصناف، لماذا ؟ لأن هذه الأصناف لم يكن لها دور - أو على الأقل دور أساسي- في الصراع السياسي الدائر بين أصحاب علي وأصحاب معاوية وبين الخوارج، لذا كان موقفهم معهم مسالما جدا حتى أنه يروى أن واصل بن عطاء - رأس المعتزلة - وقع في أيديهم فادّعى أنه مشرك مستجير، ورأى أن هذا ينجيه أكثر مما تنجيه دعواه أنه مسلم مخالف لهم... وسيكون لمعارضتهم للحزبين الكبيرين تأثير في نظريتهم عن الخلافة، إذ أنهم قالوا بأن الخليفة يصح أن يكون من غير قريش، بل يصح حتى أن يكون عبدا حبشيا... وسيعيدون قراءة التاريخ أيضا انطلاقا من مفهوم الولاء والبراء، يروي الشهرستاني: "وقد قُبِضَ على أحدهم وقدم إلى زياد بن أبيه، فسأله عن أبي بكر وعمر، فقال فيهما خيرا، وسأله عن عثمان، فقال: كنت أتولى عثمان - على أحواله- في خلافته ست سنين، ثم تبرأت منه بعد ذلك، وشهد عليه بالكفر ؟ فسأله عن أمير المؤمنين عليّ فقال: أتولاه إلى أن حَكَّم، ثم أتبرأ منه بعد ذلك، وشهد عليه بالكفر، فسأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا..." (أحمد أمين، فجر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط، الحادية عشرة، 1975، ص. 258).
بعد الضربات القوية التي وجهها الحَجَّاج للخوارج، انكسرت شوكتهم وبدأ يضمحل ذكرهم، وبالتالي ضمور عقيدتهم في الولاء والبراء، إذ من الطبيعي أن الإسلام الرسمي الأرثوذوكسي السني أو الشيعي لن يظهرها باعتبارها نظرية حزب معارض - لهما معا-، وستظل كامنة إلى أن التقط خيطها أبو الأعلى المودودي في الهند، ولا يمكن فهم آراء الرجل تجاه الديموقراطية، القومية والوطنية، وأيضا سبب تغير موقفه منها بعد ذلك إلا إذا استحضرنا الظروف السياسية والتاريخية للمنطقة... فالهند الواقعة تحت الاستعمار البريطاني كانت تضم أقلية مسلمة - ضخمة الحجم حوالي ثمانين مليونا- تشكل ربع ساكنة الهند، تنحدر من أصول هندو- أروبية (أو هندو- آرية) لا تشترك معهم فيها الهندوس إلا قطاعا صغيرا، لذا كانوا يشعرون بذاتية خاصة وميول انفصالية كحنين لدولة المغول الأكبر في شمال الهند، والتي أسسها في القرن السادس عشر بابرو أكبر وقضى عليها الاستعمار البريطاني. وبما أن حزب المؤتمر الوطني يدعو إلى إقامة دولة قومية، ديموقراطية وعلمانية - بعد أن تأخذ الهند استقلالها-، فقد رأى المسلمون أن هذه الدولة ستضر بمصالحهم، إذ أن الأغلبية فيها ستكون دائما للهنادكة الذين يخالفونهم في الدين وكذلك في العرق، باعتبار نسبة ثلاثة الأرباع للهنادكة مقابل الربع للمسلمين، وبالتالي فإن تحكم الأغلبية الهندوكية في مؤسسات الدولة قد يكون ثابتا... ومن هنا لجوء المودودي إلى عقيدة الولاء والبراء كما صاغها الخوارج وإعادة تبيئتها وإعطائها دلالة أوسع، فبعد أن كانت ولاء تجاه حزب (حزب الخوارج) ستصبح ولاء لدولة، ومرة أخرى ليس هناك بين بين، فإما دولة دينية وإما دولة علمانية لادينية جاهلية. إذن كانت حرب المودودي على الديمقراطية، القومية، الوطنية والعلمانية حربا على الدولة الهندية - بالأساس- ذات الأغلبية الهندوكية وحيث - كما رأى المسلمون- مصالح الأقلية المسلمة في خطر، إنها السياسة إذن وليس شيئا آخر... والدليل أيضا على ذلك هو لفظ "القومية الإسلامية" المعبرة عن مفهوم الولاء والبراء بعد توسيع آفاقها- من حزب إلى دولة -، وبما أن القومية: "في حقيقتها، حركة سياسية تنادي بحق كل أمة في أن تكون وحدة سياسية مستقلة" (محمد سعيد العشماوي، الإسلام السياسي، سينا للنشر القاهرة، ط. الثالثة، 1992، ص. 150-149 و133)، فإن معنى القومية الإسلامية -كما يرى العشماوي- أن تجعل من الإسلام حركة سياسية تسعى لكي يكون المسلمون وحدة سياسية مستقلة. وقد كان للمسلمين الهنديين ما أرادوا، وفي غشت 1947 أعلن قيام دولة باكستان... في كتابه عن أبي الأعلى المودودي، حاول محمد عمارة أن يبرز الفرق الكبير بين آراء الرجال والتي تختلف باختلاف الظروف - السياسية طبعا- ونبّه على جملة ملاحظات من بينها: "أن الكثيرين من قراء المودودي ومريديه - ومنهم سيد قطب- قد عزلوا نصوصه عن ملابساتها، فنظروا إليها كدِين، أو على الأقل "نظريات إسلامية" عامة، ولم ينظروا إليها كفكر سياسي إسلامي، صِيغ لملابسات متميزة وخاصة... وساعدهم على ذلك أن الرجل لم يقدم مقولاته باعتبارها: الرؤية الإسلامية لمناضل مسلم في بيئة محددة، وإنما قدمها باعتبارها : "الإسلام"؟!... ثم إن هؤلاء القراء والمريدين لم يلحظوا أن الرجل قد غير آراءه في الموضوع الواحد عندما تبدلت الظروف والملابسات - وسيأتي في هذا الكتاب ذكر لكثير من هذه النمادج والحالات-، وثانية هذه الحقائق: أن صياغات الأستاذ المودودي لكثير من مقولاته قد ساعدت على كثير من اللبس والغموض والإبهام، الذي حال دون فهم حقيقة مراميه من وراء هذه المقولات فحينا تكون الصياغات موهمة بغير ما يعنيه، وذلك بالتركيز على جانب من الفكرة، وإهمال الضوابط وعدم الإشارة إلى الجوانب الأخرى- وستأتي، في ثنايا هذا الكتاب، أمثلة على ذلك في عرضنا لفكره عن "الحاكمية" و"التكفير" - وهما من أخطر المقولات التي أشاعت وتُشيع الغلو في صفوف كثير من الشباب الإسلاميين... والحقيقة الثالثة: أن الكثيرين من تلامذة الأستاذ المودودي وأتباعه لم ينتبهوا إلى أن الرجل كان "مفكرا مناضلا – إثاريا" يكتب للجماهير، ومن ثم فلقد استخدم التحريض العاطفي مع الفكر النظري المنضبط، ولجأ إلى العبارات المجازية مع المصطلحات العلمية، وشاع جميع ذلك واختلط في سياق صياغاته نظريات سياسية إسلامية هي أشد ما تكون حاجة إلى الصياغة الدقيقة المنضبطة، لتعلقها بالإسلام من ناحية، ولما يترتب عليها من الحكم على عقائد الناس من ناحية أخرى..." (محمد عمارة، أبو الأعلى المودودي والصحوة الإسلامية، دار الشروق، القاهرة وبيروت، 1987، ص. 17 - 18). ونتساءل هل فعلا لم يفهم قراء ومريدو أبي الأعلى المودودي، أفكاره جيدا، ومن ضمنهم سيد قطب؟ أم أن الرجوع إلى الظروف السياسية والتاريخية المحيطة بأفكار قطب - مثلا- كفيلة لتوضيح المسألة؟!
بعد إقامة دولة باكستان، تعالت أصوات فيها لإقامة «إسلامستان» أي الدولة الإسلامية العالمية!!؟ وجاء ذلك تزامنا مع انتهاء الحرب العاملية الثانية وبروز معسكرين كبيرين، غربي تقوده و.م.الأمريكية، وآخر شرقي يقوده الاتحاد السوفيتي، ومن ثم كانت استراتيجية المعسكر الغربي تعتمد على الإحاطة والتطويق لحصار الكتلة الشرقية عامة والاتحاد السوفييتي خاصة بسلسلة من الأحلاف العسكرية والسياسية المتصلة الحلقات، لذا جاءت نظرية إسلامستان أو ماعرف بعدُ بجامعة دول إسلامية أو اتحاد الدولة الإسلامية، خصوصا وأن: "أطول حدود مشتركة مباشرة للاتحاد السوفييتي هي مع دول إسلامية، ابتداء على الأقل من الباكستان وأفغانستان عبر إيران حتى تركيا، هذا فضلا عن أن جسم العالم الإسلام الأساسي في مجموعه بعد هذا ظهير ضخم للكتلة الشيوعية" (جمال حمدان، العالم الإسلامي المعاصر، كتاب الهلال، 1993، ص. 199). إننا أمام مفهوم الولاء والبراء وهو يزداد اتساعا، سيصبح الولاء لكتلة كبيرة تدافع عن الإسلام ضد كتلة شيوعية ملحدة (كذا)، وليس هناك مرة أخرى بين بين! في هذه الفترة ازدحمت ألفاظ المفهوم وتعايشت فيما بينها ـ أيضا لفظ القومية الإسلامية، إلى حين طبعا- ومع الحكم الناصري في مصر سيكون التمايز أكثر وضوحا بين قسمين سياسيين: "القسم الأول منه: كان بزعامة الرئيس عبد الناصر، يرفع راية القومية العربية، ويسمي نفسه بالاتجاه التقدمي، بينما يقول خصومه إنه اتجاه علماني يوالي الاتحاد السوفييتي (يقصدون بذلك تأويل العلمانية على مايفيد مضادة الدين). القسم الثاني منه: كان يضم النُظم الأخرى التي كانت تفضل التكتلات الإقليمية بدلا من الوحدة الشاملة، وترفض الاشتراكية نظاما، ويسمي نفسه بالاتجاه الديني أو المحافظ أو التقليدي، بينما يقول خصومه إنه اتجاه رجعي يخدم الاستعمار الغربي" (محمد سعيد العشماوي، الإسلام السياسي، ص. 154). وقد ركنت السعودية لاتهام القسم الأول بمعاداته للدين، وفي هذا الإطار أنشأت المؤتمر الإسلامي ليضم جميع الدول الإسلامية، كما أسست الرابطة الإسلامية لتعمل - كما يقول العشماوي- على مستوى الشعوب الإسلامية من خلال المؤسسات المالية والتجارية ودور النشر والطباعة وبعض الفقهاء والكتاب، لذا رفض جمال عبد الناصر الانضمام إلى هذا المؤتمر الإسلامي سنة 1966، إلا أن هزيمة 1967 والتي عملت على تقويض فكرة القومية العربية، قد جعلت عبد الناصر يعود للانضمام بمصر للمؤتمر الإسلامي سنة 1969، ومن هنا يكون قد وضح لنا أسباب وملابسات آراء سيد قطب، خصوصا إذا ما قارناها بما جاء في كتابه "معركة الإسلام والرأسمالية"، فلم تكن الأولوية في هذا الكتاب للحاكمية ولا للولاء والبراء كعقيدة وحتى نظرته للانتخابات كانت متزنة - إلى حد ما-، ولكن ولأن الأمور تسير في اتجاه معقد سياسيا يتداخل فيه الدور الذي تمثله جماعة الإخوان المسلمين دوليا مع طموحهم الداخلي للاستيلاء على الحكم كان لزاما أن تأخذ آراء سيد قطب منحى آخر: "لم يعد وطن المسلم هو الأرض، إنما عاد وطنه هو دار الإسلام، الدار التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها شريعة الله وحدها، الدار التي يأوي إليها ويدافع عنها، ويستشهد لحمايتها ومد رقعتها (...) والأرض التي لا يهيمن فيها الإسلام ولا تحكم فيها شريعته هي دار الحرب بالقياس إلى المسلم، وإلى الذمي المعاهد كذلك، يحاربها المسلم ولو كان فيها مولده، وفيها قرابته من النسب وصهره، وفيها أمواله ومنافعه" (سيد قطب، معالم في الطريق، دار الثقافة، الدار البيضاء، ودار الشروق، بيروت والقاهرة، 2000، ص. 157).
 ما وقع بعد ذلك في عهد السادات لم يغير كثيرا في مفهوم الولاء والبراء الذي صار ولاء لكتلة كبيرة أو حلف كبير، سوى أن هذا الولاء صار وسيلة لعدد من الجماعات التي ظهرت في مصر وغيرها من أجل استدرار عطف السعودية - مع الفورة النفطية- لملء جيوبها ريالات ودولارات... وأنور السادات نفسه إذ فسح المجال لبروز التيار الديني، فمن أجل ضرب خصومه بهم أولا، وثانيا من أجل إعادة تطبيع العلاقات مع السعودية لكي تقدم مساعداتها لمصر... وبعد سقوط جدار برلين، ومع العولمة، سيأخذ مفهوم الولاء والبراء اتجاها آخر يدل على أنه - كمفهوم- يسير إلى الاحتضار - سياسيا- إذ أصبح شباب الجماعات أو بعض المسلمين يتولون كل من يعارض - ولو ظاهريا- و. م. الأمريكية، المهم أنه يظهر بمظهر المدافع عن الإسلام، وبن لادن نفسه يشدد على النصرة بين المسلمين انطلاقا من عقيدة الولاء والبراء كمفهوم هذه المرة يلتصق به لفظه..

3- الولاء والبراء عند حركة التوحيد والإصلاح/حزب العدالة والتنمية: تعد عقيدة الولاء والبراء ركيزة أساسية من ركائز الحركة/الحزب، نقرأ في ميثاق الحركة: "أما الولاء فهو خلق من أهم أخلاق الإيمان، ومن مقتضياته المحبة والنصر، قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) (التوبة/ 72) وللولاء قيمة خاصة فالله سبحانه أمر أن يكون دائرا بين المؤمنين خاصة وحصر المستحقين لهذه الموالاة في (الذين يقيمون الصلاة ويوتون الزكاة وهم راكعون) (المائدة/ 57). وجعل تحرير الموالاة لله ورسوله سببا في أهم أسباب الدخول في رحمته، كما جعلها شرط غلبة حزب الله" (ميثاق حركة التوحيد والإصلاح، طبع طوب بريس، الرباط، 1998، ص. 29). كما هو العادة دائما، عزل للنصوص عن سياقها التاريخي، وإهدار لبعدها التاريخي أيضا، وبالمثل تقمص وضعية النبي، والأخطر من ذلك الإشارة إلى حزب الله بما يعني أن مخالفيهم - سياسيا- هم حزب الشيطان !! وحصر دائرة الولاء في أضيق الحدود - إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة- مما يعني أن باقي المواطنين لا ولاء لهم حتى ولو كانوا مسلمين - إذا لم يقيموا الصلاة مثلا- فإذا تعدى الأمر إلى المواطنين المسيحيين أو اليهود، فإن الحديث هنا لن يكون إلا تحت اسم البراء، لا معنى هنا للوطن وللمواطنين، كل شيء يقاس بالدين، لذا لن نستغرب إذا ما قرأنا ما يلي لأحمد الريسوني: "فمثلا الزواج بالكتابيات جائز لا شك فيه، لكن إذا أصبح يفضي حتما أو غالبا إلى محرمات ومفاسد راجحة الاعتبار، فإن منعه والإفتاء بتحريمه في الحالات المؤدية إلى المفاسد والأضرار المعتبرة، يصبح لازما وصوابا، كما في زواج ذوي المناصب الخطيرة في الدولة بيهوديات أو نصرانيات يصبحن أداة تجسس وإفشاء لأسرار الدولة، بشكل مقصود أو غير مقصود، ويصبحن عنصر تأثير على صاحب المنصب، حيث يعي أولا يعي" (أحمد الريسوني، الفكر المقاصدي- قواعده وفوائده، منشورات الزمن (ك.ج)، شتنبر 1999، ص. 102). كلام كله عنصرية، خطير ومثير للفتنة وفحواه أن ذوي المناصب المهمة - بالأحرى- لا يجب أن يكونوا لا يهودا ولا مسيحيين، ولو كانوا مواطنين مغاربة؟! هذا معناه أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وهذه قمة العنصرية، وهذا مما يفيدنا في شيء آخر بأنه لا يمكن لحزب العدالة والتنمية أن يكون حزبا مدنيا، لأنه ببساطة لا يمكن لمواطن مغربي يهودي أو مسيحي أن يصبح فيه عضوا، مادام الحزب يقوم على أساس ديني وعلى أساس الولاء بين أعضائه، جاء في ميثاق الحركة: "ومعنى هذا المبدأ أننا نرتبط في الأصل بأخوة الإسلام ومودة الإيمان قبل أن نرتبط بعلاقات التعاون والعمل المشترك داخل التنظيم، وهذا ما يجمعنا ويربطنا بسائر المسلمين الذين يجب أن نتبادل معهم الأخوة والمحبة والتناصح والتناصر" (ميثاق حركة التوحيد والإصلاح، ص. 28). يجوز إذن التناصر والنصر للمسلمين حتى لو كانوا في جزر الوقواق، ويمنع ذلك في مواطن مغربي إذا كان مسيحيا أو يهوديا! وبقي سؤال حول المنجزات الكونية والإنتاجات الأوربية والتكنولوجيا الغربية، هل هي أيضا مرفوضة برفض الولاء لأصحابها؟ أم أن لها حكما آخر؟؟ أما القول بأنها شيء وفكر أصحابها شيء فهذا وَهْم! إن العقل الأوربي وآلياته هي التي أنتجتها ولا ينفصلان أبدا، إلا إذا كنتم ستستفيدون منها وأنتم تبطنون الكره لأصحابها وهذا ما أفهمه من كلام محمد يتيم: "ومظاهره [الولاء] أيضا التشبه بالكافرين فيما كان علامة لهم وشعارا، ففي الحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم)، ومظاهر الولاء هذه تكون كفرا مخرجا عن الملة إذا كان الدافع إليها محبة للكفار ونصرة لهم واتباع ومخالطة وطاعة لذات الكفر الذين هم عليه، ففي هذه الحالة تصبح هذه المظاهر آثارا تعبر عما في قلب الموالي" (محمد يتيم، العمل الإسلامي والاختيار الحضاري، منشورات جمعية الجماعة الإسلامية، البيضاء، 1989، ص. 69). إن لم تكن هذه انتهازية في التعامل مع الأوربيين فماذا تكون؟! ومع ذلك لا أعلم إن كان عمر بن الخطاب وهو يتشبه بالفرس والروم في إنشاء دولته عبر إقامة الدواوين ونظام الجندية، هل كان يضمر لهم الحقد؟ لا أعلم إن كان الفقهاء وهم ينشئون أصول الفقه على أساس المنطق اليوناني (رواقيا كان أم أرسطيا) يضمرون الكره والبغضاء لأرسطو ولليونان؟ لا أعلم...

4- سؤال الختام: أما آن لمفهوم الولاء والبراء أن يزول كما زال مفهوم الجزية ومفهوم أهل الذمة، لأننا اليوم ننشد وطنا به مواطنون بما للكلمة من معنى؟ ثم كيف سيتعامل أصحاب حزب العدالة والتنمية مع قانون الأحزاب إن صودق عليه، خصوصا أن الباب الأول من مشروع قانون الأحزاب السياسية تنص المادة الرابعة منه على أنه يعتبر باطلا وعديم المفعول كل تأسيس لحزب سياسي يرتكز على أساس ديني أو يقوم بكيفية عامة على كل أساس تمييزي أو مخالف لحقوق الإنسان؟

*نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية عدد الأربعاء 9 مارس 2005


سؤال موجه إلى محمد يتيم: كيف اختلف كلامك اليوم عن كلامك في السابق؟، بقلم عبد الواحد بنعضرا*

سؤال موجه إلى محمد يتيم :

 كيف اختلف كلامك اليوم عن كلامك في السابق؟

عبد الواحد بنعضرا

فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلق، ولا فوق الرباط، ولا كل ربوع الوطن... إننا نحتاج إلى من يذكّرنا بهذا في بلد حلت فيه على جناح التخلف ملائكة من نوع خاص.. أطهار، أتقياء، لا تشوب دخيلتهم شائبة ولا يعكّر صفو سريرتهم مكدر، تشِعُّ من وجوههم براءة نقية كنقاوة ماء المطر، جاؤوا لينتشلوننا من أوحالنا.. ولا تغمض لهم عين ولا يرِّف لهم جفن، ولا يسكن لهم خاطر ولا يهدأ لهم بال، ولا كِسرةُ خبز تُبتَلع لهم، والماء إن بلّل لسانهم نزل مُرًّا على صدورهم، اعتلّت صحتهم وجف الدم من خدودهم، خارت قواهم ودب الهُزال في أجسامهم، إذا رأيتهم تحسبهم أشباحا وإذا دققّت النظر عرفت كمْ بلغ حبهم للإنسانية... القديسون الأطهار، البررة الأخيار.. لا يكذبون ولا يبدّلون. دبّ الوهن في أوصالهم مما ألَمَّ بهم من أسف وندم وحسرة وهَمٍّ مما أصابنا «نحن» الأشقياء، نحن الأشرار، نحن الذين غُصنا في الجاهلية إلى شحمة الأذن.. فنحن الذين نشعل الحروب لقتل الأبرياء وسبي النساء، ونحن من يختفي وراء النصوص كاللصوص، وربما نحن من جعل من الدين مطية.. وبعد.. وأنا أقرأ مقالا لمحمد يتيم بعنوان: «اللهم اسق عبادك وبهيمتك وانشر رحمتك واحي بلدك الميت»، وقعت عيني على كلام يخرج من ذهنه كما يخرج العرق من مسام الجسد.. أفكلما جذب أحدهم جذبة ورَشَحَ منه العرق فمسحه بالورق حتى يقوم بنشر ما سوّد به الورق من عرق على الملأ، إنه كما قيل للسم الترياق وللعشق التلاق وللفراق اللقاء وأقول وللعرق النقاء- نقاء الفكر أقصد-، فمما جاء في هذا المقال: "وهذا التوجه الإسلامي التلقائي عند المغاربة منطلق من عقيدتهم الإسلامية ومما يجدونه ويفهمونه من نصوص القرآن والسنة، والتي تربط بين الاستقامة والتوبة المتواصلة والاستغفار والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، وبين رحمة الله وغيثه" (محمد يتيم، جريدة التجديد، فاتح فبراير 2005 العدد 1079). ما دهاك يا رجل، أهذا كان كلامك سابقا؟ ولعلك طبقت حرفيا مقولة: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما».. وللناس فيما يتآخون فيه مذاهب!! وحاولت أن تهرب إلى الأمام - من التسونامي إلى الاستسقاء- وأنت تضمر ضرب طرف بطرف، فقد فاحت رائحة مقدمة مقالك عطنا، بيد أنك لم تضرب إلا كفا بكف، وأخشى ألا تجد في الأخير ما تضربه كفك إلا قفاك، فمن شب على شيء شاب عليه... يقرئك أبو الطيب المتنبي سلاما ويقول لك:
                   
يقلي مفارقة الأكف قذاله      
حتى يكاد على يد يتعمم

 ولأنك لم تعرف ما تقدم ولا ما تؤخر، وقد دفت عليك دافة من الأوامر لنصرة "أخيك"، فلم تجد خيرا من الهروب إلى الأمام، ممنيا النفس بأن تبقى سالما بين رهطك آمنا في سربك، لا تهيجك هيعة ولا تحركك صيحة، بيد أني أطلب منك أن ترجع إلى الوراء - إلى سنوات- لا لتفتش المقابر فلن تجد فيها بقايا من الحياة إلا العظام، ولكن لتقرأ ما كتبته سنة 1989، ولا تخف فالطائرة جاهزة فلا تقل لي بأنك تخاف من العطب، فلدينا من الفقهاء في هذا البلد من يطير العنزة لا الطائرة فقط، ثم مالك والخوف فإننا بخرّناها بالصندل وند العود، رسمنا فيها خميسة وعينا لينغرز في عين الحسود عود. ولا تقل لي بأن الطائرة تم اختراعها تبعا للقوانين السببية ونحن لا نربط بين الأسباب والمسببات، فهذا مما لا أحبه منك فأنت تعلم ما أفتى به الشيخ الشعراوي (بأن الله سخر الغرب الكافر لخدمتنا)، أم أن إيمانك اهتز!؟ إياك ثم إياك.. أم أنك تهفو لترديد تلك العبارة (ويل لأمة لا تلبس مما تصنع ولا تأكل مما تزرع)، فهذا مما عفا عنه الزمن، هم يزرعون ونحن نأكل، وهم يعملون ونحن شاكرون حامدون، ثم مالنا وهذا الكلام، إن وقعت الواقعة فالدابة تأخذنا طيرانا على جناح الأمان إلى لندنستان، فهناك أموالنا الحلال ومصالحنا العظام، وأدام الله ما بيننا وبين إفرنجة الإنجليز من شهر العسل.. وإذا أردت الآن الإطمئنان على أغراضك هناك فدونك الهاتف المحمول والحاسوب والانترنت، تمتع بالتكنولوجيا وبارك الله في شيخنا ورحمة الله تصب عليه فلقد جعل من فتواه لنا هذه بلسما لجراحنا النفسية وشفاء من عقدة النقص ونفخ فينا الاعتزاز بالنفس... أم أنك تريد أن تسافر عبر بوابة الزمن وحتى لو أراد إنشتين أن يكون السفر بها إلى المستقبل فلا بأس أن تكون من أجل عيوننا المكتحلة - بالكحل- سفرا إلى الوراء... هذا الإنشتين الذي أتعب نفسه بالقراءة والبحث والتجربة جريا وراء نسبية عجيبة ونظريات غريبة، وما أغناه عن هذا كله وليته ظل قاعدا في بيته ثاويا في منزله حتى تتنزل عليه النظريات رغدا، فلا يشتعل رأسه شيبا ولا يهرم جسمه همّا... إذن لنفتح بوابة الزمن، وأنت أيضا عزيزي القارئ اربط أحزمة الأمان وضع نظارة - ومن الأفضل أن تكون عدسات مكبرة - لكي تتأمل جيدا في كلام محمد يتيم وتدقق فيه النظر، وانطلق معنا في سفر عبر الزمان.. نحن الآن في سنة 1989، وهذا ما كتبه الرجل: "والسنن أو الكلمات الكونية ثابتة لا تتغير، وهي مضطردة فكلما كانت أسبابها إلا وتبعتها نتائجها. وهي ربانية أي أنها تعبر عن إرادة الله التي اقتضت أن تتصرف في الكون والنفوس من خلال سنن تمثل حكمته وتدبيره، وكونها ربانية لا تلغي إرادة الإنسان، بل إن هذه الإرادة ذاتها من أمر الله وكلماته والمؤمن يدافع القدر بالقدر" (محمد يتيم، العمل الإسلامي والاختيار الحضاري، منشورات جمعية الجماعة الإسلامية الدار البيضاء، 1989، ص. 26 - 27). ودقّق النظر وأعد الكرة وتأمل عزيزي القارئ، وضع خطوطا عديدة تحت العبارات التالية: (ثابتة لا تتغير)، (فكلما كانت أسبابها إلا وتبعتها نتائجها) و(لا تلغي إرادة الإنسان).. وحتى لو غلّف محمد يتيم كلامه هنا قليلا، فهو بعيد كل البعد عما قاله في جريدة التجديد، فدونك ما يلي من مقاله المذكور: "ولهم نؤكد ونقول إن المغاربة سيظلون متشبثين بثقافتهم الإسلامية التي تحثهم على الاعتبار ومراجعة الذات ونصيحة بعضهم بعضا لمراجعة علاقتهم بالله سبحانه وتعالى أفرادا وجماعات، ولن يسمحوا لهم بممارسة الإرهاب الفكري عليهم وتكميم أفواههم ونعت توجههم لله لأداء صلاة الاستسقاء، وربطهم بين صلاح الأخلاق وصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بأنه ظلامية ورجعية" (محمد يتيم، جريدة التجديد، نفس العدد). وسنعود إلى سنة 1989 لنعيد التأمل في كلامك هناك، فبعد استشهادك بفقرة طويلة من ظلال القرآن لسيد قطب، ثمنت ما فيها وزدت مضيفا: "وهكذا ففي مجال العمل الإسلامي فإن من شروط تحقيق الغايات الوعي بالسنن والعمل من خلالها، وإن أي تخلف في النتائج إنما يعبر عن تخلف في الأخذ بالأسباب، ومن هنا يكون إدراك سنن التغيير الاجتماعي والحضاري إحدى أسباب النصر، وقد بين سبحانه أن من طبيعة السنن أنها شاملة عامة للناس جميعا مؤمنهم وكافرهم، قال تعالى: ( كلا نمد، هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) (الإسراء/20). فهي لا تحابي أحدا كافرا كان أم مؤمنا، فمن أخذ بأسبابها وصل إلى النتيجة ومن اصطدم بها وحاول القفز من فوقها عوقب في الدنيا على الخطأ باعتباره قد خالف سنة الله في خلقه. إن إخلاص النية لله عز وجل والحماسة للفكرة الإسلامية لا يكفيان لوحدهما، كما أنهما لا يضفيان ظل القدسية على العمل الذي يمكن أن يخطئ التقدير فيحاسب ويمتحن على الخطأ في الدنيا بينما يثاب على النية والسعي في الآخرة»، (محمد يتيم، العمل الإسلامي والاختيار الحضاري، ص. 28).

لماذا اختلف كلامك اليوم عن كلامك السابق بأزيد من مائة درجة؟ ألأنك لم تفعل أكثر من نصرة "أخيك"، ولكل مقام مقال فالفتاوى جاهزة حسب الطلب والمناسبة!! لكن الخطير في المسألة أن تقحم الدين في حديثك وهو في السياسة أدخل، لأنه لو كان الأمر أمر دين فإنك على غير هدى في إحدى الحالتين وهذا ما لا نحبه لك، وإن كان الأمر أمر سياسة - وهو كذلك حقا- قلنا لك انزع القناع من على وجهك وأخبرنا إن كان من الممكن جمع النقيضين كلامك بالأمس (فهي لا تحابي أحدا كافرا كان أم مؤمنا، فمن أخذ بأسبابها وصل إلى النتيجة...). وبين تأكيدك اليوم على الربط (بين صلاح الأخلاق وصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية)، ولاحظ أنك في كلتا الحالتين استعملت النصوص لتبرير رأييك المتناقضين، سواء ما بثته منها بين ثنايا مقالك أو ما استعرضته على صفحات كتابك.. عزيزي القارئ أتركك لتفكر جيدا هل يمكن أن يجمع أي عقل بين الفكرتين؟، كان هذا فصل المقال ما بين كلام محمد يتيم السابق وكلامه اللاحق من تناقض وانفصال، وإن من يخلط بين السياسة والدين كمن يخلط بين الحبة والجنة وبين الشعير والسعير، وما وضعت النقط على الحروف إلا لرفع اللبس وتوضيح المعنى...

*نشر بجريدة الأحداث المغربية عدد الأربعاء 9 فبراير 2005

الاثنين، 26 يناير 2015

طوفان العقول وزلزالها، بقلم عبد الواحد بنعضرا*

ملاحظة نشرت هذا المقال، والذي كتبته إلى جانب مقالات أخرى، في سياق توظيف جريدة التجديد وحزب العدالة والتنمية للتسونامي الذي عرفه جنوب شرق آسيا، جاعلة مما وقع علامة على غضب من الله وأن ما أصاب القوم عقاب إلهي. تناولت في هذا المقال الطوفان من جوانب متعددة.. ونبهت إلى أن عدم الربط بين الظواهر وأسبابها الطبيعية يسمح بالتنصل من المسؤولية حتى من قِبل مرتكبي الأعمال الإرهابية، بدعوى أن لا فاعل على الحقيقة إلا الله 

طوفان العقول وزلزالها
عبد الواحد بنعضرا
هبت العاصفة كلها دفعة واحدة
ومعها انداحت سيول الطوفان فوق

[وجه الأرض]
ولسبعة أيام وسبع ليال
غمرت سيول الأمطار وجه الأرض
ودفعت العواصف المركب العملاق فوق
المياه العظيمة
(من نص سومري)


1-   توطئة:
بعد حديثه ونقاشه للطوفان السومري والطوفان البابلي والتوراتي، أبرز فراس السواح أن هذه القصص قد لعبت في العهود القديمة ما لعبته المأساة على المسرح في العالم الكلاسيكي فيما بعد، أي بمثابة تطهير للمشاعر وتنفيس لكل أنواع العنف، ثم قال: "وفي نطاق التفسير التاريخي والإيتولوجي، ربما كانت هذه الأساطير تبريرا وتعليلا، لكوارث حقيقية حلّت بالإنسان، وحار في أسبابها ودواعيها وأغراضها، فجاءت الأسطورة تروي تساؤلاته فهذه الأسطورة سومرية تعزو دمارا حلّ بالبلاد إلى انتقام الآلهة أنانا من بستاني اغتصبها، وهذه أسطورة بابلية تعزو العواصف التي اجتاحت البلاد طولا وعرضا، إلى غضب إله العاصفة إنليل، وأخرى تعزو انتشار المرض الفتاك إلى إله الطاعون إيرا الذي يستفيق من كسله بين الآونة والأخرى ليمارس مهامه في نشر الأوبئة والأمراض السارية" (فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، دار الكلمة للنشر، بيروت، 1980، ص. 156).

2-   روية انثربولوجية:
حاول الإنسان منذ القدم تفسير نشأة الزلازل وأسباب حدوثها ليهتدي إلى معرفة القوى المتسببة في تدمير منشآته فوق سطح الأرض، وكان الإنسان في بداية العصور التاريخية يعتقد بأن الأرض مثبتة فوق حيوان ضخم، ونتيجة لتحرك جسم هذا الحيوان ببطء تحدث الهزات الزلزالية في الأرض، فكان اليابانيون يعتقدونه عنكبوتا ضخما يحمل الأرض بين طيات نسيجه، وظنه الصينيون حوتا ضخما، كما اعتقدت جماعات اللاماس (Lamas) في منغوليا بأن الله بعد أن خلق الأرض ثبتها فوق ظهر ضفدعة عظيمة الحجم، وفي كل مرة عندما تحرك الضفدعة رأسيها أو قدميها تتعرض الأرض لحدوث الهزات الزلزالية، بينما كان الهنود يعتقدون الأرض محمولة على ظهر سلحفاة هائلة الحجم، وفي القبائل الأمريكية أنها محمولة على ظهر ثعبان كبير، أو على ظهر فيل بالنسبة لقبائل جنوبي شرقي آسيا..
إن ارتباط الفيضانات الكبيرة والتيارات البحرية الشديدة مع زلازل عنيفة في قاع المحيط هو الذي دفع بعض الجيوفيزيائيين إلى الاعتقاد بأن الفيضانات التي ضربت بلاد الرافدين قديما استمدت قوتها من زلزال عنيف وقع بالخليج الفارسي، وقد كان الدمار مَهُولا فأنطقت الخيال بحكايات وقصص الطوفان. في هذا الإطار يقول فاضل علي عبد الواحد: "وهذه الظاهرة الطبيعية المروعة التي لم يستطع الإنسان في وادي الرافدين السيطرة عليها بوسائله المتوفرة آنذاك، كانت في نظر الفرد، مثل غيرها من الظواهر الطبيعية الأخرى، سرّا من أسرار الآلهة وسلاحا من أسلحتها. ولهذا فقد احتل الطوفان حيزا مهمّا في معتقدات سكان وادي الرافدين وتآليفهم، ولنا أن نفترض أن واحدا من تلك الفيضانات العظيمة في بلاد سومر، التي ربما حدثت في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، بقي صداه في ذاكرة الأجيال لشدة هوله وبسبب ما ألحق بالناس والبلاد من دمار، بحث اتخذ منه المؤرخون القدامى أنفسهم نقطة لتاريخ الحوادث..." (يوسف حبي، الإنسان في أدب وادي الرافدين، منشورات دار الجاحظ، بغداد، 1980، ص. 37 و38).
وقد كان للحفريات التي قام بها الباحث Leonard Woolley في مدينة أور (Ur) تدعيما للرأي القائل بقوة الفيضان الذي أصاب بلاد الرافدين: "وهو يتابع بانتظام حفرياته، وجد تحت القبور، على بعد 12 مترا من العمق طبقة من الطين صافية (خالية من الأواني الخزفية أو الحصى) يبلغ سمكها ليس أقل من مترين ونصف. إن وجود هذا الطمي الطبيعي لا يتيح لنا إلا إمكانية تفسير واحد يهمّ العالم الجيولوجي أكثر مما يهمّ عالم الأثريات، لقد كانت بلاد سومر من قبل مسرحا لفيضان كارثي..."
(C. W. Ceram, Des Dieux, des tombeaux, des savants, éd. Plon/L.P., Paris, 1974, p. 382)  
بقيت ملاحظة بخصوص الآراء التي حاولت أن تلقي بحجر في بركة المعتقدات القديمة لتحركها، وكان أحدها هو ما اعتقده أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد بأن نشأة الزلازل ترجع إلى تسرب الغاز والهواء من باطن الأرض عبر الشقوق والفتحات الصخرية...

3-   تعريف علمي:
أــ الزلازل: عبارة عن هزات سريعة وقصيرة المدى تتعرض لها قشرة الأرض خلال فترات متقطعة نتيجة للاضطرابات الباطنية. ويعظم حدوث مثل هذه الهزات مع الثورانات البركانية العنيفة أو مع حركة التصدع العظمى، وعند احتكاك الصخور بشدة على طول أسطح الصدوع، وقد تهتز أجزاء قشرة الأرض بشدة بحيث يشعر بها الإنسان في حين أن هناك آلافا من الهزات الضعيفة قصيرة المدى لا تسجلها سوى أجهزة الرصد السيسموغرافية الدقيقة، وتتميز بداية حدوث الهزات الزلزالية بضعفها ثم بمرور ثوان قليلة جدا تنبعث الهزات العنيفة وبمضي ثوان أخرى تتناقص قوة الهزات إلى أن تتلاشى نهائيا...
ب ــ التسونامي: عندما تحدث الزلازل في قاع المحيط قد ينجم عن ذلك حدوث اضطرابات عنيفة في مياه المحيط وتتخذ شكل أمواج عالية تعرف في اليابان باسم أمواج التسنامي (Tsunami)، وأول علامة لبدء حدوث الموجات البحرية انسحاب المياه بشدة من الشاطئ نحو البحر، ثم بعد بضعة دقائق ترتد الأمواج ثانية إلى خط الساحل بقوة وعنف على شكل موجات بحرية عالية جدا، وينجم عنها تدمير المنشآت العمرانية على خط الساحل، بل وخروج المياه إلى اليابس وتجمعها أحيانا على شكل بحيرات ساحلية.
ومن أظهر أمثلة أمواج التسنامي تلك التي تحدث على سواحل جزر اليابان وجزر هاواي، ويبلغ عدد أمواج التسنامي التي تعرضت لها جزيرة هاواي منذ اكتشافها عام 1778 حتى الوقت الحاضر نحو ثلاثين موجة بحرية زلزالية كبرى، وفي أول أبريل عام 1946 حدث زلزال عنيف في جزيرة أنيمك (Unimak)... وبعد مضي 4 ساعات و 34 دقيقة وصلت مقدمات أمواج أمواج التسنامي إلى جزيرة هاواي، وذلك بعد أن عبرت الموجات الزلزالية البحرية نحو 2240 ميل، أي بسرعة 490 ميل في الساعة، وقد تراوح ارتفاع الموجات البحرية التي اصطدمت بسواحل جزر هاواي من 35 و45 قدم.
(حسن أحمد أبو العينين، كوكب الأرض: ظواهره التضاريسية الكبرى، دار النهضة العربية، بيروت، 1970).

4-   تحليل الخطاب الديني:

 في كتابه "تهافت الفلاسفة" يعلن الغزالي انتفاء العلاقات السببية وعدم الاقتران بين النتائج والمقدمات وبين الأسباب والمسببات معتبرا أن: "الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا (...) والنظر في هذه الأمور الخارجة عن الحصر يطول، فلنعين مثالا واحدا وهو الاحتراق في القطن مثلا مع ملاقاة النار، فإنا نجوز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق ونجوز حدوث انقلاب القطن رمادا محترقا دون ملاقاة النار" (أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، بيروت، 1962، ص. 195).
وقد دفع الرجلَ إلى مثل هذا الكلام رغبته في إنكار "الفعل الطبيعي" لأن وصف الطبيعة بأنها فاعلة تعبير متناقض من منظور الغزالي والذي يرى بأن الله هو الفاعل على الحقيقة، فعندما تحرق النار فليست النار هي الفاعلة بل على المجاز، وكذلك السكين لا تقطع، فالفاعل في كل هذا هو الله، هذه الفلسفة هي التي ما زالت وإلى اليوم، تؤسس منظور المسلمين للعالم والظواهر المحيطة بهم. فالغزالي يشكل نقطة مهمة في مسار التاريخ، فيه تجمعت الثقافة الرسمية السابقة ومنه انطلقت في اتجاه تأطير الأجيال اللاحقة. وطبيعي أن نجد في مجتمعاتنا أقل درجة الإحساس بالمسؤولية، فعندما يقتل أحد شخصا ما فإنما قتله على المجاز، فالفاعل إذن هو الله، وعندما تفجر جماعة ما إحدى المنشآت فإن "الله" هو الفاعل أيضا، هكذا يتم إهدار قوانين الثواب والعقاب في السلوك الاجتماعي. وحين تقع الزلازل والبراكين والفيضانات وتسبب من الكوارث ما تسبب فإن رد أسبابها الطبيعية للإرادة الإلهية في العقاب أو الابتلاء هو إعفاء المسؤولين عن تحويل الكارثة إلى دمار شامل سواء بالغش في المباني أو التصاميم... من المحاسبة، ولا نحتاج إلى كثير عناء كي نتذكر أيضا ما كانت قد قامت به الدولة الأموية من تكريس نظرية الجبر التي تسند كل ما يقع في العالم إلى قدرة الله من أجل تبرير أعمالها... هذا ما سماه نصر حامد أبو زيد بآلية: "ردّ الظواهر إلى مبدأ واحد"، في دراسته بعنوان: "الخطاب الديني المعاصر: آلياته ومنطلقاته الفكرية (ضمن "قضايا فكرية" 1989، وهي الدراسة التي جعلها أبو زيد الفصل الأول من كتابه الموسوم بـ: "نقد الخطاب الديني). بفضل هذه الآلية أيضا يتم إيهام الكثيرين بأن شركات توظيف الأموال الإسلامية ستحقق أرباحا خيالية ليست تبعا لقوانين السوق بل باليمن والبركة والتقوى. وإذا علمنا أن عبد الصبور شاهين كان وكيلا لإحدى هذه الشركات ــ شركة الريان ــ فهمنا لماذا قام الشيخ بحملته التكفيرية لنصر حامد أبي زيد، وأدركنا لمَ يكره شاهين والقرضاوي... العلمانية؟ يقول أبو زيد: "لذلك نرى أن معاداة العلمانية في الخطاب الديني المعاصر ــ وهذا ما شرحناه في "نقد الخطاب الديني": يرتد في أحد جوانبه إلى أنها تسلبه إحدى آليات الأساسية في التأثير (ونقصد ردّ الظواهر إلى مبدأ واحد)، ويرتد ــ في جانب آخر ــ إلى أنها تجرده من "السلطة المقدسة" التي يدّعيها لنفسه حين يزعم امتلاكه للحقيقة الكاملة، ورغم استنكار الخطاب الديني لموقف رجال الكنيسة في بدايات عصر النهضة فإنه يقترف الخطيئة نفسها حين ينادي بأسلمة العلوم والآداب والفنون، ويجعل من ذاته مرجعية شاملة تكرر موقف الكنيسة الذي يستنكره نظريا" (نصر حامد أبو زيد، التفكير في زمن التكفير، سينا للنشر، القاهرة، 1995، ص. 83).

5ــ ردود سريعة:
إذا زلزلت العقول زلزالها وأخرجت من خطلها وألقت بعجرها وبجرها فارتقب فسادا يعيث فيما حولها وفتنة ليس لها لا ما قبلها ولا ما بعدها، وهيهات هيهات أن يسكت الشرفاء لما يكيده الجبناء هيهات، فما هو فات قد فات وما هو آت ينذرهم بالويلات، وتحدث متحدثهم ونطق بما تكنه صدورهم بأن الأمر عقاب يتخفون وراء النصوص كاللصوص ليسرقوا الأحلام ويفسدوا الأفهام، فهلا أخبرنا دعيّهم هل كان طاعون عمواس وعام الرِمادة وقد حدثا في عهد عمر بن الخطاب واغتيال الخلفاء عمر وعثمان وعلي عقابا وغضبا من عند الله؟ ونطق أحدهم ضلالا وفاه خبلا بأنها إحدى ثلاث إما عقاب أو ابتلاء أو عبرة؟ وهل في الرياضة إلا انتصار أو هزيمة أو تعادل ! ويُروى ــ والعهدة على الراوي أن أحدهم هذا عالم جيولوجي قادم من عاصمة الضباب وهو ذو أصل مصري دفعه عجزه في ميدانه العلمي إلى الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة خصوصا إذا اقترن العجز بالغنيمة والسمنة وبالراحة والتخمة، فما ندري هل تعلّم هذا في لندنستان أم في أفغانستان؟ يُحكى أن حاكما في عهد جحا خصص جائزة مهمة لمن يعلّم حماره القراءة أما إذا فشل المرشح لذلك فجزاؤه القتل، ولم يجرؤ أحد على التصدي لهذه المهمة سوى جحا والذي اشترط مدة عشر سنوات لتحقيق ذلك فوافق الحاكم، فسُئل في ذلك فقال جحا لسائليه: في هذه المدة إما أن يموت الحاكم فأنجو من عقابه، وإما أن يموت الحمار فاُعذر في أمره، وإما أموت أنا فأكون قد عشت أياما هنيئة بجوار الحاكم.
ومزيدا من التوضيح ردّا على الذين يكفّرون من وراء النصوص بالتلميح وتارة بالتصريح، هذه فتوى ابن باز حول ثبات الأرض وجريان الشمس: "فلقد "فلقد شاع بين كثير من الكتاب والمؤلفين والمدرّسين في هذا العصر أن الأرض تدور، والشمس ثابتة، وراج هذا على كثير من الألسن، وكثر السؤال عنه، فرأيت من الواجب أن أكتب في هذا كلمة موجزة ترشد القارئ إلى أدلة بطلان هذا القول ومعرفة الحق في هذه المسألة، فأقول قد دلّ القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وإجماع علماء الإسلام، والواقع المشاهد على أن الشمس جارية في فلكها كما سخرها الله سبحانه وتعالى، وأن الأرض ثابتة قارة قد بسطها الله لعباده وجعلها لهم فراشا ومهدا وأرساها لئلا تميد بهم، قال الله تعالى: (أو لم ير الذين كفروا أن السماء كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي، أفلا يؤمنون، وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم) (...) فهذه الآيات الكريمات دلائل قاطعة، وبراهين ساطعة على أن الشمس جارية لا ثابتة، وأن الأرض قارة ساكنة كما أرساها الله بالجبال الرواسي ومدّها لعباده وبسطها لهم وجعلها فراشا" (ابن باز، الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب وعلى جريان الشمس والقمر وسكون الأرض، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، ط. الثانية، 1402هـ، ص. 21- 22).
فإما أن يأخذوا البضاعة كاملة وإما أن ينكصوا على أعقابهم، فا هو ابن باز مثلهم قد تخفى وراء النصوص لإفحام الخصوم (خصوم البداوة والتخلف) وتكفير حملة النور !! فالكرة الآن عندهم...

6- ختام
أين تأخذوننا  بلغْوكم؟ هل تعلمون أن مصادر العيش فوق الأرض قد ضاقت وقصرت عن حاجيات سكان البسيطة؟ والشمس ذاتها مزود الأرض بالحرارة، لا تتوفر إلا على 35 % من كتلتها على شكل هيدروجين، مع العلم أن اندماج أربع ذرات هيدروجين تحت الضغط الشديد والحرارة المرتفعة يتحول إلى ذرة هيليوم وتنطلق معه طاقة كبيرة هي التي تشكل نور الشمس، وقد تحدث الكارثة ! إن الأبحاث الجارية حول الكواكب الأخرى (مارس، زحل...) ليست من قبيل العبث، ولكنه التحسب لظرف قد تقع فيه الكارثة، سواء بتطوير إمكانيات الأرض أو البحث عن موطن آخر لسكان الأرض في المستقبل...

قد حُق للدنيا أن تسعد إذ أن الفكر المنتشر في العالم، هو الفكر الحداثي، إذ لو كان فكركم منتشرا لظللنا نركب الجِمال ونستظل بالخيام، ولو حلت الكارثة لقلتَ عن الإنسانية السلام !! فماذا ننتظر من إنسان يستمرئ العجز ومن شباب لا يقيم للقوانين السببية الأوزان إلا أن يهرب إلى الكهوف وشعاب الجبال، ولا عجب إذا وجدنا أحدهم تخط يده ما يلي: "وبعد، فإذا كانت هنالك، فعلا، مجموعة اجتهدت في مواجهة الواقع بهجرة إلى الجبال والشعاب، أو اجتهدت فيما تلبس وتظهر فيه، فإن من الضروري احترام موقفها واجتهاداتها (...) أما من ناحية أخرى فإن الإشارة إلى تكحيل العينين واستخدام السواك والتسمي بأسماء السلف الصالح (...) ثم من قال إن ممارسة ذلك يتنافى والعصر، إذ يمكنك أن تكحل عينيك وتقود طائرة نفاثة" (منير شفيق، بين النهوض والسقوط، دار البراق، تونس، والناشر للطباعة، بيروت، ط. الثانية، ص. 84).
وأَستأذنُ منير شفيق في تحيين عبارته تناغما مع المستجدات الحالية لكي تصبح: إذ يمكنك أن تكحّل عينيك وتقود طائرة نفاثة وتصطدم ببرجي مركز التجارة العالمي !!
لا تضحك من كلامهم عزيزي القارئ، ولكن... ولكن قهقه ثم تأمل جيدا..


*  نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية عدد الأربعاء 26 يناير 2005

الجمعة، 23 يناير 2015

جريدة "السبيل" أم التحريض على الإحراق والتقتيل، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



         إذا كانت جرائد الإسلاميين، عموما، تتميز بخطاب متطرف، فإن ما ميّز سنة 2005، ونحن في عز الحديث عن إعادة هيكلة الحقل الديني صدور جريدة تتميز عن غيرها بالدعوة بوضوح إلى التخلص من العلمانيين وكل المخالفين للسلفية، عبر التحريض على قتلهم مباشرة، وخصصنا هذا المقال لهذه الجريدة.

ملاحظة:
      : ردّت الجريدة على مقالي بكلام فضفاض وفي الحقيقة أكّدت الجريدة كلامي من حيث أرادت أن تدفع عن نفسها تهمة التحريض على القتل. ولأن الغاية لم تكن هي الدخول في جدل عقيم مع من لا يعرفون إلا التناحر ولا يفقهون شيئا في لغة التحاور فقد أعرضت عن التعقيب على ردهم، فالغاية كانت هي التنبيه على خطر الكلام الذين يروّج له أصحاب "السبيل" خاصة وأنها كانت توزع بأعداد كبيرة على الشباب


جريدة "السبيل" أم التحريض على الإحراق والتقتيل
عبدالواحد بنعضرا

منذ سنة وشهر خرجت للسوق جريدة أسبوعية تصدر ــ مؤقتا ــ مرة كل شهر؛ تسمى " السبيل " . من خلال تتبع مسارها في هذه المدة يمكن طرح بعض الأسئلة من قبيل: من الجهة المسئولة عن هذه الجريدة ؟ تمويلها ؟ توقيت خروجها ؟ وهل هي تنخرط في إعادة هيكلة الحقل الديني ؟  ويمكن القول بأنها تخصصت في ثلاثة أمور بالذات :
         1ــ التحريض على العلمانية واليساريين : إذ لا يكاد يخلو عدد من أعداد جريدة "السبيل"  من النيل من اليساريين والعلمانيين ونعتهم ب "اللادينيين" وبأنهم يحاربون الدين، وغيرها من الكليشيهات التحريضية والتي لا تنتظر إلا من ينفذ ويرسم صورة جديدة ل 16 ماي 2003، خاصة وهو يقرأ في هذه الجريدة : «فكيف بعد هذا يمكن أن نثق بأن العلمانيين ليسوا أعداء الدين ( ... ) فليس هناك صلاح بعد إفساد الدين، والعلمانييون اليساريون هم أعداء للعلماء منذ أن وجدوا، ورحم الله الشيخ الجليل عبدالله كنون الأمين العام السابق لرابطة علماء المغرب، فقد كان لا يترك فرصة تمرّ حتى يحذر المغاربة من سموم العلمانيين الللادينيين، وما كان أجرأه على الحق، حيث كان يصفهم على صفحات جريدة الميثاق ــ لسان الرابطة المذكورة ــ بالمرتدين والملحدين ..» (إبراهيم الطالب، ص. 6، جريدة السبيل، العدد 12، يوليوز 2006). ولا نستغرب إذا ما وجدنا الخلايا الإرهابية ما تزال نشطة وهناك إعلام يوقد نارها ويشعل فتيلها .

         2 ــ كالعادة ممارسة السياسة في الجنس:  إذ يختزل كتبة الجريدة كل الأمور في ما هو جنسي كيما يتمكنوا من ضرب الحداثة والقيم الإنسانية تحت ذريعة أن الحداثة و العلمانية وحقوق الإنسان عامة وحقوق المرأة خاصة ما هي إلا وسائل للإباحية والدعارة، فتقرأ : "دعاة الدعارة وحقوق المرأة" (وهو عنوان لمقال، انظر جريدة السبيل، ص. 15، العدد 02، شتنبر 2005). ولا يكتفي هؤلاء الكتبة بالتركيز على ضرورة ارتداء الحجاب، بل يعتبرون أن المكان الطبيعي للمرأة هو البيت؛ نقرأ إذن ما يلي: «ولهذا ما حاولت المرأة المسلمة مزاحمة الرجل في اختصاصاته، أو حاولت تقديم استقالتها من البيت، و ليس هذا لأنها غبية، أو ساذجة، أو لا تتوفر على مهارات، بل لوعيها العميق بمهامها، وهي ـ بكل فخر ـ رعاية البيت بما فيه ومن فيه، انطلاقا من البرور بزوجها، ثم العناية بأبنائها وتأهيلهم ..» (العياشي قبوسي، ص. 27، جريدة السبيل، العدد 01، يوليوز 2005). وحتى لا يبقى في نفوس كتبة جريدة السبيل شيء من حتى، فإنهم لم يكتفوا بالتحريض على الحداثيين من أجل تصفيتهم وإعدامهم، بل، وحتى يشفوا ما بصدورهم من غل وحقد، دعوا أيضا إلى إحراق وإعدام مؤلفاتهم، حتى يكون الإجهاز والقتل تاما؛ جسدا وفكرا، نقرأ إذن لهولاكو المعاصر ما يلي: «قلت: والدفن والإعدام، بل والإحراق أولى وأحرى بالكتب المسمومة الطافحة بالعقارب والحيات المليئة بالشرور والمنكرات، من أمثال ما كتبه دعاة تحرير المرأة ـ عليهم من الله ما يستحقون ـ. ولعل من يؤمن بالمفهوم الحديث للحرية الفكرية في العالم المعاصر يرى هذا الموقف حيال هذه الكتب عصبية حادة وتزمتا بغيضا، ولكنه موقف صحيح بالنظر إلى مصالح الأمة المسلمة» (رشيد الإدريسي، ص. 5، جريدة السبيل، العدد 02، شتنبر 2005). وسيكون المقصود أيضا بالتهديد بعض المنابر الإعلامية كجريدة "الأحداث المغربية" والتي نالت نصيبها من هجوم كتبة "السبيل" في أغلب الأعداد السابقة، حتى أنهم خصصوها منذ العدد الأول ( يوليوز 2005 )  بمقالين، الأول ص. 8، والثاني ص. 16 و 17 (والذي تعرضت فيه للهجوم كذلك جريدة الصحيفة). وأحب أن أعيد ما كتبته ذات مقال، إذ قلت: «من الأكيد أن الفكر الحداثي لم يكن مسؤولا يوما عن انحلال أو فساد، فالرجل الذي اغتصب الأطفال وقتلهم ثم دفنهم لم يكن حداثيا ولا له أدنى معرفة بها ولا بالديمقراطية، والفقهاء الذين هتكوا طفولة بريئة في الكتاتيب القرآنية لم يكونوا حداثيين ومهنتهم تدل على ذلك، وما وقع في بعض الجمعيات الخيرية الموسومة بالإسلامية من اغتصاب للأطفال لم يتورط فيه رجال حداثيون أو يساريون... وما بدأ يظهر ويتكلم عنه بعد أن كان من الطابوهات أعني ما يسمى بزنا المحارم لم تكن الحداثة مسؤولة عليه، إنما هذه مكبوتات تطل بقرنين بارزين معلنة عن نفسها بشكل أرعن، ولكم أن تتساءلوا عن المتسبب في هذا الكبت النفسي والجسدي والفكري؟» (انظر مقالي: ممارسة السياسة في الجنس، الأحداث المغربية ، الجمعة 04 فبراير 2005).
         3 ــ  زرع الأحقاد تجاه الأديان الأخرى:  فتحتَ عنوان "تصحيح عبارة: إننا نحترم جميع الأديان السماوية"، نقرأ: «إن المقولة التي مفادها: "إننا نحترم جميع الأديان السماوية" فهذا حق، ولكن ينبغي أن يعلم القارئ أن"الأديان السماوية" قد دخلها من التحريف والتغيير ما لا يحصيه إلا الله» (ص. 18، جريدة السبيل، العدد 11، يونيو 2006). والتصحيح لتلك العبارة معناه حسب كتبة "السبيل" عدم احترام أي دين، فاليهودية والمسيحية حرفتا، و: «أما الأديان الشركية كالبوذية والهندوسية وأمثالهما فلا كرامة لها، ولا يجوز لمسلم احترامها أبدا، ولا يعني هذا سبها أو التعرض لها أمام أتباعها إن كان يخشى من مفسدة أكبر ..» (نفسه). وإذن إلّم يُخش من ضرر فيجوز سبها و و ... !! أما المبدأ الثابت ــ حسب كتبة "السبيل" ــ فهو عدم احترامها. وإذ أن الحقد غالبا ما يقترن بالفتنة فإن هؤلاء الكتبة يصرون على أنه لا فرق بين اليهودية والصهيونية، مع أننا نعرف مغاربة يهودا ينتقدون الصهيونية. فتحت عنوان "هل هناك فرق بين الصهيونية و اليهودية ؟" كتب أحدهم ما يلي: «إن علاقة الصهيونية باليهودية علاقة عضوية حيث لا تنفك إحداهما عن الأخرى، وبالتالي يمكن القول: إن الصهيونية واليهودية وجهان لعملة واحدة..» (ص. 18 ، جريدة السبيل، العدد 13، غشت 2006). وهي دعوة من طرف خفي لاستئصال اليهود المغاربة.  
ختاما أتساءل: أهذا ما يعنيه إعادة هيكلة الحقل الديني ؟

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية عدد الثلاثاء 12 شتنبر 2006 

الأربعاء، 21 يناير 2015

الإسلام الأرثوذوكسي الجديد، بقلم عبد الواحد بنعضرا*

الإسلام الأرثوذوكسي الجديد




 
عبد الواحد بنعضرا


استطاعت الحركات السلفية أن تنجح في إيهام الشباب المسلم بإمكانية الوصول إلى الإسلام الصحيح عبر الرجوع مباشرة إلى الأصلين الرئيسيين عن طريقة قراءة "السلف" لهما. وليس هذا النجاح مرتبطا فقط بغياب الحس النقدي لدى هؤلاء الشباب، بل وبالأساس لأن العقل في البلاد العربية -الإسلامية لم يتحرر بعد، وخاصة، من الآليات التي عمل بها الفقيه، ولم يستطع كثير من المفكرين تغيير الفكرة، لأنهم في الأساس تباروا في نفس الساحة «السلفية».
 من المعلوم أنه في ظل الصراعات السياسية بين الأمويين (ثم العباسيين) وبين المعارضين (الشيعة والخوارج)، تبنت الدولة الحاكمة تفسيرا معينا للقرآن، ووضعت أحاديث تدعم بها مشروعية حكمها، وكانت النتيجة إسلاما رسميا، وشرعية رسمية، بالمقابل اعتبرت الدولة الحاكمة ما يقوله الشيعة والخوارج، وبقية المعارضين، مجرد بدعة وافتراء على الدين، ونشأ بالتالي ما يسمى بالإسلام الأرثوذوكسي. وهو أرثوذوكسي، لأن الفقهاء المعتمدين من طرف السلطة- كما يقول محمد أركون- أكدوا على إمكانية قراءة مطابقة لما أراد أن يقوله الله، ومعرفة التراث/السنة النبوية بشكل شامل من أجل استنباط جميع الأحكام التي ستكوّن الشريعة انطلاقا من هذين الأصلين القرآن والتراث-السنة- النبوية ... فعندما نقرأ لمحمد عزيز الحبابي بأن التصوف من بين الأسباب المهمة لاندحار الإسلام، وبأنه دخيل على الإسلام، وقد عمل التصوف على تغيير الروح الأصلية للإسلام واجتاح كل بنياته: فمعه بدأ المسلمون يتعاطون لكل أنواع القدرية والجبرية... وبالمقابل يدافع الحبابي عن السلفية باعتبارها الطريق إلى الاجتهاد.. نستشف إذن تحليلا بسيطا، وانتقائية بعيدة عن الشروط التاريخية لبروز تيار من التيارات!! وإذا تجاوزنا مسألة فكر دخيل أو أصيل باعتبار الإنسانية هي تداخل للحضارات والأفكار، فإن الصوفية في مبدئها، كانت تعبيرا عن حركة معارضة. في هذا الإطار يقول مهدي عامل، بأن الصوفية تنطلق من أن للنص ظاهرا وباطنا، يفرض أن على المؤمن، كي يكتمل إيمانه في الإسلام، أن يتجاوز الظاهر، الذي هو حيز الشرع، نحو الباطن، الذي هو حيز الحق.. ولهذا التمييز بين الشريعة والحق دلالة نظرية وسياسية كبيرة، فتحديد الشريعة بأنها ظاهر الحقيقة هو قول يستدعي بالضرورة التأويل، والتأويل ليس واحدا.. والتأويل الصوفي والإشراقي يحدد الشرع كعائق هو ظاهر يحول دون الوصول إلى باطن هو الحق، هكذا ينزع هذا التأويل على الشرع قدسيته، ويفرض ضرورة تخطيه كشرط لإدراك الحق في ذاته لا في ظاهره. إذ كانت غاية الإسلام هي الحق لا الشرع... (كتاب "نقد الفكر اليومي"). الصوفية كانت تسعى إذن لمواجهة استبداد النظام الحاكم عبر كشف زيف ادعائه بأن تفسيره للقرآن هو التفسير الصحيح.. قبل أن ينتبه الحاكمون ويعملوا بتلك الحكمة المعروفة: وداوها بالتي كانت هي الداء، ليشجعوا على بروز صوفية سلبية تعبر عن دروشة واعتزال ومسكنة لا تحرك للسلطة ساكنا ولا تزعزع لها قاطنا، بل وأصبحت تدافع عن مصالح الطبقة الحاكمة وإيديولوجيتها، كما فعل أبو حامد الغزالي في انتقاده للشيعة في كتابه "فضائح الباطنية"، والذي يعترف في مقدمته بأنه كتبه تنفيذا لأوامر الخليفة العباسي أحمد المستنصر بالله. عندما يقوم محمد عابد الجابري بالحديث عن العقل المستقيل-العرفاني بالنسبة للصوفية والشيعة، ألا يحق لنا أن نتساءل أين كانت هذه الاستقالة؟ عند الحركات المعارضة أم عند الجماهير؟ بالنسبة للجماهير فنعم، وإلى غاية اليوم!!.. أما بالنسبة للحركات المعارضة فهي استقالة عن منطق العقل الإسلامي الأرثوذوكسي أو ما يسميه الجابري بالعقل البياني، وبالتالي فهي طريقة لنزع الشرعية عن النظام الحاكم باسم إسلام أرثوذوسكي، يجد تبريره بواسطة عقل أرثوذوكسي.. لقد وصلنا اليوم تراث كبير، متناقض في جله، عاكسا الصراعات السياسية المتمثلة أيضا في ثرات «أرثوذوكسي» وآخر «بدعوي»، فتفاسير القرآن كثيرة ومختلفة، فتفسير الطبري مختلف عن تفسير الزمخشري مختلف عن تفسير ابن عربي، وصحيح البخاري عند السنة يقابله الكافي للشيخ الكليني عند الشيعة، وتاريخ الطبري يختلف عن تاريخ اليعقوبي.. والصوفية التي يجعلها الحبابي سببا لتراجع الإسلام والمسلمين، هي عند مهدي عامل حركة ثورية، تماما مثل التيارات الشيعية، وابن رشد الذي يرفعه الجابري على رأس البرهان والعقل، لا يرى فيه مهدي عامل سوى فكر رجعي شأنه في ذلك شأن المعتزلة باعتباره فكرا يعتمد على التأويل وبالتالي فهو يشتغل ضمن نفس المنطق العقلي للنظام الحاكم وليس من اختلاف بينهما إلا في حدود الدلالة اللفظية. والتاريخ الأرثوذوكسي يقابله تاريخ مسكوت عنه، ومثلما تماما، يكتفي البعض عند السنة بالتعليق على الخلافات بين الصحابة والمعارك التي سالت فيها دماء المسلمين بأن هذا نتيجة اجتهاد بين الصحابة، للمصيب عشرة أجور وللمخطئ أجر واحد... هناك من الشيعة من يعتبر هذه النزاعات هي مؤامرات لسلب عليّ حقه في الحكم وإخفاء لوصية النبي له بخلافته. وكما يعتبر البعض الحروب التي قام بها أبو بكر ضد القبائل العربية حروب ردة تبعا للتاريخ الأرثوذوكسي، فإن بعض النصوص قد تسمح للبعض باعتبارها حروبا من أجل فرض السلطة وتسميتها بالتالي حروب الصدقة. وبقدر ما قد رسخ في ذهن الكثيرين أن عبد الله بن سبأ هو المحرض على الثورة ضد عثمان بن عفان، وهو الرأي الذي تبناه مفكر مثل أحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام" وبعده حسن إبراهيم حسن في كتابه "تاريخ الإسلام.." نجد طه حسين في كتابه "الفتنة الكبرى" يعتبر كثيرا مما قيل عن عبد الله بن سبأ هو مبالغة كبيرة، ويصل الأمر عند مرتضى العسكري إلى تأليف كتاب كبير من جزأين يصل فيه إلى عدم وجود هذا الرجل في الحقيقة والواقع، وأنه مجرد اختراع لراوية اسمه سيف التميمي من أجل تشويه الحركة المعارضة للأمويين عامة ولعثمان بن عفان خاصة.
إن الحضارة الحديثة قد أتاحت فرصة بروز علوم إنسانية جديدة أنثربولوجية ولسانية واجتماعية.. وظهور عقل كوني - ما بعد حداثي-  قادر على تفكيك كثير من الشيفرات وتحديد الشروط الموضوعية والتاريخية لبروز ظاهرة من الظواهر... وإذا كان همّ الكثيرين منا هو إبراز إسلام متنور عقلاني - نظرا للظروف العالمية - فإن هذا لا يجب أن يمر عبر خلق إسلام أرثوذوكسي جديد، وانتقاء حركة أو تيار من التيارات كممثل لهذا الإسلام الأرثوذوكسي "العقلاني"، وانتقاء نصوص بعينها، لأن هذا لن يحرك أي شيء لدى الجماهير، وسيبقى العقل لديها مستقيلا. وبما أن الساحة هي نفسها، فإن النصوص حمالة أوجه ويستطيع كل من يريد، أن يسقط عليها توجهاته وطموحاته سواء السلمية أو العنيفة!! إذا كانت المعركة التي خاضها كثير من المفكرين في البلاد العربية- الإسلامية تستهدف إقامة مجتمعات مدنية مبنية على العدالة وتوزيع الثروات واحترام حقوق الإنسان، فإن الإسقاطات الممارسة على الماضي كالشخصانية في الإسلام والديمقراطية أو الاشتراكية أو الليبرالية في الإسلام ستجعل المعركة في عمقها تأخذ طابع إيمان/كفر.. مادام العقل مغيبا لدى الجماهير التي تمشي تبعا لنفس المنطق، منطق الثنائيات.. وستزيد من عمق الأزمة أن توجد حركات معارضة تعتمد ما كان ذات يوم نقدا واحتجاجا وصار اليوم نوعا من الهلوسة والوسوسة أو الدروشة، إذْ ما كان بالأمس ثورة على التفسير الأورثوذوكسي لا يستطيع اليوم بنفس تلك الآليات أن يكون ما كانه في الماضي... وإذا كان المجال السياسي بالأمس منحصرا في الدين أي لا فرصة لممارسة السياسة إلا في الدين، فإن إمكانات الحاضر وبروز وعي جديد للإنسان بشروطه، يحدد للسياسة مجالا واضحا للممارسة، لا يختلط فيه الدين بالسياسة ولا يتداخلان.. إن الكثيرين يسقطون طموحاتهم على الماضي، فمن يريدها دولة دينية. يحكي بأن النبي كان قائدا روحيا وزمنيا، ومن يريدها دولة علمانية يروي أن النبي لم يكن قط قائد دولة، عبر انتقاء كليهما لنصوص معينة لتدعيم نظريته. بيد أن العقل الكوني- ما بعد الحداثي لن يقع في هذا الإسقاط، فهب أن النبي كان قائد دولة أيضا إضافة إلى مكانته الدينية، فهل هذا يعني إقامة دولة دينية اليوم، أبدا، فإذا كانت الشروط التاريخية تسمح بذلك في تلك الفترة، فإننا اليوم في زمن آخر والشروط تسمح بفصل السياسة عن الدين، بل إنه لم يكن ممكنا في ذلك الوقت إلا أن نرى ارتباطا للسياسة بالدين والقبلية، بل حتى الدين بالنسبة لكل قبيلة كان فرصة لها للتعالي بخصوصيتها بل ولهيمنة ممكنة على قبائل أخرى، وهذا دور الأنثروبولوجيا لكي تكشف عنه. وكذلك القول بأن الإسلام يختلف عن المسيحية باعتبار المسيح قد أعلن (اعط مال لله لله، وما لقيصر لقيصر)، فلتفادي الدوران في حلقة مفرغة يجب الرجوع إلى الشروط التاريخية لنشوء كل دين، فإن غياب سلطة مركزية في الجزيرة العربية إبان ظهور الإسلام، يختلف عن ظهور المسيحية في فلسطين التابعة للسلطة المركزية في روما، وبالتالي لم يكن بإمكان المسيح الحصول على سلطة زمنية ومع ذلك- كما يرى محمد أركون- فإن المسيح قد قام بعميلتين مهمتين: لقد تفادى المواجهة المباشرة مع السلطة السياسية لروما، ولكنه طرح ضمنيا مشكل شرعيتها لأنها غير مستمدة من السيادة الروحية العليا للإله الموحي في شخص المسيح، (Ouverture sur l’Islam)، فالأديان في خطوطها العريضة متشابهة، وكلها تنطلق مما يسميه مارسيل كوشي Marcel Gauchet بـ "دَيْن المعنى"  (La dette de sens)، وإن الدراسات المقارنة للأديان حاليا يمكنها من إبراز نقط الالتقاء بين الديانات فيما بينها وأيضا بينها وبين الحضارات القديمة البابلية والمصرية.. إن البعض يحاول سلب المرأة حقوقها عبر التأكيد أن هناك دراسات تبين أن هناك فروقا بين المرأة والرجل من حيث القوة أو من حيث الذكاء... بل لقد وصل الأمر بأحدهم إلى اعتبار: الضرب والهجر من الإعجاز العلمي في القرآن (مصطفى محمود، حوار مع صديقي الملحد)؟؟؟ فعوض الدوران حول تأويلات وتأويلات مضادة، يجب على الباحثات والباحثين مساعدة المرأة على الوعي بشرطها، وهنا يتدخل العقل بكل ما تتيحه الدراسات والعلوم الإنسانية الحديثة من كشف الظروف والشروط التاريخية، في ظل مجتمعات ذكورية بطريركية طبقية، التي أدت إلى ظهور أحكام متشددة نحو المرأة انعكست في كثير من الأفكار القديمة بل وحتى في الديانات، ومازالت تجد لها اليوم صدى لعدة أسباب يتلزم توضيحها أيضا!!... إن على المفكرين ألا يضيعوا هذه الفرصة من جديد، أمام الإمكانات العلمية الحديثة وأمام تغيير شروط الوعي، من أجل تحرير العقل من استبداد العقلية الفقهية الانتقائية، ومساعدة الجماهير على التخلص من وعيها المزيف...

*   نشر في جريدة "الأحداث" المغربية عدد الأربعاء 22 دجنبر 2004