الخميس، 4 سبتمبر 2014

في اللغة.. أصحاب التجديد والحجاب كمثال، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



في اللغة.. أصحاب التجديد والحجاب كمثال
عبد الواحد بنعضرا
العرب لم يتكلموا بعد، هكذا قال أدونيس في "زمن الشعر"، بيد أن الشارع العربي لا يماثله شيء في كثرة الكلام. هناك لغتان لغة يتكلمها الناس، ولغة ــ هي التي ــ تتكلم الناس، اللغة أصوات والصوت عندما يخرج يظل منتشرا في الآفاق، تماما مثلما نرى الآن نجوما ونحن في حقيقة الأمر نرى ضوءها الذي أرسلته منذ ملايين السنين الضوئية، فكما يجد ضوء النجوم أعينا يسكنها، تسكن اللغة/الصوت أجسادا وأبدانا. لا تناقض بين قول أدونيس وبين الواقع. عندما تنظر إلى مجموعة من الناس في مقهى أو ناد أو أي ملتقى تجدهم "يتكلمون" كثيرا ثم يخرجون حتى لو لم يجيبوا على الأسئلة، حتى ولو لم يجدوا حلولا، وقد ينسون ما كانوا يتحدثون به من ذي قبل. إنهم يتنفسون فقط، أي يتخلصون من هذا الكلام (اللغة/الهمّ)، وكأن هذه المشاكل ليست مشاكلهم ولا الأمور أمورهم، هي مشاكل وأمور هذه اللغة التي تسكنهم، تصير اللغة هنا لغوا، أي ليست ذات معنى. كثير من العرب إذن تتكلمهم وتخلقهم لغة ما، ومن هؤلاء أصحاب "التجديد والحجاب". بيد أن لغتهم لغة خاصة، ولدت ما قبل الإسلام وأخذت قناعاتها من زمن الفتنة إلى زمن التدوين (القرن 2هـ)، واللغة كائن يولد ويكبر، وعندما يبلغ من الكبر عتيا يصعب أن يتم تغيير قناعاته، يصير مكتملا منغلقا على نفسه، حتى وإن بدا أحيانا غير ذلك. إنها لغة آتية من بعيد تفتّش عن ضحاياها، تسكن هذه اللغة أصحابها ولا تفارقهم إلا لتعود إليهم مثلما يسكن الجن ــ كما تصور كتبهم الصفراء ــ إنسانا ما.
إنهم لم يستفيدوا من الميثولوجيا القديمة لتصوير وتخيل كيف يسكن الجن الإنسان بقدر ما يصورون ويبرزون، وبحق، معاناتهم مع هذه اللغة التي تسكنهم، وتُقوّلهم ما لم يرغبوا في قوله مثلا، أو بالأصح أن اللغة تبرز معاناتهم مع الجسد الذي تسكنه، اللغة في واد والجسد الذي تسكنه في واد.
شيء مثل هذا تنبه له العرب وكانوا يعتقدون أن الشاعر ينطق بما يوحي إليه الجن الذي يسكنه، فكان صاحب عبيد بن الأبرص هو هبيد بن الصلادم، وكانوا يقولون لولا هبيد ما كان عبيد، وكان صاحب امرئ القيس هو لافظ بن لاحظ. الشاعر مسكون بلغة ما. عندما تريد لغتهم إبراز معاناتها مع الجسد لا ليس لها إلا قديما تعبّر به عن ذلك.
تتكلم اللغة هنا عبر وسيط هو الإنسان. وإذا نظرت إلى البوق كيف يخرج منه الصوت تكون قد حدّقت في صورة هؤلاء الذين تسكنهم هذه اللغة تماما مثل هذا البوق. لذا تجد صوتهم مرتفعا في أمور وتجده خفيضا أو منعدما في أمور ذات بال.
ولو كان هؤلاء هم الذين يتكلمون اللغة لما انفعلوا عندما يسمعون كلاما مخالفا، أليسوا هم الذين أنتجوا واخترعوا هذه اللغة أي هم مالكوها. هنا من الممكن أن يغيروها إذا اقتنعوا بأنها مخطئة ولحاوروا بدون انفعال، بيد أن العكس هو الذي يحصل، ما إن يبدأ مخالفهم بالحجج حتى يظهر العنف اللغوي، وهذا يعني أن الذي ينفعل ليسوا هم بل اللغة التي تسكنهم حتى لا تترك لهم فرصة التخلص منها، تحوّل التحاور إلى تناحر، تخشى أن يظهر أمرها، تماما مثلما يفعل الجن ــ كما يصورون ــ حينما يهمّون بإخراجه إذ يبدأ بالصراخ والصياح..
تجد لغة مصطفى الرميد وهو يخطب في يوم الجمعة (13 مارس 1981) بالحي الجامعي بطريق الجديدة، تقول: "ويبقى أن كل فتاة لم تلتزم بزي الإسلام اعتقادا منها بعدم وجوبه عليها، وتطعن في شرعيته، وتعتقد فيه ازدراء لها، فهي كافرة لا حظّ لها في الإسلام، أما تلك التي ترتديه تهاونا وتكاسلا، فهي فاسقة عاصية" (نقلاعن: عبد الرحيم أقوام، إلى كل أخت متحجبة، المكتبة السلفية، البيضاء، ودار البشير، القاهرة، 1993، ص. 84).
وتجد فقيههم عبد الباري الزمزمي في كتابه "الجهاد الكبير في مواجهة خطة الإباحية والتغريب"، تقول لغته التي تسكنه: "لكن الخطة التي طرحها بعض العلمانيين الزنادقة تريد أن تجرّ المغرب إلى الخط العلماني حتى يسلك مسلك تونس وينتمي إلى خط الشذوذ..." (منشورات جمعية الرحمة للتنمية الاجتماعية، ط. الأولى، 2001، ص. 134).
وتقول لغته في مهرجان خطابي: "ونحن نقارن بين مسيرتنا ومسيرتهم التي هي مسيرة الزيغ والإلحاد (...) ونحن نرجو ونطلب من علماء الرباط أن يوجهوا نداء إلى المسلمين سكان الرباط كي يقاطعوا المسيرة الإلحادية، وأن يقاوموها، وأن لا يسمح رب اسرة لفتاته أو ولده أن يشارك القوم في زندقتهم وزيغهم..." (نفسه، ص. 202 – 203).
ترى هل كانت أحداث 16 ماي من نوع هذا الجهاد الكبير؟ أقول هذا، ولا أظنها مصادفة أن تنبت جماعات كالفطر (السلفية الجهادية، الصراط المستقيم...) تزامنا مع عرض خطة إدماج المرأة في التنمية !!
للغتهم هذه آلياتها، أي ما تحمله معها من قديم مثل "التقية" فهي في بنيتها منذ أخذ بها محمد الباقر وابنه جعفر الصادق، قد تغير لغتهم من حدّة خطابها لظروف المرحلة ولكن إلى حين، كل شيء على حاله في العمق لا تغير حتى لو مرّت السنون. في حوار له مع جريدة الأيام، يوضح مصطفى الرميد حول تصريح له لوكالة "أسوسييتد بريس" أنه عندما سأله الصحفي حول نيتهم إلى السعي في تطبيق الجانب العقابي في الشريعة، نطقت لغته بما يلي: "فأوضحت له أن الشريعة بها نصوص واضحة بهذا الشأن، غير أنه من الواجب أن يتم استيفاء شروط تطبيق هذه النصوص بالعقاب، فطلب مثلا، فأعطيته مثالا قطع يد السارق، حيث لا يمكننا قطع يد السارق إلا إذا أهّلنا المجتمع دينيا واقتصاديا واجتماعيا.." (جريدة الأيام، 17 – 23 اكتوبر 2002، العدد 56).
لا يغرنك الحديث عن شروط التطبيق، ما هذا إلا باب من أبواب التقية، ولو كان الأمر بيدهم لما تأخروا في ذلك، وسيطبّلون كما طبّلوا لنميري حين فعلها في السودان في 83 – 1984، وياله من دخول إذن إلى زمن العولمة، ولو كان لهم الأمر، إذن لدخلنا العولمة من أوسع أبوابها بأياد مقطوعة وأطراف مقطّعة من خلاف وظهور مجلودة وعيون مفقوءة. 
هل يعني إذن الحديث عن لغة تسكنهم، أنهم لا يتحملون أية مسؤولية؟ عندما لا يتكلم إنسان لغة ولا ينتجها يبحث عن أن يكون ناطقا حتى بواسطة لغة ليست له، لا يريد أن يظل أبكم، إذن هناك شبه اتفاق وتواطؤ بينه وبين اللغة التي تسكنه.
لذا نقول مجازا "قال فلان منهم"، لا لأن هذا مما جرت به العادة، ولكن لأنه بقدر ما تبحث اللغة عنهم هناك رضى منهم لكي لا يظلوا بدون نطق.
عندما يأتي سائح إلى مدينة الدار البيضاء، ويرى ما يوجد فيها وهي "البيضاء" من نقاب وحجاب ولباس أفغاني سيعتقد أنه أخطأ وحطّ الرحال بقندهار، ونتأكد نحن أيضا أن عدد الأبواق قد كبر بيننا.
أتساءل هل نريد للأجيال القادمة أن يكونوا مجرّد لغة/لغو أم متكلمين.


* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الأربعاء 18 فبراير 2004

حجاب الصغيرات.. اغتصاب للطفولة، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



حجاب الصغيرات.. اغتصاب للطفولة
عبد الواحد بنعضرا
بيّنت كثير من البحوث العلمية التي أجريت أن الفروق الموجودة بين الجنسين تعود أساسا ــ وتشكل انعكاسا ــ للأنظمة الاجتماعية السائدة، تقول أورزولا شوي في كتابها: "أصل الفروق بين الجنسين" ما يلي: "إن الخصائص الأنثوية، التي كانت تعتبر أصلية، مثل عاطفة الأمومة والعاطفية والاهتمام الاجتماعي والسلبية، ليست أنثوية بالطبيعة ولا فطرية بل مكتسبة ثقافيا، كيف يحدث هذا؟ عبر تأثيرات مباشرة وغير مباشرة في الأيام والشهور والسنوات الأولى من الحياة، هذا ما يمكن تبيانه اليوم وبدقة علمية وفي كل مرحلة من مراحل التطور" (دار الحوار اللاذقية، 1995، ص. 11). وتضيف أرزولاي شوي: "إن ما تسمى طبيعة "أنثوية" و"ذكرية" كانت وما تزال تخدم لإضفاء الشرعية على استمرار سيادة الرجال على النساء وتتخذ ذريعة لتوزيع العمل تبعا للجنس، هذا يعني: مسؤولية النساء وحدهن فيما يخص العمل في حقل إعادة الإنتاج [من حمل وولادة وتربية أطفال وأعمال بيتية غير تجارية] وحصرهن في أعمال "نسوية الطابع" في حقل الإنتاج الاجتماعي (أشكال "أنثوية" الطابع، سيئة الأجر، في النهاية الدنيا من التراتب). وتتخذ من ناحية أخرى ذريعة لتحرر الرجال من العمل في مجال إعادة الإنتاج ولدمجهم تماما في عملية الإنتاج (بأجر أفضل وفي مرتبة أعلى من مرتبة النساء)..." (نفسه، ص. 19).
ففي الأنظمة الاجتماعية الذكورية الأبوية، يحدد دور المرأة بأنها تابعة وخادمة للرجل، مطيعة له ومستسلمة، ومن أجل ذلك تقدم نفسها قربانا له ولأطفاله أيضا، وكي تقتنع بذلك عليها أن تتلقى منذ طفولتها المبكرة تربية تحدّ من قوتها وقدراتها الجسمية والنفسية والفكرية وتضيّق عليها مجال وميدان التحرك، وتفرض عليها طاعة الذكور جميعا، الأب والإخوة ــ حتى لو كانوا أصغر منها ــ بل وحتى أبناء حيّها أحيانا. وفي هذا الإطار يمثل الحجاب ــ بالنسبة للصغيرات ــ وسيلة ناجعة ورمزا للخضوع والاستسلام وطبعا لكبح ولجم قدرات الطفلة الصغيرة التي تلزم نفسها بالتقيد ببعض القيود (عدم الغناء، عدم الرقص، الامتناع عن بعض الألعاب، عدم الضحك كثيرا خاصة مع الأطفال الذكور...) حتى تبدو منسجمة مع حجابها، تفقد هذه الصغيرة براءتها باكرا، وتغتصب في طفولتها. وإذا كانت المادة 19 من اتفاقية حقول الطفل تنص على أن: "تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتعليمية الملائمة لحماية الطفل من كافة أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية والإهمال أو المعاملة المنطوية على إهمال، وإساءة المعاملة أو الاستغلال..." (المادة 19، الفصل 1). أفلا يعتبر حجاب الصغيرات ــ بما بينته أعلاه ــ شكلا من أشكال العنف والضرر وإساءة بدنية، وسوء معاملة...؟ بل ألا نقول أنه حجاب للعقل أي إساءة عقلية؟ أفلم يحن الوقت لكي يتم النظر إلى هذا الأمر بجدية أكبر؟
لقد ذهب الأمر بأحدهم إلى أن أفتى أنه في حالة وجود قانون يرغم الفتاة على خلع الحجاب في المدرسة بأن: "الدراسة التي تترتب عليها معصية فإنها لا تجوز، بل عليها دراسة ما تحتاج إليه في دينها ودنياها، وهذا يكفي ويمكنها ذلك في البيت غالبا" (جريدة التجديد 23 دجنبر العدد 822). فهل هناك إساءة عقلية أكبر من هذه، يتضح فعلا بأن حجاب الصغيرات يلعب دورا كبيرا في تثبيت كثير من المقولات الاجتماعية البالية لدى هؤلاء الصغيرات، لدرجة أن تلغى من أجله الدراسة، بل الحياة كلها. نعم الحياة كلها، فهل ننسى تلك المأساة التي عرفتها السعودية في شهر مارس 2002 حين اشتعلت النيران بإحدى مدارس البنات، ولأنه طبيعي أن تهرول البنات في اتجاه أبواب المؤسسة هلعا وهربا، لكنها أغلقت أمامهن، لماذا؟ لأنهن غفلن عن غطاء رأسهن، فماذا كانت النتيجة؟ موت 14 تلميذة.
مأساة كهذه لم تحرك ساكنا ولم تزعزع قاطنا لأولئك الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدوها من أجل قرار الرئيس الفرنسي بمنع الحجاب بالمدارس.. أولئك الذين تنتفخ أوداجهم في حديثهم وكلامهم عن الحجاب، ولكنهم لا يعيرون بالاً لأوضاع المرأة الضعيفة، أو الجائعة أو التي لا يوجد في قاموس أبيها وأخيها أو زوجها معا إلا لغة الضرب والركل والرفس. أليس هذا من ضحك الأقدار بل ومن قهقهتها؟
ولا نستغرب كثيرا لهؤلاء فإن شيخهم ابن باز كتب كتابا سماه: "التبرج وخطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله" يبتدئ قوله فيه: "أما بعد، فلا يخفى عن كل من له معرفة ما عمت به البلوى في كثير من البلدان من تبرج الكثير من النساء وسفورهن وعدم تحجبهن من الرجال، وإبداء الكثير من زينتهن التي حرم الله عليهن إبداءها، ولا شك أن ذلك من المنكرات العظيمة والمعاصي الظاهرة، ومن أعظم أسباب حلول العقوبات ونزول النقمات لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش وارتكاب الجرائم وقلة الحياء وعموم الفساد. فاتقوا الله أيها المسلمون، وخذوا على أيدي سفهائكم، وامنعوا نساءكم مما حرم الله عليهن، وألزموهن التحجب والتستر، واحذروا غضب الله سبحانه، وعظيم عقوبته" (مكتبة السنة، القاهرة، 1987، ص. 3). أهذه مقدمة كتاب أم بيان حرب وإعلان قتال، وقد كان، وسقطت الضحايا فعلا.
أتساءل كيف ستتم حماية الطفلة الصغيرة من مثل هذه الأفكار السوداء التي يفرضها عليها الأب أو المعلم أو الأستاذ (المحسوبون على الأصولية الدينية) والتي تصل عند بعضهم إلى مساومة التلميذات على النقط، فيصير حجابهن لازما للحصول على نقط جيدة، أما رفضهن فسينقلب عليهن وبالاً.
تعرّف اتفاقية حقوق الطفل أن "الطفل" هو: "كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه" (المادة 1). وبالتالي فالطفل (خاصة في مرحلة الابتدائي والإعدادي) ليس ناضجا بما يكفي للحكم على أشياء كثيرة، وإن أي أمر يتعلق بمسألة اختيار لا يمكن أن يتم إلا إذا كان الإنسان يملك القدرة على التمييز وتقييم الأشياء. ولأننا لا نريد في عالمنا اليوم براءة موءودة ولا طفولة مغتصبة، وجب علينا رفع الحيف والظلم على كثير من البنات الصغيرات اللواتي تستجبن لرغبات وإكراهات آبائهن أو مدرسيهن ولسان حالهن يردد:
لا تحسبوا رقصي كان من طرب               إن الطير يرقص مذبوحا من الألم
لذا أطالب الوزارة الوصية بإصدار قرار يمنع ارتداء الحجاب في المدارس الابتدائية والإعدادية، للأسباب التي ذكرتها في هذا المقال، وأرجو أن يؤخذ هذا الطلب بالجدية اللازمة. ولعلها تكون خطوة جادة في سبيل وطريق التصحيح. إننا نغني من أجل مغرب الحداثة، من أجل مغرب مشرق ينظر إلى الأمام ولا يلتفت وراءه، هذا المغرب لا يمكن بناؤه إلا إذا ساهم فيه الجميع ذكورا وإناثا بدون عوائق أو قيود.

* نشر هذا المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الجمعة 23 يناير 2004.

الأربعاء، 3 سبتمبر 2014

فقه الأزمة، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



فقه الأزمة
عبد الواحد بنعضرا
نتحدث غالبا عن أزمة الفقه والفقهاء مما يوحي بل ويؤكد أن مشكلتنا تتجلى في غياب الاجتهاد، وكأننا ننسى أن الفقه يعتمد على النص، والنص ثابت لا يتغير وبما هو كذلك فهو محدود. وأمام المشاكل التي طرحت إبان الغزوات العربية - الإسلامية الأولى للبلاد التي تختلف طبيعتها عن طبيعة الجزيرة العربية، كان أمام المشرّعين طريقان، أولهما التأويل وثانيهما وضع الأحاديث، يقول أحمد أمين: "حتى الأحاديث الموضوعة نفسها كان لها فضل في التشريع، فإنها لم توضع اعتباطا ولا كانت مجرد قول يقال، إنما كانت في الغالب نتيجة تفكير فقهي وبحث واجتهاد، ثم وضع هذا الرأي وهذا الاجتهاد في قالب حديث"([1]). أما اليوم وقد جمعت الأحاديث وأصبحت معروفة فما عاد بإمكان أحد أن يضع حديثا جديدا، وأما التأويل فقد تباعد الزمان واتسع الخرق على الراتق، واستنفد التأويل نفسه.
إن المشكل اليوم ليس أزمة فقه أو فقهاء ولكنه أساسا فقه يُطلب منه أن يشرّع للأزمة حيث تجتمع المتناقضات: التخلف والتقدم، الثابت والمتغير، قيم رجعية وقيم حداثية، أنظمة حكم علمانية بالفعل دينية بالقوة ــ ولا أظن العكس صحيحا ــ فالأنظمة العربية – الإسلامية تمارس سياستها وشؤونها بطرق علمانية ولكنها بالمقابل تعمل على نشر الأصولية الدينية بين شعوبها، وإن المطلوب من هذا الفقه أن يشرّع حسب ما تمليه الظروف من مواقف إيديولوجية أو سياسية، فعندما يريد السياسي الدخول في الحرب يقرأ عليه فقهاء الأزمة الآية: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم) (الأنفال 60). وإن أراد السياسي الدخول في معاهدة السلام، قرأوا عليه الآية التي تليها مباشرة: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) (الأنفال 61). إنه فقه تبريري، إننا نتحدث إذن عن فقه الأزمة.
وهنا نضع سؤالا: ما مدى المسؤولية التي يتحملها الفقهاء الذي عاشوا تلك العصور التي ننعتها بالجمود وغياب الاجتهاد، بل ألا يمكن ألا تكون لهم أية مسؤولية باعتبار أن الحضارة الأوروبية لم تقف على الباب بعد؟ وبمعنى آخر ألم يكن "اجتهاد" محمد عبده إلا ثمرة اصطدام بالحضارة الأوروبية؟ وإذن لو كان الصدام وقع فيما قبل لرأينا عددا كبيرا من "محمد عبده".
إن ما قام به محمد عبده لم يكن سوى محاولة التوفيق بين النص وبين الحضارة الأوروبية، عبر صبغ قيم أوروبية بصبغة دينية، وفي اتجاه معاكس محاولة عقلنة ما لا يعقلن. نصل إلى تساؤل: ألم يساهم محمد عبده بمحاولة إخراج كل تجديد تحت عباءة الدين في فشل الإصلاح، ألا يتضح ذلك جليا في الخط الذي سلكه تلامذته، فرشيد رضا شكل تراجعا كبيرا، ومن جاءوا بعده كانوا أضيق أفقا (جماعة الإخوان المسلمين مثلا).
إن محمد عبده كان يضع بما فعل النواة الأولى لفقه الأزمة، الذي سيبلغ ذروته مع هزيمة 67 والفورة النفطية السعودية في السبعينيات. ويتميز فقه الأزمة في كلّيته بنتائجه الكارثية التي تأتي عكس ما أريد منه ظاهريا، فيكفيه أنه يعمل على تزييف الوعي الشعبي عبر اختزال كل شيء في الدين، وسنرى بعضا من نماذج فقه الأزمة:
ــ فتوى يوسف القرضاوي حول قروض السكن، يقول: "شخصيا أفتيت الإخوة خارج البلاد الإسلامية بجواز الاقتراض من أجل السكن. لكن في الحقيقة، منذ حوالي 25 سنة وأنا أزور أوروبا وأمريكا، وكنت لا أبيح أخذ القروض من أجل السكن، ولكن منذ سنوات بدأ اجتهادي يتغير، وأنا أفتيت بمذهب أبي حنيفة الذي أفتى به شيخنا الأستاذ الزرقاء أيضا وبعض مشايخ الحنفية من الهند وباكستان، ورأيت أن هذا المذهب يحل الكثير من مشاكل المسلمين في أوربا وأمريكا، ذلك أن المسلمين قد أنعم الله عليهم بكثرة الأولاد أو الذرية... فالمسلمون لهم أطفال كثيرون وهذا يسبب لهم مشاكل كثيرة وهم يشكون منها، فهم محتاجون إلى بيوت يملكونها للسكن ولا يستأجرونها. أنا وإن كنت متشددا في السنوات الأولى فقد بدأت أخيرا آخذ بمذهب الأحناف، حيث يقول أبو حنيفة: يجوز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب، ويقصد بدار الحرب ما ليس بدار الإسلام فهو دار حرب، فنقول يجوز التعامل بعقودهم الفاسدة ومنها عقد الربا ولكن بشرطين: الشرط الأول: أن تكون هناك مصلحة للمسلم.
الشرط الثاني: ألا يكون في ذلك غدر أو خيانة، أي أن يكون هناك مراعاة للجانب الأخلاقي.
أنا أفتيت بجواز هذا ببلاد الغرب، أما بلاد المسلمين فلا أفتي بهذا"([2]).
إن الأمر لا يتعلق بقصور اجتهاد كما قد يظن البعض، فما أسهل أن يجد القرضاوي فتوى من مذهب أبي حنيفة عندما يطلب منه ذلك، ولكن الأمر يتعلق بشيء آخر. وكما أن فقه الأزمة له نتائج كارثية في كليته، فهو كذلك في جزئيته، أي في كل فتوى على حدة. وانظر: يجوز للإنسان المسلم أن يملك دارا في الغرب، بينما لا يجوز ذلك للمسلم المقيم في بلاده، لماذا؟ لأن بلاده إسلامية !!!
ــ أما النموذج الثاني فهو رأي مصطفى محمود في الضرب والهجر في المضاجع، يقول: "والضرب والهجر في المضاجع من معجزات القرآن في فهم النشوز... وهو يتفق مع أحدث ما وصل إليه علم النفس العصري في فهم المسلك المرضي للمرأة، وكما نعلم يقسم علم النفس هذا المسلك المرضي إلى نوعين: المسلك الخضوعي وهو ما يسمى في الاصطلاح العلمي ماسوشزم "Masochism" وهو تلك الحالة المرضية التي تلتذ فيها المرأة بأن تضرب وتعذب وتكون الطرف الخاضع، والنوع الثاني هو المسلك التحكمي، وهو ما يسمى في الاصطلاح العلمي سادزم "Sadism" وهو تلك الحالة المرضية التي تلتذ فيها المرأة بأن تتحكم وتسيطر وتتجبر وتتسلط وتوقع الأذى، ومثل هذه المرأة لا حل لها سوى انتزاع شوكتها وكسر سلاحها الذي تتحكم به، وسلاح المرأة أنوثتها وذلك بهجرها في المضجع، فلا يعود لها سلاح تتحكم به. أما المرأة الأخرى التي لا تجد لذتها إلا في الخضوع والضرب فإن الضرب لها علاج.. ومن هنا كانت كلمة القرآن: (واهجروهن في المضاجع واضربوهن) (النساء 34) إعجازا علميا وتلخيصا في كلمتين لكل ما أتى به علم النفس في مجلدات عن المرأة الناشز وعلاجها"([3]). كلام يدعو إلى الضحك ضحك ولكنه كالبكاء.
ــ والنموذج الثالث هو رأي ابن خليفة الذي يؤكد على أن الهياكل والجماجم القديمة هي للجن وليست للإنسان، يقول ابن خليفة: ".. وقبل هذا لابد من القول بأن المخلوقات التي كانت تسكن الأرض قبل آدم كانت لها أجسام مادية ملموسة لأن سفك الدماء لا يقع إلا على الجسم الحيواني، كما أن الفساد لا يكون إلا بتعد الحدود وانتهاك الحرمات ومما يدل على هذا أيضا خروجهم من الأرض إلى الجزائر وأطراف الجبال وقتل بعضهم البعض منهم، أن لهم جميع الصفات البشرية من طعام وشراب وزواج وحياة وموت... إذ لو كانوا غير ماديين وغير ملموسين كما قد يتصور البعض في لفظ الجن لما أمكن وقوع سفك الدماء منهم، إن لفظ الدم يوجب القول بأن لهم أجساما ذات هياكل عظمية، وأحشاء داخلية، وفيها بعض الصفات البشرية (...) ويقول علماء الانتربولوجية: "وهناك ما يدل على أن إنسان "نياندرثال" كان قبيح المنظر كث الشعر شرس الطباع، لا يأتلف بالمعاشرة، كما كانت إناثه تقزز النفس ببشاعتها". إذن فهذا الذي أطلقوا عليه اسم نياندرثال لم يكن إنسانا لأن الله تعالى يقول: (خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) لذا كان هذا النوع من أشباه البشر من سكان الأرض [أي الجن] هم الذين أفسدوا وسفكوا الدماء فيها"[4].
أحسب يا عزيزي القارئ وأنت تقرأ هذا الكلام أن ما يتبادر إلى ذهنك هو المثل المغربي: "هل تنطح أم انطح؟"، ولكني لن أنطح وأنت أيضا لن تنطح، فإن الأمر لا يتعلق برأس أو رأسين يصدر عنها مثل هذا الكلام، بل برؤوس عديدة، ولا الأمر يتعلق بقناعات يمكن تغييرها بكلمة أو كلمتين، بكتاب أو كتابين، أو حتى في سنة أو سنتين، بل إنها بنية فكرية قد ترسخت ومن أجل تفكيكها وخلخلتها نحتاج إلى جهد كبير وشجاعة دون مزايدات ولا مغازلات.
وكما أن فقه الأزمة في كليته يلبس لكل حالة لبوسها، فهو في الخمسينات والستينات يرفع شعار اشتراكية الإسلام، وبعد ذلك الديموقراطية في الإسلام، واليوم الإسلام وحقوق الإنسان.. فإنه كذلك في جزئيته يلبس لكل حالة لبوسها، فلقد دأب فقهاء الأزمة في مواجهة كل جديد بتحريمه أولا ملوحين في ذلك بسيف المعز وذهبه، وهكذا يتراوح سعيهم بين الترغيب والترهيب، فتارة يلوّحون بالنعيم المقيم الذي ينتظر المطيع وتارة يلوحون بالعذاب الأليم للعاصي، إذا لم يرتدع ولم يستجب، حتى إذا ما مرت السنون فأصبح الجديد أمرا واقعا وتبدلت الأشياء، وللواقع أحكامه التي يفرضها مع مرور الزمن وانصرف الناس عن رأي الفقهاء، نطق لسان حالهم بما قاله زهير بن أبي سلمى:
        ومن لم يصانع في أمور كثيرة          يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
فيقولون أن الأمر قابل للنظر وله وجه حل، وهكذا يصبح الأمر حلالا ولكن بشروط، حتى إذا كشر الواقع عن أنيابه بدون مماطلة،وخاف القوم، قالوا: فلنحافظ على شعرة معاوية، فيغدو الأمر ليس حلالا فحسب بل واجبا، وهكذا فعلوا مع عمل المرأة، فمن أقصى تحريمه إلى جعله واجبا ــ خاصة عمل المرأة كمدرسة للفتيات ــ، وكذلك تعليم المرأة، ومع الغناء فبعد أن كان رقية اللواط والزنا سيصير وسيلة للترويح عن القلوب فإن القلوب إذا كلت عميت، ومع فوائد الأبناك فبعد أن كانت ربا تصبح حلالا كما أفتى بذلك محمد سيد طنطاوي في التسعينات وهي الفتوى التي أخذ بها الأزهر هذا العام.
بل انظر إلى رأي الفقهاء في الانتخابات، فبعد أن كانت الديمقراطية كفرا بواحا لأنها حكم الشعب ها هي اليوم تصبح واجبا لا غنى عنها وتصبح الانتخابات شهادة آثم من لم يؤدها، يقول يوسف القرضاوي: "فإذا نظرنا إلى نظام الانتخابات أو التصويت، فهي في نظر الإسلام "شهادة" للمرشح بالصلاحية (...) ومن تخلف عن أداء واجبه الانتخابي حتى رسب الكفء الأمين، وفاز بالأغلبية من لا يستحق، ممن لا يتوافر فيه وصف "القوي الأمين" فقد كتم الشهادة أحوج ما تكون الأمة إليها. وقد قال تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا) (البقرة/282)، (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) (البقرة/283)"[5].
ما الذي وقع إذن ما بين سيف وذهب المعز وبين شعرة معاوية؟ لم يقع شيء سوى أننا أضعنا وقتا كبيرا وجهدا مبذولا في جدالات كثيرة، واستنزفنا طاقاتنا في غير محلها، ولم يقع شيء سوى أن ضيعت حقوق، سوى أن عاشت المرأة في ظل ظروف غير كريمة، بلا تعليم ولا عمل ولا حقوق، في كثير من الأقطار العربية ـ الإسلامية، وسوى أن المجتمعات العربية – الإسلامية ولدت أجيالا وأجيالا كثيرة لا يمكن لأي مخطط تنمية أن يستجيب لها، أجيال كانت عائقا لأية تنمية، فهي لم تأخذ حقها من التربية ولا من التعليم ولا من الصحة ولا العيش الكريم، لا لشيء إلا لأن كثيرا من الفقهاء يصرون على أن تنظيم بله تحديد النسل حرام. لم يقع شيء سوى أن فتح المجال للانتهازيين والطفيليين بأن ينشئوا شركات توظيف الأموال الإسلامية ولا يعدو أمرهم عن كونهم تجار عملة فكدسوا ثروات هائلة وهربوا بها، بينما الاقتصاد المحلي تلقى ضربات قوية ــ مصر مثلا ــ، وحتى يصدر محمد الغزالي ــ سابقا ــ فتوى بأن دخول الجن في الإنسان ما هو إلا خرافة وأن الاضطرابات التي يعاني منها المرضى ما هي إلا أعراض أمراض نفسية أو عضوية، كم هلك من مريض وكم استطاع من مبتز من الدجالين الذين يدّعون أنهم يخرجون الجن من الإنسان أن يتلاعب بآلام المرضى ويغتني ويثري. وغيرها وغيرها... وبالجملة لم يقع شيء سوى أننا قد شددنا إلى الوراء شدا، وأن تركنا لكل الطفيليين والانتهازيين أن يغتنوا ويثروا باسم الدين.

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية، يوم الأربعاء 19 نونبر 2003.


[1] - أحمد أمين، فجر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط. الحادية عشرة، 1975، ص. 245.
[2] - يوسف القرضاوي، شروط نجاح مؤسسة الزكاة في التطبيق المعاصر: محاضرات من ندوة التطبيقات الإسلامية المعاصرة، سلسلة الحوارات 32، منشورات الفرقان، الدار البيضاء، 1998، ص. 44).
[3] - مصطفى محمود، حوار مع صديقي الملحد، دار العودة، بيروت، 1981، ص. 60 – 61.
[4] - ابن خليفة، الحجج العصماء في نقض نظرية داروين في النشوء والارتقاء، مطبعة خالد بن الوليد، دمشق [د.ت]، ص. 71 – 74.
[5] - يوسف القرضاوي، فتاوى معاصرة، الجزء الثاني، دار القلم – دار الوفاء، المنصورة، ط. الثانية، 1994، ص. 643 – 644.

الثلاثاء، 12 أغسطس 2014

بستان أطفال.. من زنك ونار، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



بستان أطفال.. من زنك ونار
عبد الواحد بنعضرا


يتعلق الأمر بملحق يوم الجمعة من جريدة التجديد، وهو من خلال عنوانه "بستان الطفولة" موجّه للأطفال. غير أن المطلع على أعداد هذا الملحق لن يجد أية علاقة بينه وبين الأطفال إلا من حيث شحنهم بخطاب إيديولوجي، وبلغة أكبر من سنهم. ففي "حكايات احمد"، نجد عبارات يتداولها أصدقاء صغار مثل: "... كان عليك أن تقف لحظة تأمل لتساءل نفسك عما عملته وما جنيته في السنة الفارطة من أفعال وأعمال فتستغفر الله على السيّء منها وتصلحها.." (2 يناير 2004).
"أعوذ بالله من غضب الله، نستغفر الله عمّا اقترفناه في حق زملائنا" (19 دجنبر 2003).


طبعا لا يوجد عند أصحاب "التجديد" شيء اسمه البراءة، ولا حتى شيء اسمه الطفولة، فأن يكون الإنسان طفلا أو شيخا سيان، المهم عندهم هو الشحن حدّ الامتلاء، ولا يهم، فنفس الخطاب الموجه للكبار يصلح تماما تماما للصغار، فالترغيب للكبار هو ذاته للصغار، لا فرق، والترهيب هو هو لا اختلاف في ذلك، هكذا يؤنّب أحمد أصدقاءه: "كفى توقفوا عن القيام بهذا الفعل القبيح.. هل أنتم حقا مسلمون؟" (19 دجنبر 2003).
وبالمقابل نجد أحمد في حكاية أخرى يقول: "هذا خطأ.. أنت مؤمن بالله وتقيم واجباتك الدينية وتريد ان تدخل الجنة.. أليس كذلك" (15 يناير 2004).
إن أخطر ما في هذا الأمر هو أن الطفل الصغير لا يستوعب جيدا معنى الجنة والنار كما يفهمها الكبار، وبالتالي فإن الصلة التي ستربط بين فعل الخير وبين المقابل ستصبح علاقة لازمة، أي أنه لن يقوم بفعل خيِّر إلا إذا كان وراءه ربح ما، سيتعلّم الطفل كيف يكون انتهازيا بدل فعل الخير. أترى هذا ما قصده أحمد بقوله لأحد اصدقائه: ".. لتحقيق طموحاتنا الدينية والدنيوية.." (2 يناير 2004). إني أفهم معنى (طموحات دنيوية) ولكني لا أفهم ما يريده من عبارة: "طموحات دينية"؟ !! 

غير أن الأنكى في حكايات أحمد هو غياب العنصر الأنثوي، فلا مجال لا في القسم ولا في الشارع لأن تجد طفلة في هذه الحكايات، وطبعا لا يستغرب هذا من أصحاب التجديد، فلا مجال لوجود الأصدقاء ــ ولو كانوا أطفالا ــ من ذكور وإناث.  أهناك حقد أكثر من هذا يمكن أن يكّنه أحد للأنثى حتى لو كانت صغيرة، بل وفي مجرد رسوم فقط !!!
أهذا ما بشرّتم به بستان أطفالنا، ورد من زنك وأزهار من نار.
وفي إصرار أصحاب التجديد على الحجاب، نجد في كل أعداد هذا الملحق صورة لطفلة لا تبدو ملامح وجهها جيدا، بقدر ما يبدو غطاء رأسها الأبيض، وتحت هذه الصورة دعاء (دعاء الريح، الدعاء لمن صنع معروفا...) وكأن مهمة الأنثى عموما هي الدعاء والتحجب، بينما دور الذكر هو العلم والعمل و.. و..
ولا يوجد في هذا الملحق أي جو من المرح، فكل شيء معد مسبقا بكيفية تمكن من شحن الطفل، حتى الحكايات لا تنجو من هذا الأمر، فهي حكايات لا تنتمي إلى القصص العالمي أو المغربي الخاص بعالم الطفولة، ولكنها تنبع من كهوف مظلمة عشّش فيها التحجر وباض وفرّخ، وباب الحكايات هذا يسمى "قصة وعبرة"، وستجد أن العبرة تحضر ــ ولو لم تناسب سن الأطفال ــ بينما تغيب القصة. ففي حكاية "ورقة النقود" نجد مثل هذه العبارات: "أدهشني ردها أكثر من ذي قبل، فسألتها بلهفة: وكيف ذلك؟ ! أجابت [ورقة النقود] بهدوء الواثق من نفسه، من اكتسبني من حلال أو أنفقني في حلال كنت سعادة له في الدنيا والآخرة، ومن اكتسبني من حرام وأنفقني في حرام كنت وبالا عليه في الدنيا والآخرة... ظننت أن الغرور أصاب ورقة النقود فقلت لها: إن الناس تجمعك وتنفقك في الدنيا فما دخلك بالآخرة. أجابت بسرعة وكأنها تستغرب سؤالي: وهل الدنيا إلا مزرعة للآخرة" (23 يناير 2004).
وهكذا القصة/العبرة، لا وجود فيها لعناصر القصة أو الحكاية. بل شحن في شحن، وقل نفس الشيء عن قصة "الخياط وحيلة السلطان" وقصة "المكافأة". 

وكما قلت آنفا فأصحاب التجديد لا يعرفون شيئا اسمه البراءة، ولا الطفولة، فسنجد في كلمة البستان عند اقتراب بداية السنة ما يلي: "إن بداية السنة الميلادية الجديدة تحمل معها دلالات يجب أن لا تمر علينا دون وعي، فالاحتفالات، و"بابا نويل" وشراء الحلويات ليلة نهاية السنة، وشجرة العيد المزينة بالمصابيح وغيرها، كلها دخيلة، وليست من ديننا الحنيف (...) فلنحافظ على صلاتنا وزكاتنا، وبرّ والدينا، أما مظاهر الاحتفال التي هي عادة دخيلة غريبة، وتحريف لما جاء به نبي الله عيسى. فنحن مأمورون بتصحيحها لا باتباعها وتقليدها ولو كانت خاطئة. وكل عام وأنتم على ثبات على الحق. وعزيمة على الرشد" (26 دجنبر 2003).
عند هذه النقطة تكون عزيزي القارئ قد تأكدت أن بستان الطفولة لا علاقة له بعالم الطفولة، وأنه بستان مليء بالألغام ما إن يدخله طفل من أطفالنا حتى تنفجر عليه، وكأن أصحاب التجديد لم يكونوا أطفالا ولم يلعبوا صغارا، لهذا لن تعثر في بستانهم الملغّم على ألعاب رياضة (وهي غائبة حتى في الجريدة الأم !!) أو استطلاع لمكان يستهوي الأطفال (كحدائق الألعاب) أو حوار مع شخصية محبوبة عند الأطفال (فنان، رياضي، كاتب قصص الأطفال..)، أو حكايات عالمية للأطفال. وطبعا دون أن تنتظر صفحة للعلوم فهذا ما لا تتوقعه حتى في امتحانات اللغة العربية في مدارسنا، فامتحانات هذه المادة دائما تتحدث عما تم تجاوزه، بعكس مادة الفرنسية ــ مثلا ــ التي تجد امتحانها يتطرق لموضوع البيئة أو العلوم أو بصفة عامة لما يتوجه بالتلميذ نحو المستقبل، فكيف تتوقع فقرة علمية في بستان "التجديد".
ويبقى المشكل الأكبر هو غياب "إعلام مغربي" خاص بالطفل يمكن أن تواجه به مثل هذه "الملحقات"، ففي غياب مجلات شهرية، وملحقات صحفية خاصة بالطفل ضمن الجرائد المغربية، تبقى الساحة مفتوحة أمام أصحاب التجديد لزرع ألغامهم في مستقبل أطفالنا وسرقة أحلامهم.
وكم هو محزن أن يُقيد أطفالنا بمثل هذا الخطاب الذي يحد من قدراتهم وطاقاتهم الإبداعية، والفرق واضح بين طفل هو كالشيخ في هيئة صبي صغير، وبين طفل يعيش طفولته كما يجب بدون قيود حيث يُمنح فرصا لإبراز مواهبه وإمكاناته. أتذكّر شيئا مما نظمه في شبابه الشاعر الهندي رابندرات طاغور حيث يقول:
إن الطائر المأسور في قفصه
والطائر الحر في غابته
التقيا في الوقت الذي حدده القدر
فقال الطائر الحر: تعال يا حبيبي،
ولننظر جميعا إلى الأدغال،
فأجابه الطائر المأسور متوسلا:
ابق معي، ولنعش جميعا في هذا القفص،
فقال طائر الغابات: ليس بين قضبان
القفص محل لنشر أجنحتي،
فأجاب سجين القفص: وا أسفاه ليس في السماء
محل أستطيع أن أقف عليه.

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الأربعاء 4 فبراير 2004.       
   

حزب العدالة والتنمية وحركة 20 فبراير نقاش هادئ لادعاءات عبد العلي حامي الدين، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



حزب العدالة والتنمية وحركة 20 فبراير
نقاش هادئ لادعاءات عبد العلي حامي الدين 1/2
عبد الواحد بنعضرا
خرج عبد العلي حامي الدين مؤخرا في بعض المنابر الإعلامية ليؤكد أن حزبه حزب العدالة والتنمية كان ضمن فعاليات حركة 20 فبراير. وهذا المقال هو تفاعل مع خرجة الرجل هذه.
من الأبجديات التي يعلمها كل سياسي أن المواقف الرسمية للأحزاب أو لأية هيئة سياسية تُستخرج من بياناتها السياسية، وبعد ذلك يمكن الرجوع لمواقف قيادييها. وبالرجوع لبيانات حزب العدالة والتنمية، فإننا لا نجد أي بيان حول المشاركة مع حركة 20 فبراير. قلتم في مجلة زمان: "بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، كان هناك اختلاف واضح داخل قيادتها، وعلينا أن نميز بين موقف الأمين العام وموقف المجموعة التي أصدرت بيانا يوم 17 فبراير ونزلت إلى الشارع يوم 20 فبراير، وضمنها 4 أعضاء من الأمانة العامة و10 كتاب جهويين وعدد من المسؤولين الإقليميين" (عبد العلي حامي الدين، حوار مع مجلة زمان، العدد5، فبراير ــ مارس 2014، ص. 36).
أقول لكم بأن خروج بضعة أفراد لا يُعدّ مقياسا للقول بأن الحزب كان مساندا لحركة 20 فبراير. ثم إن عدم مشاركتكم في اتخاذ قرارات الحركة لا من خلال جموعها العامة ولا من خلال اللجن، والاقتصار على المشاركة في المسيرات كأنها خروج للقيام بنزهة، يفرغ خروج بعض أعضاء حزبكم، من أي معنى، لأنه لا يمكن اختزال الحركة في مجرد مسيرات أو وقفات.
بالمقابل، فإن الجناح الدعوي للحزب، أي حركة التوحيد والإصلاح كان واضحا في بيانه الرافض للخروج مع الحركة، وحول هذا البيان يقول امحمد الهيلالي نائب رئيس الحركة: "بخصوص البيان أحب أن أوضح أنه اتخذ بعد مناقشة مضامينه بدأت يوم 19 فبراير الذي يزامن انعقاد المكتب التنفيذي والذي جدّد قرار رفض المشاركة بالإجماع وقرّر إبقاء المكتب في حالة انعقاد على أن يؤجل إصدار البيان المذكور إلى غاية تقييم ما سوف يقع يوم 20 فبراير وقد صدر بالفعل يوم الأحد مساء" (امحمد الهيلالي، حوار مع جريدة التجديد، عدد الجمعة/الأحد 4 – 6 مارس 2011).
إذن فالبيان الرسمي الذي بين أيدينا يعكس رفض مساندة حركة 20 فبراير رسميا من طرف حزب العدالة والتنمية. يبقى السؤال: ما الغاية من خروج بعض أعضاء الحزب ضمن مسيرات الحركة؟ يستشف من كلام الهيلالي السابق، أن الحزب تردّد في إعلان موقفه. من الممكن قراءة هذا الأمر بشكل إيجابي واعتبار هذا التردد يدخل ضمن واقعية الأشياء، ويمكن بالعكس توصيفه بكونه انتهازية في التعامل مع هذه الحركة، إما في انتظار الضوء الأخضر من جهات معينة، أو القصد منه هو البحث عن شرعية تاريخية، وهو شيء لن تستطيعوا إليه سبيلا لأن حركة 20 فبراير مبادرة يسارية، بتنسيق بين مجموعة من التيارات والأحزاب اليسارية.
أما كلامكم عن أنكم الحليف الطبيعي للحركة، فهو محل نظر: إذ قلتم: "أن العدالة والتنمية رغم الخلافات داخله، فإنه كان حليفا موضوعيا لحركة 20 فبراير، في حين أن تحالف الأحزاب الثمانية، قبيل الانتخابات التي جرت في 25 نونبر 2011، لم يكن فقط، ضد "البيجيدي"، وإنما أيضا ضد حركة 20 فبراير" (عبد العلي حامي الدين، أخبار اليوم، عدد الأربعاء 26 فبراير 2014).
أذكّركم أنكم تحالفتم مع أحد مكونات تحالف الأحزاب الثمانية لتشكيل حكومة بنكيران2، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن الحركة لم تقل فقط بمحاربة الفساد والاستبداد، بل كانت ترفع في بدايتها، أيضا، شعار الملكية البرلمانية، أي، أن السيادة ينبغي أن تكون للشعب، وأن الشعب مصدر كل السلط، يمارسها عن طريق ممثليه الذين ينتخبهم عبر انتخاب حر ونزيه، ما يعني أن كل السلطة التشريعية للبرلمان، وكل السلطة التنفيذية "للحكومة"، والقضاء سلطة مستقلة يرأسها قاضي منتخب.

حزب العدالة والتنمية وحركة 20 فبراير
نقاش هادئ لادعاءات عبد العلي حامي الدين 2/2
عبد الواحد بنعضرا
ما أريد أن أصل إليه، عوض هذه الادعاءات بخصوص العلاقة بين الحزب والحركة. هناك عمل أهم، ينتظر الحزب، إن كان فعلا جادا في ترسيخ الديمقراطية في المغرب، وهو العمل على سمو الشرعية الشعبية على أية شرعية أخرى كيفما كانت، وهذا مدخل أساسي بالنسبة لي إن كنتم ترغبون في الإصلاح. وحبذا لو أنكم دافعتم عن تعويض مجلس الحكومة ومجلس الوزراء بمجلس واحد هو "مجلس الدولة" الذي اقترحه حزبكم في مذكرتكم حول الدستور، إذاً لكان بالإمكان إيجاد صيغة يصبح فيها هذا المجلس ينعقد تحت رئاسة الملك مرتين في الشهر ورئاسة رئيس الحكومة مرتين في الشهر، في أفق أن تصبح، تدريجيا، كل السلطة التنفيذية من صلاحيات الحكومة المنبثقة عن البرلمان المنتخب.
في أحد لقاءات أوراش المواطنة الذي انعقد في مدرسة الحكامة والاقتصاد بالرباط يوم السبت 19 أكتوبر 2013، حيث كان هناك لقاء جمع شباب بعض الأحزاب السياسية وبعض طلاب المدارس العليا، كان من بين الحاضرين عزيز بنبراهيم، رئيس مقاطعة باب المريسة، وهو من حزب العدالة والتنمية وهو أيضا برلماني عن دائرة سلا... تدخلتُ للتعقيب على مداخلته، حيث قلتُ له أنني شخصيا أعطيت لحزبكم فترة سماح طويلة، رغم اختلافي معكم، فلم أدبج أي مقال ينتقدكم منذ تشكيل حكومة بنكيران1، إلاّ في الآونة الأخيرة، والسبب بسيط، هو أن الحزب يتمتع بشرعية صناديق الاقتراع، ومن تم فإنجاح هذه التجربة هو إنجاح لنا جميعا، غير أن الكيل قد طفح من سوء تدبيركم للشأن العام، وبأن أكثر الأشياء التي تعاب على الحزب عدم إسهامه في سمو الشرعية الشعبية.. وذكرتُ له محطات عديدة بدءا مما قاله بنكيران في يونيو 2011 بكونه يرفض الملكية البرلمانية وأنه مع الإمامة!! وصولا إلى حكومة بنكيران 2 والتي عقدت المجلس الوزاري قبل التنصيب، وهو ما يعني إهمال قضية الشرعية الشعبية حيث كان من المفروض تنصيب الحكومة، من طرف البرلمان، بعد تعيينها... بالمقابل ذكرتُ أنه لا يحق لأي حزب قال بأن الدستور حقق كل مطالبه أن يحدثنا عن التماسيح أو العفاريت، لا حزب العدالة والتنمية، ولا حتى حزب الاتحاد الاشتراكي، إن أمسك بالسلطة مستقبلا بحكم أنه قال أن الدستور حقق 95 في المئة من مطالبه الدستورية... وبالتالي على بنكيران تحمل مسؤوليته..
وهذا ما أعيد التأكيد عليه في هذا المقال، إن كنتم جادين في الإصلاح، فهذا هو المدخل: العمل على سمو الشرعية الشعبية، عوض إعطاء الدستور تأويلا محافظا من خلال مجموعة من الإجراءات أو من خلال القوانين التنظيمية. وإذا لم يكن ذلك ممكنا فإن عليكم الاعتذار للشعب المغربي على ادعاءكم بخصوص الصلاحيات التي يمنحها الدستور الحالي للحكومة.
لقد تعودنا من حزب العدالة والتنمية التباس المواقف وتضارب الآراء، ولذا فإننا لا نفهم القول بأن حزب العدالة والتنمية حليف طبيعي لحركة 20 فبراير إلا من خلال إجراءات واضحة، وإلا فإننا سنجد أنفسنا على الدوام في مواقف مشابهة لما عبّر عنه الأمين العام السابق للحزب بخصوص الفصل 19، في أحد حواراته: وهذا هو سؤال المستجوب: أريد أن أعرف بالضبط الموقف من تعديل الفصل 19 وتقليص السلطات الملكية لصالح السلطة التنفيذية والتشريعية؟ وهذا جواب سعد الدين العثماني: "يمكن أن نعيد التوازن بين السلط، دون الحاجة إلى تعديل الفصل 19، فيمكن أن تقوى سلطات الوزير الأول، سلطات الحكومة والبرلمان، وتساعد على تقوية سلطات القضاء" (سعد الدين العثماني، حوار مع جريدة الأيام، العدد 274، 24 مارس - 6 أبريل، 2007) . وبه تم الإعلام والسلام.

* نشر المقال على جزأين بجريدة الأحداث المغربية، نشر الجزء الأول في عدد السبت/ الأحد 15 – 16 مارس 2014.

ونشر الجزء الثاني يوم الاثنين 17 مارس 2014

الأحد، 10 أغسطس 2014

الدرس الفلسفي : هل تؤدي الفلسفة دورها الحقيقي ؟، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



 

الدرس الفلسفي : هل تؤدي الفلسفة دورها الحقيقي ؟

عبد الواحد بنعضرا



يحكي سورين كيركغارد قصة رجل كان يتفرج على واجهات المحال التجارية بينما هو يسير في الشارع، يصل الرجل مرة إلى واجهة فيها لافتة كتب عليها "هنا تصنع الفلسفة"، بطريقة ما يعرف الرجل أن هذا ما يريده، يدخل إلى المحل وشعور من الأمل يملأ جوانحه، وعندئذ فقط يجد أن ذلك المكان هو محل لرسم لافتات المحال، وأن اللافتة وحدها هي المخصصة للبيع. أوردت هذه الحكاية التي يرويها هذا الفيلسوف، قبل أن يجري القلم بهذه الكلمة، لأنها تلخص حالة الفلسفة اليوم، وخاصة في مؤسساتنا التعليمية، المادة: "مادة الفلسفة" هذا نعم، ولكن المضمون لا علاقة له بالعنوان، فكما هو ملاحظ، فقد تحولت حصص هذه المادة إلى مواضيع في الدين والعقيدة، وبالتالي صارت ملحقة بمادة التربية الإسلامية وتابعة لها، وأول ما يصادفه أستاذ مادة الفلسفة في بداية السنة الدراسية السؤال التالي: هل الفلسفة تؤدي إلى الإلحاد؟ ولن نعدم من يجيب تلاميذه بالنفي، وكأنه أصاب السؤال في مقتل ووأد الفخ في المهد، ومنهم من يذكر أسماء فلاسفة مسلمين كابن رشد وغيره... وهم بهذا يجعلون من الفلسفة مادة عقائدية، وطبعا هذا ليس من ضعف حجة الأساتذة في الجواب ولا من فـيالــة رأيهم، ولكنه في غالب الأحيان الرغبة في دفع المركب إلى شط الأمان وبأبخس الأثمان، ولكن الفخ قد نصب، والسهم قد انطلق من قوسه ولن يرجع، وستستمر الحصص كلها على هذه الشاكلة: نقاشات دينية ومواضيع دوغمائية، وبهذا تتحول الفلسفة إلى أجوبة جاهزة وتقريرية ويقينية وإلى مطلقات... وهذه هي ألد أعداء هذه المادة، فالأصل في الفلــسفة أنها تساؤلات مـتلاحقة وما يكاد الفيـلسوف يظن أنه وجد جوابا حتى يـلقاه سؤالا آخر، وفي هذا الإطار يقول الفـيلـسوف كارل ياسـبرز : "إن كـلمة فيلـسوف اليونانيـة (philosophos) مركـبة بالتـقابـل مع sophos، فالكـلـمة ( فيلسوف) تعني ذلك الذي يبحث عن المعرفة، في مقابل ذلك الذي يمتلك المعرفة ويدعى عالما، هذا المعنى مازال مستمرا إلى اليوم. إن جوهر الفلسفة هو البحث عن المعرفة وليس امتلاكها (...) إن الأسئلة في الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة ، كل إجابة تصير سؤالا جديدا"
 )Karl Jaspers, introduction à la philosophie, pp. 10 - 11).
 هذه هي الفلسفة، بحث مستمر وأسئلة تتلاحق، ولا وجود فيها للمطلق أو الجاهز، والتفكير الفلسفي هو تفكير تساؤلي إشكالي ونقدي، فالفلسفة تدفع صاحبها إلى التساؤل ونقد الأفكار أو ما يعبر عنه بروح النقد، وهنا تطرح إشكالية حقيقية ألا وهي تدريس مادة الفلسفة والتربية الإسلامية في مستوى واحد؛ إذ كيف لتلميذ أن يجمع بين المطلق و النسبي، بين مادة تجعل كل شيء مطلقا ومادة تجعل كل شيء نسبيا، أما عندما يقرأ التلميذ درسا في مادة التربية الإسلامية موضوعه الإعجاز العلمي في القرآن فهذا معناه إعلان خطل وبطلان المواد العلمية من فيزياء وكيمياء وعلوم طبيعية ورياضيات... إضافة إلى مادة الفلسفة، والمطلوب تقديم عقل التلميذ لاستقالته.. وهناك مبدأ في الميكانيكا الكلاسيكية يقول إن الجسم الذي يخضع لقوتين لهما نفس الشدة ومنحيان متعاكسان يبقى ساكنا و جامدا في مكانه، ولربما هذا يفسر لنا لماذا العقل لدينا جامد وثابت أو بالأحرى مستقيل، وعلى ذكر المواد العلمية أتساءل لماذا لا يطرح نفس المشكل؟ لماذا لا يتجرأ التلاميذ على مناقشات دينية أثناء حصصها؟ فتتحول هذه المواد أيضا إلى ملحقات لمادة التربية الإسلامية؟ مع أن هذه المواد لو فتحت فيها مثل هذه النقاشات لما عرفت لها النهاية، وعلى سبيل المثال لا الحصر: تصور الكون في الفيزياء ومفهوم الزمكان النسبي عند آينشتين المخالف لتصور الكون كما في النصوص، ونظرية داروين في العلوم الطبيعية وغيرها... وإذا علمنا أن بعض التلاميذ في المرحلة الابتدائية يرفضون الغناء لأن آباءهم قد أدخلوا في روعهم أن الغناء والموسيقى حرام، ووضعنا أمام أعيننا كل أحكام القيمة السلبية التي يلصقها الإسلامويون بالفلسفة واختزالها في البحث في قضية الوجود ــــ مع أن الجانب الأكثر أهمية في الفلسفة هو البحث عن وسائل المعرفة أو الطرق والمناهج التي يتم بها التوصل إلى المعرفة وهذا ما ميز الفلسفة الأوروبية خاصة مع كانت و ديكارت، إضافة إلى الجانب المتعلق بالحرية والعدالة أو بصفة عامة كل ما له علاقة بحقوق الإنسان ـــ وذلك ناتج عن مواقفهم المعارضة للعقلانية وحقوق الإنسان، أدركنا مدى ما سيتعرض له التلميذ من شحن وضغوطات وتهييج تجاه مادة الفلسفة، عدا ما سيقوم به كثير من أساتذة مادة التربية الإسلامية وبعض أساتذة المواد الأخرى ـــ حتى العلمية منها ـــ من المحسوبين على الإسلامويين من تحريض للتلميذ ودفعه إلى تمييع مادة الفلسفة وخلق البلبلة فيها بتحويلها إلى حلقة دينية. وبعد، فبالنظر إلى ما تعرفه الفلسفة من تمييع لمواضيعها وانحراف عن مقصودها، وما جرى في الموسم المنصرم من مهازل في تدريسها في مستوى الجذع المشترك، أتساءل هل هناك نية حقيقية كي تؤدي الفلسفة دورها وتساهم في جعل التلميذ ينزع إلى النقد والتساؤل، أم أنها مجرد لافتة فقط؟ أليس أولى الشروط اللازم توفرها، كيما تحقق هذه المادة أهدافها، بعض من الجدية في التعامل مع دروسها سواء من طرف التلاميذ أوالأساتذة أو الوزارة الوصية ؟

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الأحد 21 غشت 2005

التسامح هل يمكن دون معرفة الآخر؟، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



التسامح هل يمكن دون معرفة الآخر ؟

عبد الواحد بنعضرا

ونحن نتناول كثيرا موضوع التسامح بين الأديان والشعوب وتقام اللقاءات الفكرية هنا وهناك بين النخب، ولم يستطع أن ينتشر التسامح إلا بالقدر الذي تنتشر به أغاني الإعلانات التلفزية والتي تصير مع الوقت لازمة لا طعم لها ولا مذاق.. والحال أن المعني بهذا وهي الشعوب تكاد تجهل الكثير بعضها عن البعض، أما النخب فهي ليست بحاجة للقاءات بقدر ما أن عليها مسؤولية كبيرة تتجلى في العمل على وصل ما انقطع بين الثقافات والحضارات وتقريب ما بعد، ومن الطبيعي أن يتم ذلك عبر محاور عدة: التعليم، الإعلام، الكتاب، المحاضرات والندوات واللقاءات مع المواطنين.. ويجمع هذه المحاور موضوع أساسي يتعلق بدراسة مقارنة للأديان ــ خاصة ــ ويشكل كتاب فراس السواح : «مغامرة العقل الأولى» مادة للاشتغال- إلى جانب مؤلفات أخرى -، وهذا ما سيجعل العُصاب الديني تخفت حدته إذ سيكتشف الإنسان المهووس دينيا أن خصائص الأديان متشابهة وأن عناوينها الرئيسية مشتركة، تماما مثلما سيكتشف من جهة أخرى أن كل دين - بعد توظيفه سياسيا- على مر التاريخ عرف قراءة رسمية أرثوذوكسية وقراءات أخرى نعتتها الأنظمة الحاكمة بالبدعوية والهرطقية.. إننا عندما نفترض إمكانية التسامح بين إنسان وآخر يجهلان عن بعضهما الكثير، فإننا لا نعدو نكرر صفحة من صفحات تاريخ قد مضى: أي التسامح كمِنّة على الآخر أو هبة تجود بها عليه من موقع القوة والتعالي، وبإمكانك تحويلها إلى نكاية به أو تنكيل حسب الظروف.. ومفهوم «أهل الذمة» يشكل عنوانا من بين عدة على ما قلت. إن التسامح الذي ننشد هو تسامح الند للند، باعتراف الإنسان بالقيمة النسبية لثقافته وحضارته،  وتلعب نظرية التناص (intertextualité) دورا مهما بهذا الخصوص بتأكيدها على أن كل نص هو أضمومة أو تركيب لمجموعة من النصوص السابقة، وعلى أنه لا يوجد نص ينطلق من فراغ، مما يحدّ من غلواء ادعاء البعض أنهم يملكون كل الحقائق المطلقة، ويمكنهم من الانفتاح على الآخر وعلى ثقافته بالاعتراف بنسبية تلك الحقائق.. ومن المفكرين الذين سبق لهم أن نبهوا على هذه المسألة، أي ضرورة معرفة الآخر من أجل احترامه والتعايش معه بسلام، الفيلسوف الوجودي Karl Jaspers إذ يقول: «وربما فزعنا في كل لحظة من تنوع القناعات المتصارعة، فإذا وجدنا أنفسنا إزاء قناعة غريبة معادية وجب علينا حتما أن نحل المسألة الأساسية: هل نقبل أن نكون جميعا بشرا، نعم أم لا؟ فإن كان نعم، فلا يحق لنا أن نعتبر الذين يؤمنون بغير ما نؤمن به أنهم أعداؤنا وأن نهملهم وندعهم لمصيرهم البائس. ولا يحق لنا أيضا اعتبارهم غير موجودين، أو أن نتمنى إبادتهم. ولكننا، في تلك الحالة، نطلب من أنفسنا ما قد يبدو لنا غير معقول: فأنا أوقف، بالفكر، الحقيقة التي هي (حقيقية - عندي)، حتى أسعى إلى الإسهام في إمكانات الفكر والشعور، لدى الآخر وأن أغدو الإنسان الذي تكون فيه هذه الإمكانات واقعا، وبهذه المناسبة نقوم بتجربة تربطنا: إننا نكتشف أننا نحتاج إلى الفكر بالنسبة إلى الآخر، وإلى التفكير مع الآخر، حتى نصبح أكثر وثوقا بأنفسنا» (نهج الفلسفة، ص: 86). إن الإنسان الذي يرفض الاطلاع على فكر ودين الآخر، لأنه يخشى أن يزعزعه ذلك عن عقيدته، لإنسان فعلا يفتقد الثقة بنفسه، إنه في مهب الريح، وإيمانه إيمان العجائز، يمكن أن يتبخر بقراءة كلمة، ويمّحي بجرة قلم... وماذا لو كان هذا الإنسان جاهلا حتى بنفسه، ماذا لو كان عدوا لجسده، غير متصالح مع ذاته، هل يمكن أن يكون متسامحا مع غيره، أليس فاقد الشيء لا يعطيه؛ إنه في الوقت الذي اكتشفت فيه البشرية قارة سادسة وهي قارة الجسد، مازال الإنسان المسلم يجهل الكثير من هذه القارة ويحتقرها وينسب إليها كل مشين وعائب ومهين، هذا الإنسان الذي يعذب وينكل جسده ويحرمه من أبسط ضرورياته، ويرفض الغناء والموسيقي، بل ويرفض حتى مصافحة يد الجنس الآخر، ويعيش في حرب دائمة مع ذاته، ويفتقد السلام والتسامح معها، هل يمكن أن يكون متسامحا مع الآخر؟ أليست هذه إشكالية أخرى تسبق أو توازي في إيجاد الحل لها إشكالية التسامح مع الآخر؟ وأخيرا، أليس الإطلاع على فكر مختلف كنز كبير، وحياة أخرى يعيشها الإنسان وعمر طويل يضاف إلى عمره، وكما يقول ميخائيل نعيمة: كلما وضعت يدي في يد ما لمستها من قبل قلت: تبارك الله! فتح جديد وكنز لا نفاذ له...


* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الخميس 16 يونيو 2005

السبت، 9 أغسطس 2014

ما بعد الحداثة، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



أين يمكن أن تتجلى مظاهر ما بعد الحداثة في الدين، تتجلى في نقد التوظيف السياسي للدين (الإسلام دين ودولة مصحف وسيف) وإلى إزالة كل ما يمس بروحانية التدين، أي هدم الدين السياسي من أجل بناء الدين الفردي عبر أنسنة التدين، حيث يصبح الدين مسالة شخصية، واختلاف الأفكار والأديان ضرورة، غير موجب للعداء والقتل.

ما بعد الحداثة
عبد الواحد بنعضرا
إن أصعب شيء وأخطره، ألا يستفيد الإنسان من الحوادث التي تمر حوله، وألا يستوعب الدرس، أقول هذا الكلام بمناسبة المقالات والردود التي كتبت بعد 16 ماي منددة بالأعمال الإرهابية حيث أن بعض هذه المقالات ــ وهي بقلم أناس حداثيين ــ تستنكر ما وقع ولسان حالها يقول، نحن مسلمون فلماذا فعلتم بنا هذا، وبعضها لم يبق له إلا أن يردّد الشهادتين حالفا بأنه مسلم، والحال أنهم بهذا يبررون قتل الأبرياء من غير المسلمين من حيث لا يشعرون، وأنهم عوض أن يجعلوا من الظرفية الحالية نقطة لانطلاقة عهد جديد (نطلق عليه ما بعد الحداثة) إذا هم يتراجعون، هذا طريق نسميه عن حسن نية، سياسة إمساك العصا من الوسط، ونسميه عن يقين سياسة التقية.
وإذا كنا نتحدث عن مغرب الحداثة، فالذي نؤكده أنه لا يمكن أن تتحقق الحداثة إلا إذا أسسنا لما بعد الحداثة، فهي علاقة جدلية بين كلا المفهومين، يقول جان فرانسوا ليوتار: "لا يمكن لعمل أن يصبح حداثيا إلا إذا كان ما بعد حداثيا أولا، وما بعد الحداثة بناء على هذا الفهم ليست الحداثة في نهايتها بل في حالة الميلاد، وهذه الحالة دائمة"(1). فما بعد الحداثة هو نقد متجدد مستمر للحداثة، فالحداثة الحقيقية هي دائما ما بعد حداثية.
أين يمكن أن تتجلى مظاهر ما بعد الحداثة في الدين، تتجلى في نقد التوظيف السياسي للدين (الإسلام دين ودولة مصحف وسيف) وإلى إزالة كل ما يمس بروحانية التدين، أي هدم الدين السياسي من أجل بناء الدين الفردي عبر أنسنة التدين، حيث يصبح الدين مسالة شخصية، واختلاف الأفكار والأديان ضرورة، غير موجب للعداء والقتل.
وإن كان هناك مغاربة ليسوا مسلمين أو لادينيين، فإن إنسانيتهم تفرض علينا وعلى الجميع احترام أفكارهم وعقائدهم.
من اللحظات الجميلة التي عشتها مع الفيلسوف الوجودي كارل ياسبرز Karl Jaspers في "نهج الفلسفة" هذه اللحظات: "ربما فزعنا في كل لحظة من تنوع القناعات المتصارعة، فإذا وجدنا أنفسنا إزاء قناعات غريبة معادية وجب علينا أن نحل المسألة الأساسية: هل نقبل أن نكون جميعا بشرا، نعم أم لا؟ فإن كان نعم، فلا يحق لنا أن نعتبر الذين يؤمنون بغير ما نؤمن به أعداءنا وأن نهملهم وندعهم لمصيرهم البائس. ولا يحق لنا أيضا اعتبارهم غير موجودين، وأن نتمنى إبادتهم. ولكننا في تلك الحالة، نطلب من أنفسنا ما قد يبدو لنا غير معقول، فأنا أوقف بالفكر الحقيقة (التي هي حقيقة عندي) حتى أسعى إلى الإسهام في إمكانات الفكر والشعور لدى الآخر وأن أغدو الإنسان الذي تكون فيه الإمكانات واقعا. وبهذه المناسبة نقوم بتجربة تربطنا، إننا نكتشف أننا نحتاج إلى التفكير مع الآخر، حتى نصبح أكثر وثوقا بأنفسنا"(2).
عندما يطرح كارل ياسبرز هذا السؤال: هل نقبل أن نكون جميعا بشرا؟ ويكون الجواب نعم، ما المقصود بالإنسان: اللحم والعظم؟ أبدا، عندما نموت: الأجساد تبلى والعظام تصبح رميما فما الذي يبقى مني ومنك؟ أفكارنا إن كانت لنا أفكار. ما الذي بقي من أرسطو، سوفوكليس، موسى، المسيح، محمد بن عبد الله، ابن رشد، كارل ماركس... بقيت أفكارهم، خلودهم كان أفكارهم. 
إنسانية الإنسان إذن تتجلى في فكره، والكلام عن الإيمان بإنسانية الإنسان إذن تتجلى في الإيمان بحقه في الاختلاف في الأفكار وبالتالي في العقائد والأديان، بل إن الدستور المغربي كان رائدا حين نص في الفصل السادس منه: "الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية". فالدولة إذن تضمن لكل فرد مهما كانت عقيدته وديانته حرية ممارستها.. لذا نقول بأنه قد تم خرق القانون (الفصل 6) بشكل سافر عندما تم القبض على بعض الأفراد بدعوى أنهم من عبدة الشيطان، مقابل خرق للقانون في اتجاه آخر بالسماح بتكوين حزب ديني رغم أن ظهير الحريات العامة المؤرخ في 15 – 11 – 1958 الذي ينظم حق التجمع وحق تكوين الجمعيات ينص على أنه لا يجوز في المغرب تأسيس أي حزب على أساس ديني أو عرقي أو جهوي.
إن فكر الإنسان هو الذي يخلق له الوجود وهو الذي يمكنه فعلا أن يصبح إنسانا، يقول كارل ياسبرز Karl Jaspers : "أن تتأمل معناه أن تصبح لك القدرة على التفكير، أن تفكر معناه أن تبدأ في التحول إلى إنسان"(3). وكما يقول ديكارت: "أنا افكر إذن أنا موجود".
وما دمنا نتحدث عن التسامح بين الأفكار والأديان، فإننا يجب أن نجسد هذا التسامح، سواء في مقررات التعليم، أو في مدونة الأحوال الشخصية، ولذا ندعو إلى أنسنة المدونة، وخاصة الفصل 29 حيث تنص الفقرة 5 منه: "بتحريم زواج المسلمة من غير المسلم". والأكيد أن هذه الفقرة من الفقرات التي تعزز الانغلاق والعداء بين الأديان، بل تعني إقصاء الغير لمجرد الاختلاف، ولذا ندعو بأن يكون ضمن التعديلات المقبلة تعديل هذه الفقرة، بإجازة زواج المسلمة من غير المسلم، وأيضا زواج المسلم باللادينية. (4).
ويجرنا هذا الحديث للفصل 228 والذي ينص على أنه: "لا توارث بين مسلم وغير مسلم...". فإنه لمن مظاهر العنصرية والاستخفاف بالعدالة، ألا يتوارث ابن مع أمه، لأنه مسلم مثلا ولأنها يهودية أو مسيحية.
فمن أجل أنسنة المدونة ومن أجل تجسيد التسامح بين الأديان نطالب بتعديل هذين الفصلين (29 و228) إلى جانب باقي الفصول التي يجب تعديلها.
إن الكثيرين يرددون بأن الدين الإسلامي قد قضى على العصبية والقبلية، ولكنهم لا يذكرون بأن المسلمين قد تحولوا إلى قبيلة دينية كبيرة.
في رواية أمين معلوف Les Jardins de lumière حينما يُسأل ماني "Mani" إلى أي ديانة ينتسب، يردد هذا الرد الرائع: "إنني أنتسب إلى كل الديانات، ولا أنتسب لأية واحدة، إنهم يعلّمون الناس أن عليهم الانتماء إلى عقيدة كما ينتمون لعرق أو قبيلة.. وأنا أقول لهم: لقد كذبوا عليكم.. تعلّموا كيف تجدوا في كل عقيدة، أو فكرة، المادة المنيرة، وأن تزيلوا القشور"(5).
الهوامش:
1ـ جان فرانسوا ليوتار، الوضع ما بعد الحداثي، ترجمة، أحمد حسان، دار الشرقيات، ط.الأولى، 1994، ص. 108.
2ــ كارل ياسبرز، نهج الفلسفة، ترجمة، عادل العوا، دار الفكر، دمشق، 1975، ص. 86.
3- Karl Jaspers, Introduction à la philosophie, U.G.E. col. 10 / 18, Paris, p. 136.
4ــ أقول: تحدث عبد العزيز قباني وهو يذكر بعض اسباب الزواج المدني: زواج زينب ابنة النبي من أبي العاص بن الربيع، وكان مشركا أي ليس كتابيا، وكانت مسلمة، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة وقال للمسلمين إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا، ففعلوا، فأطلقه رسول الله على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك،وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله مع زيد بن حارثة، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان فردها إليه بالنكاح الأول ــ أي لم يجر نكاحا جديدا وفق الإسلام ــ ولم يحدث لها صداقا، لما روى أحمد عن ابن عباس أن رسول الله ردّ ابنته زينب على أبي العاص، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح، ولم يحدث شهادة ولا صداقا.
عبد العزيز قباني، مبررات الزواج المدني الاختياري، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط. 1، 2000، ص. 114 – 115.
5- Amin Maalouf, Les Jardins de lumière, L.P., p. 184.

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الأربعاء 25 يونيو 2003.