الأربعاء، 3 سبتمبر 2014

فقه الأزمة، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



فقه الأزمة
عبد الواحد بنعضرا
نتحدث غالبا عن أزمة الفقه والفقهاء مما يوحي بل ويؤكد أن مشكلتنا تتجلى في غياب الاجتهاد، وكأننا ننسى أن الفقه يعتمد على النص، والنص ثابت لا يتغير وبما هو كذلك فهو محدود. وأمام المشاكل التي طرحت إبان الغزوات العربية - الإسلامية الأولى للبلاد التي تختلف طبيعتها عن طبيعة الجزيرة العربية، كان أمام المشرّعين طريقان، أولهما التأويل وثانيهما وضع الأحاديث، يقول أحمد أمين: "حتى الأحاديث الموضوعة نفسها كان لها فضل في التشريع، فإنها لم توضع اعتباطا ولا كانت مجرد قول يقال، إنما كانت في الغالب نتيجة تفكير فقهي وبحث واجتهاد، ثم وضع هذا الرأي وهذا الاجتهاد في قالب حديث"([1]). أما اليوم وقد جمعت الأحاديث وأصبحت معروفة فما عاد بإمكان أحد أن يضع حديثا جديدا، وأما التأويل فقد تباعد الزمان واتسع الخرق على الراتق، واستنفد التأويل نفسه.
إن المشكل اليوم ليس أزمة فقه أو فقهاء ولكنه أساسا فقه يُطلب منه أن يشرّع للأزمة حيث تجتمع المتناقضات: التخلف والتقدم، الثابت والمتغير، قيم رجعية وقيم حداثية، أنظمة حكم علمانية بالفعل دينية بالقوة ــ ولا أظن العكس صحيحا ــ فالأنظمة العربية – الإسلامية تمارس سياستها وشؤونها بطرق علمانية ولكنها بالمقابل تعمل على نشر الأصولية الدينية بين شعوبها، وإن المطلوب من هذا الفقه أن يشرّع حسب ما تمليه الظروف من مواقف إيديولوجية أو سياسية، فعندما يريد السياسي الدخول في الحرب يقرأ عليه فقهاء الأزمة الآية: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم) (الأنفال 60). وإن أراد السياسي الدخول في معاهدة السلام، قرأوا عليه الآية التي تليها مباشرة: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) (الأنفال 61). إنه فقه تبريري، إننا نتحدث إذن عن فقه الأزمة.
وهنا نضع سؤالا: ما مدى المسؤولية التي يتحملها الفقهاء الذي عاشوا تلك العصور التي ننعتها بالجمود وغياب الاجتهاد، بل ألا يمكن ألا تكون لهم أية مسؤولية باعتبار أن الحضارة الأوروبية لم تقف على الباب بعد؟ وبمعنى آخر ألم يكن "اجتهاد" محمد عبده إلا ثمرة اصطدام بالحضارة الأوروبية؟ وإذن لو كان الصدام وقع فيما قبل لرأينا عددا كبيرا من "محمد عبده".
إن ما قام به محمد عبده لم يكن سوى محاولة التوفيق بين النص وبين الحضارة الأوروبية، عبر صبغ قيم أوروبية بصبغة دينية، وفي اتجاه معاكس محاولة عقلنة ما لا يعقلن. نصل إلى تساؤل: ألم يساهم محمد عبده بمحاولة إخراج كل تجديد تحت عباءة الدين في فشل الإصلاح، ألا يتضح ذلك جليا في الخط الذي سلكه تلامذته، فرشيد رضا شكل تراجعا كبيرا، ومن جاءوا بعده كانوا أضيق أفقا (جماعة الإخوان المسلمين مثلا).
إن محمد عبده كان يضع بما فعل النواة الأولى لفقه الأزمة، الذي سيبلغ ذروته مع هزيمة 67 والفورة النفطية السعودية في السبعينيات. ويتميز فقه الأزمة في كلّيته بنتائجه الكارثية التي تأتي عكس ما أريد منه ظاهريا، فيكفيه أنه يعمل على تزييف الوعي الشعبي عبر اختزال كل شيء في الدين، وسنرى بعضا من نماذج فقه الأزمة:
ــ فتوى يوسف القرضاوي حول قروض السكن، يقول: "شخصيا أفتيت الإخوة خارج البلاد الإسلامية بجواز الاقتراض من أجل السكن. لكن في الحقيقة، منذ حوالي 25 سنة وأنا أزور أوروبا وأمريكا، وكنت لا أبيح أخذ القروض من أجل السكن، ولكن منذ سنوات بدأ اجتهادي يتغير، وأنا أفتيت بمذهب أبي حنيفة الذي أفتى به شيخنا الأستاذ الزرقاء أيضا وبعض مشايخ الحنفية من الهند وباكستان، ورأيت أن هذا المذهب يحل الكثير من مشاكل المسلمين في أوربا وأمريكا، ذلك أن المسلمين قد أنعم الله عليهم بكثرة الأولاد أو الذرية... فالمسلمون لهم أطفال كثيرون وهذا يسبب لهم مشاكل كثيرة وهم يشكون منها، فهم محتاجون إلى بيوت يملكونها للسكن ولا يستأجرونها. أنا وإن كنت متشددا في السنوات الأولى فقد بدأت أخيرا آخذ بمذهب الأحناف، حيث يقول أبو حنيفة: يجوز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب، ويقصد بدار الحرب ما ليس بدار الإسلام فهو دار حرب، فنقول يجوز التعامل بعقودهم الفاسدة ومنها عقد الربا ولكن بشرطين: الشرط الأول: أن تكون هناك مصلحة للمسلم.
الشرط الثاني: ألا يكون في ذلك غدر أو خيانة، أي أن يكون هناك مراعاة للجانب الأخلاقي.
أنا أفتيت بجواز هذا ببلاد الغرب، أما بلاد المسلمين فلا أفتي بهذا"([2]).
إن الأمر لا يتعلق بقصور اجتهاد كما قد يظن البعض، فما أسهل أن يجد القرضاوي فتوى من مذهب أبي حنيفة عندما يطلب منه ذلك، ولكن الأمر يتعلق بشيء آخر. وكما أن فقه الأزمة له نتائج كارثية في كليته، فهو كذلك في جزئيته، أي في كل فتوى على حدة. وانظر: يجوز للإنسان المسلم أن يملك دارا في الغرب، بينما لا يجوز ذلك للمسلم المقيم في بلاده، لماذا؟ لأن بلاده إسلامية !!!
ــ أما النموذج الثاني فهو رأي مصطفى محمود في الضرب والهجر في المضاجع، يقول: "والضرب والهجر في المضاجع من معجزات القرآن في فهم النشوز... وهو يتفق مع أحدث ما وصل إليه علم النفس العصري في فهم المسلك المرضي للمرأة، وكما نعلم يقسم علم النفس هذا المسلك المرضي إلى نوعين: المسلك الخضوعي وهو ما يسمى في الاصطلاح العلمي ماسوشزم "Masochism" وهو تلك الحالة المرضية التي تلتذ فيها المرأة بأن تضرب وتعذب وتكون الطرف الخاضع، والنوع الثاني هو المسلك التحكمي، وهو ما يسمى في الاصطلاح العلمي سادزم "Sadism" وهو تلك الحالة المرضية التي تلتذ فيها المرأة بأن تتحكم وتسيطر وتتجبر وتتسلط وتوقع الأذى، ومثل هذه المرأة لا حل لها سوى انتزاع شوكتها وكسر سلاحها الذي تتحكم به، وسلاح المرأة أنوثتها وذلك بهجرها في المضجع، فلا يعود لها سلاح تتحكم به. أما المرأة الأخرى التي لا تجد لذتها إلا في الخضوع والضرب فإن الضرب لها علاج.. ومن هنا كانت كلمة القرآن: (واهجروهن في المضاجع واضربوهن) (النساء 34) إعجازا علميا وتلخيصا في كلمتين لكل ما أتى به علم النفس في مجلدات عن المرأة الناشز وعلاجها"([3]). كلام يدعو إلى الضحك ضحك ولكنه كالبكاء.
ــ والنموذج الثالث هو رأي ابن خليفة الذي يؤكد على أن الهياكل والجماجم القديمة هي للجن وليست للإنسان، يقول ابن خليفة: ".. وقبل هذا لابد من القول بأن المخلوقات التي كانت تسكن الأرض قبل آدم كانت لها أجسام مادية ملموسة لأن سفك الدماء لا يقع إلا على الجسم الحيواني، كما أن الفساد لا يكون إلا بتعد الحدود وانتهاك الحرمات ومما يدل على هذا أيضا خروجهم من الأرض إلى الجزائر وأطراف الجبال وقتل بعضهم البعض منهم، أن لهم جميع الصفات البشرية من طعام وشراب وزواج وحياة وموت... إذ لو كانوا غير ماديين وغير ملموسين كما قد يتصور البعض في لفظ الجن لما أمكن وقوع سفك الدماء منهم، إن لفظ الدم يوجب القول بأن لهم أجساما ذات هياكل عظمية، وأحشاء داخلية، وفيها بعض الصفات البشرية (...) ويقول علماء الانتربولوجية: "وهناك ما يدل على أن إنسان "نياندرثال" كان قبيح المنظر كث الشعر شرس الطباع، لا يأتلف بالمعاشرة، كما كانت إناثه تقزز النفس ببشاعتها". إذن فهذا الذي أطلقوا عليه اسم نياندرثال لم يكن إنسانا لأن الله تعالى يقول: (خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) لذا كان هذا النوع من أشباه البشر من سكان الأرض [أي الجن] هم الذين أفسدوا وسفكوا الدماء فيها"[4].
أحسب يا عزيزي القارئ وأنت تقرأ هذا الكلام أن ما يتبادر إلى ذهنك هو المثل المغربي: "هل تنطح أم انطح؟"، ولكني لن أنطح وأنت أيضا لن تنطح، فإن الأمر لا يتعلق برأس أو رأسين يصدر عنها مثل هذا الكلام، بل برؤوس عديدة، ولا الأمر يتعلق بقناعات يمكن تغييرها بكلمة أو كلمتين، بكتاب أو كتابين، أو حتى في سنة أو سنتين، بل إنها بنية فكرية قد ترسخت ومن أجل تفكيكها وخلخلتها نحتاج إلى جهد كبير وشجاعة دون مزايدات ولا مغازلات.
وكما أن فقه الأزمة في كليته يلبس لكل حالة لبوسها، فهو في الخمسينات والستينات يرفع شعار اشتراكية الإسلام، وبعد ذلك الديموقراطية في الإسلام، واليوم الإسلام وحقوق الإنسان.. فإنه كذلك في جزئيته يلبس لكل حالة لبوسها، فلقد دأب فقهاء الأزمة في مواجهة كل جديد بتحريمه أولا ملوحين في ذلك بسيف المعز وذهبه، وهكذا يتراوح سعيهم بين الترغيب والترهيب، فتارة يلوّحون بالنعيم المقيم الذي ينتظر المطيع وتارة يلوحون بالعذاب الأليم للعاصي، إذا لم يرتدع ولم يستجب، حتى إذا ما مرت السنون فأصبح الجديد أمرا واقعا وتبدلت الأشياء، وللواقع أحكامه التي يفرضها مع مرور الزمن وانصرف الناس عن رأي الفقهاء، نطق لسان حالهم بما قاله زهير بن أبي سلمى:
        ومن لم يصانع في أمور كثيرة          يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
فيقولون أن الأمر قابل للنظر وله وجه حل، وهكذا يصبح الأمر حلالا ولكن بشروط، حتى إذا كشر الواقع عن أنيابه بدون مماطلة،وخاف القوم، قالوا: فلنحافظ على شعرة معاوية، فيغدو الأمر ليس حلالا فحسب بل واجبا، وهكذا فعلوا مع عمل المرأة، فمن أقصى تحريمه إلى جعله واجبا ــ خاصة عمل المرأة كمدرسة للفتيات ــ، وكذلك تعليم المرأة، ومع الغناء فبعد أن كان رقية اللواط والزنا سيصير وسيلة للترويح عن القلوب فإن القلوب إذا كلت عميت، ومع فوائد الأبناك فبعد أن كانت ربا تصبح حلالا كما أفتى بذلك محمد سيد طنطاوي في التسعينات وهي الفتوى التي أخذ بها الأزهر هذا العام.
بل انظر إلى رأي الفقهاء في الانتخابات، فبعد أن كانت الديمقراطية كفرا بواحا لأنها حكم الشعب ها هي اليوم تصبح واجبا لا غنى عنها وتصبح الانتخابات شهادة آثم من لم يؤدها، يقول يوسف القرضاوي: "فإذا نظرنا إلى نظام الانتخابات أو التصويت، فهي في نظر الإسلام "شهادة" للمرشح بالصلاحية (...) ومن تخلف عن أداء واجبه الانتخابي حتى رسب الكفء الأمين، وفاز بالأغلبية من لا يستحق، ممن لا يتوافر فيه وصف "القوي الأمين" فقد كتم الشهادة أحوج ما تكون الأمة إليها. وقد قال تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا) (البقرة/282)، (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) (البقرة/283)"[5].
ما الذي وقع إذن ما بين سيف وذهب المعز وبين شعرة معاوية؟ لم يقع شيء سوى أننا أضعنا وقتا كبيرا وجهدا مبذولا في جدالات كثيرة، واستنزفنا طاقاتنا في غير محلها، ولم يقع شيء سوى أن ضيعت حقوق، سوى أن عاشت المرأة في ظل ظروف غير كريمة، بلا تعليم ولا عمل ولا حقوق، في كثير من الأقطار العربية ـ الإسلامية، وسوى أن المجتمعات العربية – الإسلامية ولدت أجيالا وأجيالا كثيرة لا يمكن لأي مخطط تنمية أن يستجيب لها، أجيال كانت عائقا لأية تنمية، فهي لم تأخذ حقها من التربية ولا من التعليم ولا من الصحة ولا العيش الكريم، لا لشيء إلا لأن كثيرا من الفقهاء يصرون على أن تنظيم بله تحديد النسل حرام. لم يقع شيء سوى أن فتح المجال للانتهازيين والطفيليين بأن ينشئوا شركات توظيف الأموال الإسلامية ولا يعدو أمرهم عن كونهم تجار عملة فكدسوا ثروات هائلة وهربوا بها، بينما الاقتصاد المحلي تلقى ضربات قوية ــ مصر مثلا ــ، وحتى يصدر محمد الغزالي ــ سابقا ــ فتوى بأن دخول الجن في الإنسان ما هو إلا خرافة وأن الاضطرابات التي يعاني منها المرضى ما هي إلا أعراض أمراض نفسية أو عضوية، كم هلك من مريض وكم استطاع من مبتز من الدجالين الذين يدّعون أنهم يخرجون الجن من الإنسان أن يتلاعب بآلام المرضى ويغتني ويثري. وغيرها وغيرها... وبالجملة لم يقع شيء سوى أننا قد شددنا إلى الوراء شدا، وأن تركنا لكل الطفيليين والانتهازيين أن يغتنوا ويثروا باسم الدين.

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية، يوم الأربعاء 19 نونبر 2003.


[1] - أحمد أمين، فجر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط. الحادية عشرة، 1975، ص. 245.
[2] - يوسف القرضاوي، شروط نجاح مؤسسة الزكاة في التطبيق المعاصر: محاضرات من ندوة التطبيقات الإسلامية المعاصرة، سلسلة الحوارات 32، منشورات الفرقان، الدار البيضاء، 1998، ص. 44).
[3] - مصطفى محمود، حوار مع صديقي الملحد، دار العودة، بيروت، 1981، ص. 60 – 61.
[4] - ابن خليفة، الحجج العصماء في نقض نظرية داروين في النشوء والارتقاء، مطبعة خالد بن الوليد، دمشق [د.ت]، ص. 71 – 74.
[5] - يوسف القرضاوي، فتاوى معاصرة، الجزء الثاني، دار القلم – دار الوفاء، المنصورة، ط. الثانية، 1994، ص. 643 – 644.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق