الثلاثاء، 18 أغسطس 2015

نعتُ الريسوني لسيد القمني بـ"الملحد القذِر" عنوان للتطرف والإرهاب، بقلم عبد الواحد بنعضرا*

نعتُ الريسوني لسيد القمني بـ"الملحد القذِر" عنوان للتطرف والإرهاب
عبد الواحد بنعضرا
 أعلن أحمد الريسوني، بوضوح، وهو في كامل قواه العقلية، كفر وإلحاد سيد القمني، ففي حواره مع أسبوعية "السبيل"؛ قال: " مما يتعجب له أن الدولة المغربية ما زالت ساكتة على فعل حزب "البام" الذي استقدم لنا ملحداً قذراً وأطلق يده ولسانه ليقصف عددا من مقدسات المسلمين " (الريسوني، حوار مع أسبوعية السبيل، 1 يوليوز 2015، العدد 195).
وإني أسألك يا شيخ أحمد: هل نصّبت نفسك إلهاً فوق الأرض حتى تُدخل من تشاء الجنة وتخرج منها من تشاء، وتكفّر من تشاء وتزكّي من تشاء، وتوزع على هذا صكوك الغفران وتحرم ذاك من رضا الرحمان؟ أم هل عيّنك أحدهم واسطة بين الله وبين الناس؟ وهل اقتحمت  العقبة ونلت الدرجات العلى ورأيت مقعدك من الجنة ومقاعد الآخرين في النار؟
وإني لأتساءل هل قرأت القرآن جيدا يا شيخ أحمد؟ فإني إذْ أعرض كلامَك، وما يقطر به من حقد وكراهية، على القرآن أجد المسافة بينهما بعيدة، نقرأ في القرآن: (ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين) (النحل/ 125). تأمّل يا شيخ هذه الكلمات: الحكمة والموعظة والمجادلة، بالتي هي أحسن، ولاحظ أنه لم يقل بأن أحداً من البشر أعلم بالمهتدين ! بل الله أعلم بالمهتدين، الله فقط، وبعد ذلك لا يملك احد إلا أن يردّد: (يوم القيامة عند ربكم تختصمون) (الزمر/31).
وتأمل في هذه الآيات: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم، وما يُلقّاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) (فصلت/ 33 – 35). أمّا إذا كان ذا حظ قليل فإنه سيسارع إلى إشهار سلاح التكفير أمام حرية التفكير، ومقارعة الحجة بالجهالة ومقابلة الفكرة الرصينة بالصراخ والضجيج، ومواجهة التحليل العلمي بالدعاء على أهله بالويل والثبور والخسران والبوار، والرد على الكلمة بقاموس من الشتائم والسباب، وشتان بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، ألم تقرأ: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها) (إبراهيم/  24- 26).
إن إصراركم على الاستغاثة، لمواجهة فكر الآخرين، بقاموس يمتح من أدبيات قعقعة السيوف وسفك الدماء وجزّ الأعناق وقطع الرقاب ورمي الخصوم بالزندقة والإلحاد، دليل عجز لا قوة، ومؤشر على الحقد والكراهية لا الطهر والمحبة، وعنوان للتطرف والإرهاب لا الاعتدال والتسامح.
إنه من الغريب، والحال كذلك يا شيخ أحمد، أن نراك تتحدث عن التسامح، حين قلت في حوار آخر مع الجريدة نفسها: " التسامح الذي ندعو إليه ونتمسك به يتضمن عدم التشدد في الدين، وعدم التشديد على الناس، والتعامل معهم بالتيسير والرفق، وحسن الظن، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، دون إكراه ولا ضغط على أحد" (الريسوني، حوار مع أسبوعية السبيل، 16 ماي 2015، العدد 192). فهل من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة نعت مفكر بأنه ملحد وقذر؟ لماذا غابت في ردك على القمني تلك النبرة الواثقة الحكيمة، لماذا تناسيت ما تشدقت به من حديث عن فضيلة الحوار وحسن الجدال،  وما تدندن به من وسطية واعتدال؟  
ما ضرّكم من سيد القمني وباقي المفكرين إلا أنهم ألْهَبوا عصباً مكشوفاً وعرّوا حقيقتكم وأسقطوا عنكم ورقة التوت وكشفوا استغلالكم للدين أبشع استغلال وتوظيفكم له لتحقيق مصالحكم السياسية؛ حيث جعلتموه مطية للتوصل بها إلى حطام الدنيا ومآرب أخرى.
ألم يكشفوا استغلالكم لمسألة الحاكمية قبل أن تطبّلوا ــ اليوم ــ للديمقراطية، واستغلالكم لشعار "تطبيق الشريعة" قبل أن تنقلبوا للمطالبة باحترام الشرعية العددية شرعية صناديق الاقتراع، وتلويحكم بشعار "الإسلام هو الحل" قبل أن يصير شعاركم "الإسلام هو الهدى"، وغيرها مما كانت تعتبر لديكم في السابق من "مقدسات المسلمين" وهي في الأصل شعارات سياسية، فنقاشها ونقدها، إذن، هو نقد لاستغلال الدين في السياسة.
إن سيد القمني وغيره من المفكرين كانوا وما يزالون يحاربون المتاجرة بالدين واستغلاله في السياسة من أجل حطام من الدنيا زائل تبغون الوصول إليه وتتهافتون للوقوع عليه... وأمام عجزكم عن مقارعتهم الحجة بالحجة تلجأون إلى أسهل وسيلة لتكميم أفواههم وإخراس أصواتهم وكسر أقلامهم وهو إشهار سلاح التكفير في وجوههم ورميهم بالإلحاد في انتظار من ينفّذ. أفليس ذلك عين التطرف؟ أفليس ذلك عين الإرهاب؟

 * نشر بجريدة الأحداث المغربية يوم الاثنين 17 غشت 2015 العدد 5672

الجمعة، 14 أغسطس 2015

فتوى ابن باز بتكفير القول بكروية الأرض ودورانها نموذج لعبادة النصوص، بقلم عبد الواحد بنعضرا*

فتوى ابن باز بتكفير القول بكروية الأرض ودورانها نموذج لعبادة النصوص
عبد الواحد بنعضرا
تناولت في مقال سابق تناقضات العقل النصي، وفي هذا المقال، سأقدم نموذجا بارزا لهذه القضية، وتتمثل في إحدى أكثر الفتاوي إثارة للجدل في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي فتوى ابن باز، شيخ فقهاء السعودية والحجاز والوهابية عموما في وقته، التي نفت كروية الأرض جملة وتفصيلا وأية حركة لها، بل وكفرّت كل من يعتقد ذلك. وقد نُشرت الفتوى في مواطن عدة، حيث قال ابن باز: "فلقد شاع بين كثير من الكتاب والمؤلفين والمدرّسين في هذا العصر أن الأرض تدور، والشمس ثابتة، وراج هذا على كثير من الألسن، وكثر السؤال عنه، فرأيت من الواجب أن أكتب في هذا كلمة موجزة ترشد القارئ إلى أدلة بطلان هذا القول ومعرفة الحق في هذه المسألة، فأقول قد دلّ القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وإجماع علماء الإسلام، والواقع المشاهد على أن الشمس جارية في فلكها كما سخرها الله سبحانه وتعالى، وأن الأرض ثابتة قارة قد بسطها الله لعباده وجعلها لهم فراشا ومهدا وأرساها لئلا تميد بهم" (عبد العزيز ابن باز، الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب وعلى جريان الشمس والقمر وسكون الأرض، ص. 21). والشاهد في قضيتنا هذه، قضية القرن 20 !! أن الرجل سوّد ورقات عديدة، مستدلا فيها بآيات قرآنية، لإثبات صحة فتواه، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الآية: (أو لم ير الذين كفروا أن السماء كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي، أفلا يؤمنون، وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها سبلا لعلهم يهتدون وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون)، وآية: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم)... مؤكدا أن: "هذه الآيات الكريمات دلائل قاطعة، وبراهين ساطعة على أن الشمس جارية لا ثابتة، وأن الأرض قارة ساكنة كما أرساها الله بالجبال الرواسي ومدّها لعباده وبسطها لهم وجعلها فراشا" (ابن باز، نفسه، ص. 22). فالرجل يتحدث عن دلائل قاطعة كما رأينا في كلامه. وهو من هو ! كبير فقهاء الوهابية عامة، والشيخ الأكبر للسعودية سابقا. إن استدلاله بنصوص قرآنية على أنها دلائل قاطعة على ثبوت الأرض وانبساطها يرمي بأحجار عديدة في المياه الراكدة لألئك الذين يرفعون في وجوهنا النصوص لكي يفحمون، زعماً، مخالفيهم ثم يكفرونهم لينتهي أي نقاش؛ إذ أنهم مافتئوا يلوّحون بعبارة: "لا اجتهاد مع النص". وهذا هو منطلق ابن باز الذي أداه إلى تكفير القائلين بكروية الأرض وبحركتها، ومتى؟ في القرن 20؛ حيث أعلنها حربا مدوية: "وكل من كذب الله سبحانه أو كذّب كتابه الكريم أو كذّب رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام فهو كافر ضال مضل يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا ويكون ماله فيئا لبيت مال المسلمين كما نصّ على مثل هذا أهل العلم والإيمان في باب حكم المرتد، وكما أن هذا القول بالباطل مخالف للنصوص فهو مخالف للمشاهد المحسوس، ومكابرة للمعقول والواقع، فلم يزل الناس، مسلمهم وكافرهم يشاهدون الشمس جارية طالعة وغاربة، ويشاهدون الأرض قارة ثابتة، ويشاهدون كل بلد وكل جبل في جهته لم يتغير من ذلك شيء، ولو كانت الأرض تدور كما يزعمون لكانت البلدان والجبال والأشجار والأنهار والبحار لا قرار لها" (ابن باز، نفسه، ص. 23). وإذا كان كلام ابن باز لا يقبله اليوم حتى شيوخ الوهابية، حتى أنهم أزالوا هذه الفتوى من الطبعات الحديثة لفتاوى ابن باز، بحكم الواقع الذي أصبح معلوما للجميع في ما يخص شكل وحركة الأرض، فإنني أتساءل كم يلزمنا من سنوات أو أجيال حتى تصبح كثير من الأشياء مقبولة من طرف الفقهاء بحكم الواقع، وحتى ذلك الحين هل من المعقول أن يظل البعض يلوح بيد بالنص وبيد أخرى بالتكفير والخنجر أو الرشاش؟

إن فتوى ابن باز هذه، شأنها شأن غيرها، نموذج لعبادة النصوص التي قال عنها ذات يوم الكاتب الإسلامي فهمي هويدي: "إن الوثنية ليست فقط عبادة الأصنام، فهذه صيغة الزمن القديم. ولكن وثنية هذا الزمان صارت تتمثل في عبادة القوالب والرموز. في عبادة النصوص والطقوس ومشاهير القادة وعظمائهم. وهي كل محاولة لتعطيل عقل الإنسان وقدراته، وتأكيد عجزه أمام هذه المقدسات الجديدة" (فهمي هويدي، القرآن والسلطان، ص. 35). ولم يعد يكفي أن نأخذ بما قاله ابن رشد (ت. 1198م): "ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي (...) بل نقول أنه ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا إذا عتبر الشرع وتصفحت سائر أجزائه وُجد في ألفاظ الشرع ما يشهد لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد" (ابن رشد، كتاب فصل المقال، ص. 36). أو ما قام به محمد عبده (ت. 1905م)، حين فسّر بعض الآيات تفسيرا علميا رغبة منه في نفي اللاعقلانية عن الدين في عزّ سطوة العقل الوضعي في العالم. بل نحتاج، اليوم، إلى تأكيد الفصل بين مختلف الحقول، وقد سبق أن نبهتُ في دراسة سابقة عن الخلط الذي يقع، على سبيل المثال، بين البنية الدينية والبنية العلمية عند نقاش آية (أو لم ير الذين كفروا أن السماء كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي) (الأنبياء/30)، حيث قلتُ: " إن عجز الإنسان أمام تلك الفضاءات التي تبدو عالية ومبتعدة عليه جعله يؤثثها بكل ما هو غريب/قوي/جميل/معجز/خالد... فانعكس هذا في تصور الإنسان لبداية الخلق وكيف جعل السماء تفارق الأرض، معبرا بذلك عن أن كل ما هو متعالي/سماوي هو "مفارق" للأرض حيث لا يوجد إلا ما هو ضعيف/عاجز/عرَضي وفاني... فالسماء عند الإنسان القديم هي الطهارة، السمو، العلو والكامل، رمز المقدس، وكل ما يأتي من فوق فهو كامل ومعجز. فوضع النصوص القرآنية في سياقها التاريخي والثقافي والمعرفي يجعلنا نُـزيل ذلك اللبس الذي يعتري بعض الآيات ويستغله البعض للحديث عن الإعجاز العلمي لهذه النصوص وهم يخلطون في ذلك بين بنيتين مختلفتين تماما" (بنعضرا، عن أي إعجاز علمي يتحدثون؟). من هنا أخلص إلى أننا نُضيع الكثير من الوقت والجهد حين نقحم النصوص في ما يتعلق بالفضاء العام وتدبير الشأن العام. على أساس أن لكل واحد الحق في اختيار شكل الحياة التي يريدها ولكن ليس من حقه أن يفرضها على الآخرين بدعوى النص، وقد رأينا إلى أي نتيجة انتهت إليه عبادة النصوص من خلال فتوى ابن باز هذه. وأتساءل أليس من الإهانة الكبيرة لنا ولعقولنا أن نقول لهذا العقل الجبار الذي اخترع واكتشف وأنجز ثورة المعلوميات والاتصال وكافة المنجزات الطبية في القرن 21 توقف فقد جاء النص؟
* نشر المقال في جريدة الأحداث المغربية يوم الخميس 6 مارس 2014 العدد 5223

الثلاثاء، 11 أغسطس 2015

ماذا بعد المراجعات يا رئيس الحكومة؟، بقلم عبد الواحد بنعضرا*

ماذا بعد المراجعات يا رئيس الحكومة؟
عبد الواحد بنعضرا
يتواصل الحديث عن المراجعات الفكرية، لدى تيارات "الإسلام السياسي"، والسؤال لدينا: ماذا بعد المراجعات؟ بمعنى آخر إلى أي حدّ ستفرز هذه المراجعات التزاما من قِبل تلك التيارات بعدم استعمال "الدين" في السياسة؟
أعلن رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران في آخر حوار له، مع مجلة زمان، بوضوح: "عندما يصوّت علينا الناس فلِنحل مشاكلهم وليس لنفرض عليهم أي شيء" (بنكيران، حوار مع مجلة زمان، العدد 21، يوليوز 2015، ص. 47).
أوضح، أيضا، أن ضغط الواقع كان وراء المراجعات؛ حيث قال: "الذي وقع معي أن الجماعة تواضعت، وأدركنا حجمنا الطبيعي. لم يعد المشكل هو تغيير المجتمع بل فقط أن نقوم بالواجب الذي يفرضه علينا الدين، الاستقامة، والقيام بالدعوة... أصبنا بنوبة من التواضع، وأصبحنا واقعيين" (نفسه).
وأبرز رئيس الحكومة، أسباب رفضه لشعار "الإسلام هو الحل"؛ حيث قال: "عندما التحق بنا الإخوة في رابطة المستقبل الإسلامي سنة 1996 أرادوا إقحام فكرة أن "الإسلام هو الحل"، التي يقول بها الإخوان المسلمون، وخضنا معهم معركة عنيفة حول هذا المبدأ حتى توصلنا إلى صيغة "الإسلام هو الهدى". لأنّ الإسلام لن يحل مشكل السكن أو غيره من مشاكل الناس، فلماذا نُغْرٍ الناس بهذا الشعار؟ في حين لم يبدأ زعماء الفكر الإخواني في مراجعة هذا الشعار إلا مؤخرا" (نفسه، ص. 46).
ذلك لسان المقال، يا رئيس الحكومة، بينما لسان الحال يقول غير ذلك؛ حيث عمدتم إلى تعبئة الناخبين بشعارات مستوحاة من شعار "الإسلام هو الحل"، وما زال حزب العدالة والتنمية ممعنا في التوظيف السياسوي للدين. هذا ما يجعلنا نضع مراجعاتكم ومراجعات غيركم موضع تساؤل كبير.
بلغة أخرى، المسافة كبيرة بين الخطاب والممارسة؛ فقد سبق لكم أن أكدتم في وثيقة لكم سنة 2001 على الآتي: "إن إبداع الحلول لمشاكل الحياة العامة، يبقى مرتبطا بالاجتهاد البشري، ولهذا من السذاجة أن نقول أن هناك حلا إسلاميا لمشاكل البطالة، وحلا إسلاميا لأزمة الاستثمار إلى غير ذلك من القضايا، فالباب مفتوح لعدة حلول في إطار مرجعية الإسلام ومقاصده، وقد تكون في نفس الوقت قريبة من الفكر الليبرالي أو الاشتراكي (...) وينجم عن ذلك، أن أبناء الحركة الإسلامية مطالبون بالتعاون مع كافة الأطراف لبلورة البدائل والاقتراحات والحلول في إطار مقاصد الإسلام، ولا يعني أن هذه المقترحات ستكون إسلامية، فمساهمتهم هي شخصية وتعبّر عن اجتهاد ولا يتحمل الإسلام مسؤوليتها. المحصلة أن الحزب لا ينفرد بإيديولوجية، ولا يتميز بمرجعية مذهبية إسلامية خاصة ولهذا نعتبر أن إيديولوجية حزبنا ليست حكرا عليه، فهي تجمع كافة المغاربة" (نص وثيقة بنكيران، أسبوعية الصحيفة 13 ــ 19 مارس 2001، العدد 13).
رغم ذلك تتحدثون عن الإسلام كأن لكم تفويضا وتوكيلا بالدفاع عنه، وممارساتكم تقول بأنكم تحتكرون الإسلام، واستحقاقات 2002، أي بعد إصداركم لتلك الوثيقة، التي عرفت حملاتها الانتخابية نعتا لمخالفيكم بأقذع بالنعوت وأحطّها، ورميهم بالزندقة والإلحاد على خلفية النقاش حول الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، لهي شاهدٌ على البون الشاسع بين الخطاب والممارسة لديكم.
في سنة 2004 تحدث لحسن الداودي قائلا: "كنا دائما نقول إن حزب العدالة والتنمية حزب ذو مرجعية إسلامية، فكلمة إسلامي قد لا تعبر عن حقيقة ما نقوم به، فهل إذا أخطأ الحزب يكون الإسلام خاطئا، كلا فالتدبير علمي والمرجعية التي نستقي منها الحلول مرجعية إسلامية، وهذا ينسحب على كلمة بنك إسلامي أو اقتصاد إسلامي" (لحسن الداودي، حوار مع أسبوعية الصحيفة، 27 فبراير- 4 مارس 2004، العدد 151). ومع ذلك أنتم تعملون على توظيف عبارة "إسلامي" للترويج لمنتوجكم السياسي.
ذلك ما يجعلنا في حاجة إلى أن نرى امتداد القول في الفعل والممارسة حتى يكتسب كلامكم المصداقية، بعيدا عن منطق "التمكين"، وباحترام مختلف الحساسيات دون السقوط في فخ ديكتاتورية الأغلبية؛ إذ أن الديمقراطية لا تنحصر في الجانب العددي، فالصناديق آلية من آليات الديمقراطية وليست هي كل الديمقراطية، هذا يقودنا لسؤال ماذا تعني الديمقراطية؟
عموما، يمكن القول: "أن الديمقراطية تشير إلى طريقة تنظيم السلطة السياسة التي تعتبر مشروعة عندما تقرّ بتفوق السيادة الشعبية وعندما ترمي إلى التعزيز الفعلي للسيادة ولكن تنسيقها الفعلي يرتكز دوما بمعظمه على تفويض السلطة إلى طاقم متخصص من خلال انتخابات دورية وتنافسية من غير إقصاء فاضح لبعض القطاعات. وتشير الديمقراطية كذلك إلى طريقة تنظيم السلطة السياسية التي لا تمارس فيها إرادة الأكثرية بشكل يسحق الأقليات أو المجموعات أيا كانت مصالحها" (غي هرميه وآخرون، معجم علم السياسة والمؤسسات السياسية، ص. 214 - 215). وهذا ما لم يستوعبه، بعد، أعضاء حزب العدالة والتنمية الذين يلجأون إلى التلويح بالنصوص في خلط بين تدبير الشأن العام ونشر الدعوة، وفي سحق للأقلية ودون اعتبار لسمو الشرعية الشعبية على أي شرعية أخرى. وهم يلجؤون إلى افتعال التوتر من خلال خرجات مدروسة، تتزامن مع اشتداد الخناق على سياسة الحكومة، فيعمدون إلى خلط الأمور وتعويمها بل وإلهاء جزء من الرأي العام حتى يتم تمرير مجموعة من القرارات. وفي خرجاتهم هذه يستعملون قاموسا أكل عليه الدهر وشرب، مُعزَزاً ببعض النصوص الدينية.

ذلك منبع تساؤلنا، في انتظار أن يصدّق فعلُكم قولَكم !
* نشر في جريدة الأحداث المغربية يوم الأربعاء 5 غشت 2015 العدد 5662

الثلاثاء، 4 أغسطس 2015

الريسوني والثالوث المقدس: القرضاوي، قطر، والجنس، بقلم عبد الواحد بنعضرا*

الريسوني والثالوث المقدس: القرضاوي، قطر، والجنس
عبد الواحد بنعضرا
أحمد الريسوني، المتناقض مع نفسه، دائما، المنتقد لكل شيء، لا يعجبه العجب، المتسامح مع وجود حرية المعتقد والرافض للتنصيص عليها في الدستور، الداعي لدولة مدنية الدابّ في الوقت نفسه على التنصيص على إسلامية الدولة؛ إذ لا بين بين عنده، فإما إسلامية وإما دولة علمانية أو إلحادية (أخبار اليوم، 30/ 6 / 2011).!! المرحّب في الوقت نفسه بالعلمانية المعتدلة (الأيام الأسبوعية، 13 - 19 / 3 / 2014). القائل بتطبيق الشريعة، المستدرك، اليوم، أن الشريعة هي كل ما يخدم الناس ويحقق مصلحة الإنسان (حوارته في 2011، وكتابه فقه الثورة 2012، ينظر: بنعضرا، وراء دعوة "الريسوني" لمراجعة مفهوم الشريعة ما وراءها، الأحداث المغربية، 10 و11/  10 / 2013).
 القائل بأن منابر الجمعة يجب أن تصان عن الانشغالات السياسية وألا يلقى فيها إلا ما هو متفق عليه، المنتقد في الوقت نفسه /بل الحوار نفسه، لمراقبة الوزارة الوصية لخطب الجمعة (المساء، 29- 30/  10 / 2011)، المندد بإجراءات هذه الوزارة  من خلال عرضه وابتكاره للائحة بالمواضيع التي يحرم على الخطباء الاقتراب منها كما قال، في مقال "وزارة الأوقاف وسياسة بوكو حرام" (أخبار اليوم، 7 / 8 / 2014). وهلمّ تناقضات.
غير أن هناك ثالوثا مقدسا عند الريسوني، دون المساس به خرط القتاد وفتّ الأكباد وزرع الأحقاد: شيخه القرضاوي، قطر، والجنس... الرؤية هنا واضحة، كيف؟
قد يفعل القرضاوي أي شيء بما فيه الإفتاء بأخذ القروض من الأبناك التقليدية من أجل السكن، رغم اعتبار ذلك من قِبلهم أنها "ربا"، فيجد الريسوني مخرجا لذلك بقوله:"من أخذ برأي الشيخ القرضاوي فهو حجة عند ربّه" (التجديد، 22-24 / 9 / 2006).
ولم لا، فبالنسبة للريسوني فإن: "القرضاوي هو العالم الأول في الأمة وكلمته هي الأعلى وهو رقم واحد في العلم المجتهد المحترم (...) القرضاوي ليس محط جدل، فهو موحد كلمة الأمة ويرأس أكبر اتحاد في تاريخ الأمة وهو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" (الأسبوع الصحفي، 1 /11/ 2012).  وبلغة أخرى:  فإن طاعة القرضاوي من طاعة الله. يا شيخ أحمد لم نتعود منك هذا التقديس للأشخاص.
وقد دافع عن القرضاوي بأن مواقفه السياسية تعبّر عن اصطفافه إلى جانب الشعوب المقهورة إبان "الربيع العربي" (المساء، 5 - 6 / 7 / 2014)، ونسي موقفه من الشعب البحريني ! أذكّرك هنا يا شيخ أحمد بما قاله رضى الموسوي البحريني عن توصيف القرضاوي بما وقع في الحرين بالثورة الطائفية، بأن: "هذه فتوى شيطانية ترتقي إلى مستوى الجريمة، لأنه عندما قال القرضاوي إن ما يحدث في البحرين مصدره طائفي كان يعرف تمام المعرفة بأن الواقع مناف لما قاله (...) ما قام به الشيخ القرضاوي أضرّ كثيرا بالنضال الوطني الديمقراطي السلمي والحضاري في البحرين" (المساء،18 / 12 / 2012).
وحين تصابى الشيخ القرضاوي وعاش مراهقة متأخرة فيها النظرات والمكالمات والأشعار، كما صرحت طليقته أسماء بن قادة (نقلا عن الأحداث المغربية، 22 / 7 / 2012)، فإن الريسوني لم ينبس ببنت شفة، ولم تأخذه الحمية الأخلاقية ولا الغيرة الدينية !
أما قطر، فقد تفعل أي شيء، بما في ذلك ما تفجّر عن رشاويها لاستضافة كأس العالم، ولكنه لا يجرؤ على انتقادها، لا يستطيع الريسوني أن يضع لائحة "بوكو حرام" التي تقوم بها قطر هنا وهناك... بل دافع عن أنها تقف إلى جانب الشعوب المقهورة !! (المساء، 5 - 6 / 7 / 2014). قد قمتَ بسب السعودية وحكامها، وانتقدت المغاربة بكل صنوفهم، ولكن قطر، وما يقطر عنها، منزهة ومقدسة !!
أما الجنس فهوايته المفضلة، شأنه في ذلك شأن تيارات الإسلام السياسي من خلال ما أسمّيه بـ"ممارسة السياسة في الجنس"، بالربط بين قضايا خِلافية والجنس، ويسهل حينها نعت الخصوم السياسيين، من قوى يسارية وديمقراطية، بأنها أحزاب الشيطان وأعوانه في نشر الفساد والرذيلة والإباحية مادام الجنس قد غُلّف أخلاقيا برداء ديني... والقصد من ذلك هو ضرب الخصوم سياسيا... ويظهر هذا عند الريسوني في خرجاته المتعددة، ففي مقاله: "الحِداد على امرأة الحدّاد"، الذي يتأسف فيه على ضياع نموذج المرأة التي كان يدعو إليها الطاهر الحداد، وغيره من المفكرين، وإبداله بنموذج آخر، قال الريسوني: "الحداد إنما هو بسبب الخوف على أفول امرأة الحدّاد وابن عاشور وعلال الفاسي والحجوي، بعد بروز أصناف جديدة من النساء والفتيات يتم تصنيعهن وتكييفهن وتوجيههن حسب متطلبات المتعة والفرجة والتجارة والإجارة والإثارة (...) هذه مجرد إشارات وقطرات من بحر نساء الحداثة ومازالت الماكينة تشتغل وتنتج، ومازال شياطين الرجال ــ وليس النساء ــ يصمّمون لهن ويخترعون، ويفتحون عليهن من أبواب حهنم.. فكيف لا نعلن الحداد على امرأة الحدّاد وعلى ما بعد امرأة الحداد" (المساء، 10 / 12 / 2014).
وفي مقاله: "من الزواج المثالي إلى الزواج المثلي" تساءل الريسوني: "فهل سيصل الإجهاضيون ــ فرع المغرب ــ في نضالاتهم التحديثية حتى يحققوا مغربة الزواج المثلي وتقنين الحقوق الجنسية المثلية؟ أظن أن جوابهم لن يتأخر" (المساء، 10 / 4 / 2015).
ونتساءل ما العلاقة بين الإجهاض والزواج المثلي؟ تماما مثلما نتساءل عن الغيرة الدينية على ما أسماه "امرأة الحدّاد" أين غابت فيما يتعلق بقضايا الحب في الحكومة والزواج العرفي لنساء حركته/حزبه، ومُراهَقات شيخه، فالأمر كما قلنا ممارسة للسياسة من خلال الركوب على مشجب انهيار الأخلاق وانتشار الزنا...
لا داعي للتذكير، بأن هذه اللعبة باتت مكشوفة، وأن حزب العدالة والتنمية قد يحترق بها، خصوصا مع ما تفجر لديه من قضايا من هذا النوع.
القصد مما سبق، أني أريد أن أنبّه على أن الاستمرار في اللعب على نفس الحبال مغامرة ومضيعة للوقت. أمّا كونها مضيعة للوقت، فلأن كثيرا من القضايا تعودون فيها لأخذ رأي المخالفين بعد مرور الزمن، وبعد أن تكونوا قد شوهتم فكرتهم ورميتموهم بمختلف النعوت القدحية، بلغة أخرى سجلتم عليهم نقاطا سياسوية. أمّا أنها مغامرة، فإني أرى أن تصوير المغرب بأنه ماخور أو أن فيه دعاة الإلحاد والكفر وأن الإسلام في خطر... هو الطريق السيار لتسويغ العنف وممارسة الإرهاب... وهي مقدمات شبيهة لما وقع في ماي 2003... والغريب أنك يا شيخ في حوار سُئلت عن حكم من قتل شخصا آخر بضلال فكري، فصَمتَ، ثم قلت: "لا أعرف له حكما. أنا لستُ قاضيا لأحكم في هذه النازلة والفهم في هذه النازلة أولى من الحكم" (الأيام، 15 - 21 / 7 / 2004). عذر أقبح من زلة ! أما آن لكم أن تفهموا أنه لم يعد هناك مجال للعب بالنار، وأن السياسة تمارس بالعقل لا بالغريزة، أم أن الفطام عن "الأمية" سيطول؟ مرة أخرى نذكّركم بأن السياسة تدبير للشأن العام وليست مجالا لإقامة محاكم التفتيش... وإذا كنتم جادين في مراجعاتكم، في هذا الوقت الذي بات فيه الكثيرون يقومون بـ"المراجعة"، فعليكم أن تكونوا منسجمين مع أنفسكم، وكفى من لعبة تقاسم الأدوار فيما يتعلق بقضايا "الدين" ! حذار !

* نشر في جريدة الأحداث المغربية يوم الاثنين 3 غشت 2015 ، العدد 5660


الأربعاء، 29 يوليو 2015

رئيس الحكومة بنكيران وقضية المساواة في الإرث بين النساء والرجال، بقلم عبد الواحد بنعضرا*

رئيس الحكومة بنكيران وقضية المساواة في الإرث بين النساء والرجال
عبد الواحد بنعضرا
في حوار مطول مع مجلة زمان أشار رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران إلى قضية المساواة في الإرث قائلا: "نحن نؤمن بالمساواة بين الجنسين، لكن لا نؤمن بالمساواة بينهما في الإرث، مثلا، لأن فيه نص قطعي، فإذا جاء من يجتهد اجتهادا مقنعا في هذا الموضوع مرحبا (...) فإذن هاتوا اجتهاداتكم ونحن مستعدون للنقاش، لكن لا تطلبوا منّا تبني مطالب نعتقد أنها غير صحيحة فقط إرضاء للحداثة والحداثيين. نحن نعتقد أن كلمة الله يجب أن تكون هي العليا، لكن ليس بطريقة عمياء متشددة، فإذا كان هناك اجتهاد فيه مصلحة حقيقية ــ وهذا مقصود شرع الله ــ فنحن مستعدون" (بنكيران، حوار مع مجلة زمان، العدد 21، يوليوز 2015، ص. 55).
إسهاما مني في الموضوع، وتفاعلا مني مع ما قلتم بشكل إيجابي، أقّدم لكم نموذجين من الاجتهادات في الموضوع، علما أن هذا النقاش يحتاج صبرا وإعمالا للعقل، وهدوءا في التعاطي معه وتفادي التشنج، بل الإنصات الجيد لكل الأطراف، انطلاقا من مقدمة بديهية أن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، وأن لا أحد يملك تفويضا سماويا للحديث باسم الله أو توكيلا للدفاع عن الإسلام، كما يفعل أحيانا الفريق البرلماني لحزب العدالة والتنمية وهو يلعب بالنار في منطقة مليئة بالألغام والبعض مستعد فيها للمرور من التكفير إلى التقتيل والتفجير، ولا أحسب أن ذلك بغائب عنكم.
كما يحتاج هذا الموضوع إلى مراعاة مصلحة الاقتصاد الوطني من جهة، وصيانة كرامة الأفراد من جهة ثانية. من هذا المنطلق أتفق مع الأستاذ عبد الله العروي، في ما يخص مسألة توريث أبناء البنت من الجدّ ــ على سبيل المثال ــ على ضرورة استشارة الاقتصاديين حتى لا تكون النتيجة، بإسم المساواة، تفتيت الميراث فيكون ذلك حائلا أمام تحقيق التراكم، إذ يمكن للاقتصاديين إيجاد حلّ بإعطاء الحق لأبناء البنت والمحافظة في نفس الوقت على الميراث. (ينظر: العروي، عوائق التحديث، ط. 2006، ص. 57- 59).
بالمقابل، أضرب مثالا، يحتاج لحسم سواء باستحضاركم لمقصد الرحمة أو العدل، أو إحدى المقاصد الكلية، فعندما يموت رجل ما وقد أعقب وراءه "إناثا" وليس بينهن "ذكرا"، وترك لهن شقة يعشن فيها، فهل من الرحمة والعدل اليوم أن يأتي أحد أعمامهن ليفرض عليهن بيع الشقة لكي يأخذ نصيبه، مادام لا يوجد ولد ذكر يحجبه عن الميراث. وكم جرّ هذا من مآسي على كثير من البنات؟
طالبتم بالاجتهادات ! لدينا، بالنسبة للاجتهاد الأوّل من المغرب، فتاوى العرضونيين فيما يخص تعويض المرأة البدوية، ونخصّ منها، فتوى الفقيه أحمد ابن عرضون (ت. 992هـ/1584م) التي نصّت على أخذ المرأة النصف فيما عملته لزوجها (فضلا عن الثمن أو الربع) في حال توفي عنها زوجها، أو إذا حدث ما يوجب الطلاق وهو ما يسمى بحق "الشقا" لدى أهالي الجبال. خلص الأستاذ عمر الجيدي في عمله عن ابن عرضون إلى الآتي: "وهكذا دافع ابن عرضون عن المرأة البدوية، وأنصفها من حقوقها المشروعة، وهو بموقفه هذا ثار ضد التقاليد، ونادى بمبدأ المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات، تطبيقا لروح الشريعة الإسلامية، وبسبب موقفه هذا تألب عليه بعض الفقهاء الجامدين فشنعوا عليه فيما أفتى به، ولكن فتواه هذه صمدت في وجه المعترضين صمود الجبال، ولا زالت سارية المفعول حتى الآن، بعد أن مضى عليها أزيد من أربعة قرون" (عمر الجيدي، ابن عرضون الكبير: حياته وآثاره، آراؤه وفقهه، ط. 1987، ص. 207).
الاجتهاد الثاني، من تونس، متمثلا في آراء الطاهر الحداد (ت. 1935م)، الذي رأى بأن إسهام المرأة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية ندا للند مع الرجل يفتح الباب أمام المساواة بين الجنسين في الإرث، حيث قال في كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الصادرة طبعته الأولى سنة 1930، ما يأتي: "وفيما أرى فإن الإسلام في جوهره لا يمانع في تقرير هذه المساواة من كامل وجوهها متى انتهت أسباب التفوق وتوفرت الوسائل الموجبة (...) وليس هناك ما ينص أو يدل على أن ما وصل إليه التدريج في حياة النبي هو نهاية المأمول الذي ليس بعده نهاية، ما دام التدريج مرتبطا بما للمسائل المتدرج فيها من صعوبة يمكن دفعها عن قرب، أو عورة تستدعي تطور الأخلاق والاستعدادات بتطور الزمن؛ وفي الإسلام أمثلة واضحة من هذا القبيل" (الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع، ط. 2008، ص. 42).
ويمكنكم، في هذا الإطار، تعزيز كلام الطاهر الحداد بما جاء عند أخيكم سعد الدين العثماني، الذي رأى أن: "الاحتجاج بمجرد عدم إشراك المرأة في ميادين معينة في العصر النبوي على عدم جواز ذلك شرعا أو على تهميش دورها لا دليل فيه، لأننا نقول أليس سبب ذلك أن عُرْف الناس في زمن النبوة لا يسمح بأكثر من ذلك الحد من مشاركة النساء ومساهمتهن  في حياة مجتمعاتهن؟" (سعد الدين العثماني، قضية المرأة ونفسية الاستبداد، ط. 2004، ص. 36 - 37). والعثماني قرّر هنا ضمنيا "تاريخية" النصوص، وبأنها مرتبطة بسياقات معينة، إذ جاء في كلامه: "وربما يُداري الشرع عُرْف الناس حتى ينضج وعيهم ويرقى مستواهم الاجتماعي والحضاري، فيكونوا أكثر استعدادا لتقبل مبادئه في كمالها" (نفسه، ص. 45).
ختاما، لابد من تصحيح مغالطة، فالقول بأنكم ضد المساواة بين الرجل والمرأة في الإرث، بإطلاق دون تحديد، لا يستقيم مع وجود حالات ليست محل خلاف، يكون فيها نصيب المرأة مساوي لنصيب الرجل، كميراث الأبوين مع وجود الولد، بل، كما لاحظ الطاهر الحداد، فإن نصيب المرأة يفوق نصيب الرجل في بعض الأحيان، كما هو الحال بالنسبة لميراث الأبوين مع فقد الولد، كما في الآية: (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) (النساء/11).
ولعل ما أثير حول "الكلالة" وغموض معناها، يسير في هذا المنحى؛ إذ من المحتمل أنها كانت تتعلق بحالات تُمنح فيها المرأة نصيبا أكبر من الرجل، فقد أكّد أركون أن الالتفاف على معنى الكلالة، عائد إلى ضغط العرف القائم آنذاك، واستراتيجيات القوة والضبط الخاصة بمراقبة سريان الأرزاق في المجتمع، وصعوبة خلخلة النظام الاقتصادي والاجتماعي، إذ أن هذه الخلخلة كانت كفيلة بالإضرار بمصالح فئات معينة. (ينظر: محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، تج، هاشم صالح، ط. 1991، ص. 51 - 54).

طالبتم، يا رئيس الحكومة، باجتهادات، فآتيناكم ببعضها، فانظروا رأيكم. نرجو فقط أن يكون هناك نقاش مسؤول بين مختلف الفاعلين، دون الانزلاق إلى الحسابات الانتخابوية. وبه وجب الإعلام والسلام.
* نشر المقال في جريدة الأحداث المغربية يوم الثلاثاء 28 يوليوز 2015، العدد 5655

الزمزمي، النهاري، الفزازي: "سوق" الفتوى والدعوة، والتهافت على حطام الدنيا ، بقلم عبد الواحد بنعضرا*


الزمزمي، النهاري، الفزازي:
"سوق" الفتوى والدعوة، والتهافت على حطام الدنيا (1/4)
عبد الواحد بنعضرا
يحفظ الكثيرون عن ظهر قلب حديث: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" (البخاري، الحديث 54، وطرفه في الحديث 1 وغيرهما). من هذا المنطلق كان الأحرى بالفقهاء والدعاة أن يكونوا قدوة لغيرهم في الزهد في حُطام الدنيا، والمسارعة إلى فعل الخيرات، بيد أننا لاحظنا أنّ بعضهم أحرص الناس على "حياة". وسنكتفي في هذا المقال بثلاثة نماذج: الزمزمي، النهاري، الفزازي.
1ــ عبد الباري الزمزمي:
داعية لحزب العدالة والتنمية، سابقا، ومهموم بالبحث عن موارد العيش حاليا. كيف ذلك؟ جاء في أحد حواراته: "لم يسبق لي أن انتميت إلى أي حزب، فرغم أنني كنت أساند حزب العدالة والتنمية في بعض مواقفه، فإنني لم أكن منخرطا في أي حزب، إلى أن جاءت الحملة الانتخابية لسنة 2007 فعرض علي حزب النهضة والفضيلة الانضمام إليه، فدخلت اضطرارا، وكان الأمر يتعلق ببطاقة المرور من أجل المشاركة في الحملة الانتخابية" (الزمزمي، حوار مع صحيفة الناس، العدد 23، الاثنين 4 نونبر 2013). لماذا دخل الزمزمي مضطرا؟ ببساطة، كان الزمزمي حريصا على الوصول إلى البرلمان. ربما بغية تحسين موارد عيشه. على الأقل هذا ما نستشفه من طلبه الحصول على مأذونية؛ بعد أن فاته النجاح في الوصول مرة ثانية لقبة البرلمان: فقد برّر طلبه ذاك عند ردّه على المنتقدين بقوله: "المنتقدون لهذا العطاء لم يسألوا من قبل كيف أعيش؟ هل لدي مشاكل وأزمات مالية وظروف ضيقة وحرجة؟ لا أحد سألني هذا السؤال..." (الزمزمي، حوار مع جريدة أخبار اليوم، العدد 693، الاثنين 5 مارس 2012). ولماذا يسألونك؟ أنت اخترت أن تكون داعية فتحمّل مسؤوليتك. تُرى هل تلك الفتاوى الغريبة عن الاستمناء بالجزر ومضاجعة الأموات تدخل في باب إثارة الانتباه إليك بأنك مازلت حياً وعلى الآخرين التكفل برزقك؟ ألم تجد غير هذه الطريقة؟
  لا يتواني الزمزمي في تبرير "إسهال" الفتاوي الذي يعاني منه؛ مبرزا على أن: "المفتي من الواجب أن يجيب السائل على تساؤله (...) أن يجيب مهما كان السؤال" (الزمزمي، حوار مع جريدة الأحداث المغربية، العدد 5589، الاثنين 11 ماي 2015).  من هذا المنطلق فالزمزمي لا يتردّد في الإجابة عن كل الأسئلة عبر هاتفه / خطّه التلفوني "الساخن"؛ موضّحا: "إن معظم الفتاوى التي تصلني تكون عبارة عن اتصالات هاتفية، وهاتفي يكاد لا يتوقف عن الرّنين طوال اليوم، منذ الصباح إلى المساء، فهل أجيب أم أصمت؟ أنا أعتبر أن مسؤوليتي تجاه الدين تقتضي مني الإجابة عن كل التساؤلات التي تصلني. أجتهد وأقدّم فيها الإجابة استنادا إلى الشريعة الإسلامية" (الزمزمي، صحيفة الناس، العدد 23). بالله عليك، هل تعي ما تقول؟ لا ينقصك إلا وصلات إشهارية في القنوات المعلومة، وتستوفي الأمر من جميع جوانبه.
يا رجل، ألم تقرأ عن السلف وتهيُّبه من الفتوى؟ فقد ذكر أستاذكم القرضاوي أمثلة على ذلك قائلا: "وكان بعضهم يتوقف عن الفتوى فلا يجيب ويحيل إلى غيره، أو يقول: لا أدري. قال عتبة بن مسلم: صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا، فكان كثيرا ما يُسأل فيقول: لا أدري ! (...) وقال عمر بن الخطاب: أجرؤكم على الفُتيا أجرؤكم على النار. وقال ابن مسعود: والله إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون" (القرضاوي، الفتوى بين الانضباط والتسيب، 1992، ص. 21 – 22).
وبالعودة إلى سبب لجوئه لطلب المأذونية برّر الزمزمي ذلك بقوله: "لم أكن أتقاضى شيئا عن عملي باستثناء راتب تافه من وزارة الأوقاف لا يتجاوز ألف درهم، وهو لا يسمن ولا يغني من جوع".  وعندما سأله مستجوبه: قلت أنك لجأت إلى طلب "لاكريمة" من الملك لعدم توفرك على راتب قار، ألم يكن راتب المعاش من البرلمان يكفي؟ أجاب الزمزمي قائلا: "راتب المعاش بالبرلمان بالنسبة إلى من ترشح لدورة واحدة هو 5 آلاف درهم، أي ألف درهم عن كل سنة من مدة الولاية، لكن الولاية الأخيرة كانت معوقة أي لم تتجاوز مدته 4 سنوات أي 4 آلاف درهم تقتطع منها 600 درهم. فماذا ستكفي 3400 درهم لأسرة مثل أسرتي التي تتكون من 6 أنفس؟ إنها لا تغطي حتى 20 في المائة من حاجياتها اليومية. لذلك اضطررت إلى طلب هذا المطلب من الملك؟" (الزمزمي، صحيفة الناس).
نوّر الله بصيرتك يا شيخ، وزادك من فضله... لم نكن ندري أن الدنيا تفعل في الناس الأفاعيل ! ففيم، إذن، مطرقة الناس في مواعظكم بالحديث عن الآخرة، وعن ضرورة الزهد في الدنيا، وأن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأنها متاع زائل وأن الآخرة خير وأبقى، محاولين إلهاءهم عمّا يقُضّ مضاجعهم من مشاكل لا تعد ولا تحصى. وها أنتم منغمسون في هذه الحياة الدنيا وفي مشاكلها، بل الأسوء والأنكى أنكم سخّرتم الدين (الفتاوى)، من جهة، والسياسة (البرلمان)، من جهة أخرى في أغراض شخصية بحثة كيما تحصلوا على رزق / حطام من الدنيا زائل، وبئس العمل هو ! ولا يفوتني أن أذكّرك أن كثيرا من الذين تعظونهم بالانصراف عن الدنيا إلى الآخرة يكدّ طول النهار، وقد لا يحصل على ما تحصل عليه من معاش البرلمان، مع العلم أن هذا المعاش لا معنى له، فالمسؤولية البرلمانية ليست وظيفة لكي يكون للبرلمانيين تقاعد.

الزمزمي، النهاري، الفزازي:
نجوم "سوق" الفتوى والدعوة، والتهافت على حطام الدنيا (2/4)
عبد الواحد بنعضرا
2ــ عبد الله النهاري:
داعية آخر لحزب العدالة والتنمية، يسخّره الحزب كما يسخر غيره، للدعاية السياسية له تحت غطاء الدين؛ فهو عضو في حركة التوحيد والإصلاح، الجناح الدعوي لحزب العدالة والتنمية. في حوار له سأله مستجوبه: بحكم انتمائك إلى التوحيد والإصلاح هناك من يقول بأنك تستغل موقعك لدعم الحكومة الحالية؟ أجاب النهاري قائلا: "هذه الهيئات وسائل فقط ينتمي إليها الإنسان ليتعاون على الخير، ومن جملة الأهداف المسطرة في أوراقها التعاون مع الغير لخدمة هذا البلد، وليس دعم الحكومة بالمنطق البسيط الذي يعبّر عنه البعض أيضا" (عبد الله النهاري، حوار مع جريدة أخبار اليوم، العدد 1039، الأربعاء 17 أبريل 2013).
قلتَ كلمة كبيرة: خدمة هذا البلد !  شيء جميل، ولكن دعني أتساءل: هل يدخل في خدمة البلد عدم أدائك واجبك المهني، بل والتملص من مهنة التدريس؟ نقرأ للنهاري في حوار آخر: "لم أستقل من التعليم بسبب الإهمال من الناحية المادية، وإنما المسألة إيمانية وأخلاقية، حيث كنت أرى إنني لا أقوم بالواجب كما يحب الله ورسوله، فكنت أتمنى أن يخلصني الله من هذا العمل، وكنت أخشى أن تنالني دعوة مظلوم" (عبد الله النهاري، حوار مع جريدة أخبار اليوم، العدد 469، الاثنين 13 يونيو 2011).
الله أكبر ! أيّ خُلق ذاك، وأي ضمير ! كفيتَ ووفّيت. قلتَ أنك تخاف دعوة مظلوم، وأتساءل ألم تخْشَ دعوة "مظلوم" عندما شمت بسخرية في ضحايا بوركون في رمضان / يوليوز من السنة الماضية؟ قبل أن تعود لتلتف على كلامك موهما أنه قد وقع سوء فهم، حيث جاء في كلامك: "بالنسبة إليّ لا أعتبر ذلك خطأ، لكن إذا استشعر أحد الضحايا وعائلاتهم وعموم الشعب المغربي صاحب الفطرة النقية أني أخطأت، فليعذروا هذا العبد الضعيف" (النهاري، حوار مع جريدة أخبار اليوم، العدد 1424، الأربعاء 16 يوليوز 2014).
وتذكر حينها بما وصفك الزمزمي؛ نقرأ: "أكّد الشيخ عبد الباري الزمزمي أن خرجة النهاري لا يرددها العقلاء، مؤكدا أن النهاري يردّد كلام المعتوهين والمجانين ولا يجب الالتفات إليه (...) فكلام النهاري أشبه ما يكون بالتشفي، والحياة كلها مصائب وبؤس، يقول الزمزمي (...) مشيرا إلى أن الأخير [أي النهاري] ليس له علم أصلا وليس معدودا من العلماء، بل ترامى على عمل الدعاة والفقهاء، يضيف الزمزمي" (نقلا عن جريدة الأخبار، العدد 516، الخميس 17 يوليوز 2014).
وكلام الزمزمي الأخير هو مربط الفرس ! لماذا تحّول النهاري إلى داعية؟ لا يحتاج الجواب بذل مجهود كبير، يكفي أن نعرف ما كان يجمعه من حطام الدنيا في رحلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي كان يسبّها ذات يوم، وأوربا وما يجمعه هنا وهناك في شتى المناسبات مما يجود به "المؤمنون"، يطهّرون منه أموالهم ومشاريعهم ويبيّضون بها صفحتهم مع الله، فضلا عن الدور الدعائي لفائدة حزب العدالة والتنمية، ولا يغيب عن ذكاء القارئ أن ما يبدو ظاهريا نقداً للمسؤولين والحاكمين من قِبل النهاري ما هو، بالمقابل، إلا تبييض لصفحة حزب العدالة والتنمية سواء عندما كانوا في "المعارضة" أو عندما باتوا في الحكومة يواجهون "التماسيح والعفاريت" !
لقد واصل النهاري دأبه في عدم القيام بواجبه في عمله الجديد بعد أن غادر التعليم، حتى وصفه البعض بموظف شبح، في هذا الإطار ردّ النهاري قائلا: "هذا كلام لا أساس له من الصحة، أنا أحضر بمقر عملي باستمرار (...) وأريد أن أقول بأني أستقبل في عملي العشرات من المواطنين الذين يقصدونني للاستفسار عن بعض الأمور التي تخص شؤونهم الدينية أو الدنيوية، وهذا يدحض كل الادعاءات بكوني موظف شبح بهذه الإدارة، التي تحملت فيها مسؤولية رئيس مصلحة الشؤون الاقتصادية بحكم تكويني الذي نلتُ فيه الإجازة في الاقتصاد، وأيضا مسؤولية رئيس مصلحة التوثيق" (النهاري، أخبار اليوم، العدد 1039). أتساءل لو فعل كل واحد مثلك وحوّل مقر عمله إلى مجال للدعاية السياسية، أين سيصل الأمر: ألن تتعطل مصالح الناس؟ والأخطر من ذلك استغلالك لوظيفتك ومسؤوليتك للدعوة، ألا يعدّ قياما بحملات انتخابية سابقة لأوانها، بما أنك تقوم بالدعاية في كل وقت، لفائدة حزبك؛ حزب العدالة والتنمية؟
فوق هذا وذاك أنت مجاز في الاقتصاد مالك وللدعوة؟ ولنتصور كل صاحب اختصاص تحول عن اختصاصه لممارسة الدعوة ماذا سيقع؟ إهدار للطاقات وما أُنفق على سنوات التحصيل الدراسي. ولكن أمثال النهاري لا يحفلون بذلك، فهو مُيسّر للعب دورٍ محدّد. وها هو النهاري بكل جرأة أعلن عن رغبته في أن يتم تفريغه للدعوة: "أما الخرجات التي قمتُ بها، فإنما استجبت فيها لطلبات بعض الجمعيات المتواجدة في أوروبا، التي ينتمي إليها المسلمون من كل دول العالم، فأستجيب حسب الحاجة، وحسب ما تيسره الظروف لأنني موظف. فلو أنّني مُكّنت من إلحاقي من العمل الدعوي لكنت رهن إشارة كل المسلمين في كل العالم، حيث تأتيني يوميا دعوات من دول عديدة... فلو كنت ملحقا أو متفرغا، مثلما يحصل مع النقابيين، لخدمت ديني بطريقة أفضل" (النهاري، أخبار اليوم، العدد 469).
يا رجل ومن يكره العيش في راحة وعطالة ويتقاضى أموالا ويصير نجما، حسبه من ذلك الإتيان ببعض حركات وبعضٍ من صراخ ونطّ؟ ولكن أي صلافة هذه، ألك بسْطَة في العلم والجسم لم يؤتَها غيرك؟ أم تراك لك دالّة على الحكومة فتلبّي لك رغبتك دونا عن الآخرين؟ من أين أتتك كل هذه الثقة فتعلن رغبتك على الملأ، إلا إذا كنت قد استندت في ذلك على سوابق، في هذه الحكومة، وهذا نقاش آخر !

الزمزمي، النهاري، الفزازي:
نجوم "سوق" الفتوى والدعوة، والتهافت على حطام الدنيا (3/4)
عبد الواحد بنعضرا
محمد الفزازي:
آخر النماذج التي أتناولها في هذا المقال، هو رجل كان لوقت قريب يكفّر الديمقراطية؛ إذ اعتبر في أحد كتبه أن: "أعتى وأخطر مذاهب الكفر الأكبر في الزمن الحاضر: الديمقراطية، صنم العالم الجديد" (محمد الفزازي، الشورى المفترى عليها والديمقراطية، 1997، ص. 62). كما كان يكفّر كل ما يرتبط بها من عملية انتخابية وأحزاب؛ إذ أن: "الكفر هو الفكر المشترك بين هذه الأحزاب، وهو وقود المعترك فيما بينها، وهي تتنافس فيه وتتسابق به وعليه؛ منشرحة به صدورها، فرحة بما لديها" (محمد الفزازي، نفسه، ص. 30). ولأن الديمقراطية كذلك،  ــ فحسب الفزازي ــ : "يجب أن يُقاومها المسلمون أشدّ ما تكون المقاومة" (محمد الفزازي، نفسه، ص. 178 - 179).
هذا كان حال الفزازي بالأمس، أما اليوم فقد صار يسبّح بحمدها، ويرى فيها من المحاسن ما كان غائبا أو مغيّبا عنه في الماضي، حتى أنه شارك في استفتاء 2011، وبات يفكّر في تأسيس حزب، أو الانخراط في حزب العدالة والتنمية، حيث قال في أحد حواراته: "يمكن أن أنضم إلى صفوف حزب العدالة والتنمية إذا قَبِل بي، لأنني أجده الأقرب إلى قناعاتي، كما لا أختلف معه في توجهاته" (الفزازي، حوار مع جريدة أخبار اليوم، العدد 503، الجمعة 22 يوليوز 2011). هذا رغم أنه في محطة أخرى، جوابا عن سؤال لمجلة جون أفريك: هل عرضت عليكم بعض الأحزاب الانضمام إلى صفوفها؟ قال الفزازي: "أجل حزب العدالة والتنمية، وحزب النهضة والفضيلة، ولكنني لم أنخرط في أي من الحزبين حتى أحافظ على المسافة نفسها من جميع الأطراف" (الفزازي، حوار مع مجلة جون أفريك، نشرت ترجمته في جريدة أخبار اليوم، العدد 1343، السبت – الأحد 12 – 13 أبريل 2014). ولا ندري أي كلام الرجل أقرب للصواب !
القيام بالمراجعة شيء جميل، وهو فعلا كما قلتَ عمل محمود، وعندما يقوم به المرء فهو دليل على أنه أحس بخطأه: "كل من له أداء فكري أو منتوج علمي فهو مطالب بمراجعته وبالتراجع عنه إذا ما ظهر أنه كان خطأ، وبذلك، عندما يعلن المرء عن أخطائه، فإنه يتبرأ منها ويُعْلِم الناس أنه قد تراجع عن كذا أو كذا" (محمد الفزازي، حوار مع جريدة المساء، ح. 15، العدد 1501، الأربعاء 20 يوليوز 2011).
هذا لو تعلّق الأمر بشيء غير ما كنتم تدْعون إليه، إذ أن الرجوع عن الدعوة إلى الجهاد وتكفير الناس والدولة والأحزاب... لا يمرّ كما تمر فكرة بسيطة أو نظرية علمية، فقد تمرّ هذه دون أن يلقي لها أحد باله... أمّا تلك، فإنها تخلّف وراءها ضحايا، أولئك الذين صدّقوكم ذات يوم فكفروا بكل شيء، فمنهم من نحر و/أو انتحر، ومنهم من غادر إلى أفغانستان، في السابق وغيرها من المناطق حاليا، ومنهم من انقطع عن دراسته، بل ومنهم من ترك عمله، رغبة في الجهاد، ومنهم من خاصم أهله ورماهم بالكفر وصبّ عليهم اللعنات، ومنهم من خاصم الدنيا وعاش نابذا منبوذا، غريبا عن نفسه متنكّرا لواقعه مستلبا لزمن غير الزمن هيئة وفكراً، مَظهراً ومَخبراً... إنها أجيال ضاعت وضيّعها خطاب كخطابكم، والثمن باهظ جداً.
هذا فضلا عمّن اكتوى بنار هؤلاء فسقط قتيلا أو جريحا في العمليات الإرهابية.. وما عاناه أهل الضحايا من جرح نفسي، في هذا الصدد صرّحت سعاد البكدوري الخمال أرملة عبد الواحد الخمال وأم الطيب الخمال الذين سقطا ضحية تفجيرات 16 ماي 2003: "أن الحديث عن المصالحة وطي الملف، يجب ألا ينسيانا المأساة الإنسانية التي يعيش ويتخبط فيها العديد من ذوي ضحايا الإحداث الإرهابية الأليمة، والذين تتجدد معاناتهم وآلامهم باستمرار بسبب فقدان ذويهم الذين هم شهداء هذا البلد" (نقلا عن جريدة الأحداث المغربية، العدد 5285، السبت – الأحد 17 – 18 ماي 2014).
إنكم كنتم ترفعون عقيرتكم بتكفير كل شيء، وتخط يدكم تحريضا على من خالفوكم الرأي، وكنتم تصورون المغرب كماخور كبير، وهذا بعضٌ مما سودتم في الماضي فوق صفحات كتابكم النذير: "أليس الزنا الآن حلالاً طيبا ديمقراطيا في الفنادق، ومقدماته في الأزقة، وتكاد الفاحشة تمارس على قارعة الطريق لا فرق في ذلك بين محصن وغير محصن؟ كيف نسمي سلطات تحكم بكل شيء إلا بالإسلام؟ فلا رجم ولا جلد ولا تعزيز" (الفزازي، النذير: قراءة إسلامية لما سمي بمشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، ط. الأولى، 2000، ص. 8 – 9). ولعل من يقرأ كلامك هذا يحسب أنك كنت متبتلا منقطعا للعبادة، لا ترى فتاة ولا تأتي "الفاحشة" ! وأحسب أنك أكثر الناس معرفة أنه لو طُبّق الجلد والرجم، لكنت أكبر الخاسرين، ومع ذلك كنت تتباكي على عدم تطبيق الحدود !
ثم تناولت الخمر وغيرها، قائلا: "الخمر مثلا، هل ينازع في تحريمها مسلم؟ حتى الزنادقة لا يمارون فيها، إلا جدلا، ومع ذلك ها هي ذي تعصر وتسوّق وتمنح الرخص وفق القانون لكل من أراد فتح خمارة أو حانة لشربها في اطمئنان (...) والتبرج؟ بل والعري؟ ولا سيما صيفا في الشواطئ ــ رجالا ونساء ــ محارم وغير محارم، صغارا وكبارا من غير إنكار ولا نكير (...) ولا أريد الحديث عن الموسيقى والرقص والمسرح والسينما والرياضة، وهي مفارخ للفسق والمعصية، إنها قنوات يتسع فيها المجال للطعن في الدين بمناسبة وبغير مناسبة" (الفزازي، النذير، ص. 9 – 10).
بالنسبة للخمر، أحسب أنه يدخل في إطار مراجعتك؛ ففي معرض جواب عن سؤال: عدم تضمن البرنامج الحكومي لما يمنع مجموعة من الممارسات المحرمة شرعا من قبيل الربا وبيع الخمور والقمار؟ أجاب الفزازي: "من يدعو إلى ذلك يريد الفتنة بالأمة، وأنا أظن أن مهام العدالة والتنمية في الفترة الراهنة أكبر من كل ذلك، فالشعب لم يصوت عليه ليمنع الخمور مثلا، لأن الجميع يعرف بحرمة الخمر، وبالتالي فعلى كل واحد أن يقوم بالرقابة الذاتية على هذا المستوى لأن العدالة والتنمية لم يتم التصويت عليه ليلعب دور عمر بن الخطاب وأبو بكر الصديق" (الفزازي، حوار مع جريدة أخبار اليوم، العدد 658، الثلاثاء 24 يناير 2012). أتساءل تُرى هذا الجواب نابع من اقتناع وواقعية، أم لأن الحزب الذي يرأس الحكومة هو حزب العدالة والتنمية؟ من المفيد فعلا أن نرى أن الفزازي صار يفهم أن السياسة هي تدبير الشأن العام لا مجالا لنشر الدعوة، وهذه خطوة تجعل الفزازي مدافعا عن العلمانية، وهل العلمانية شيء آخر غير هذا الفصل؟ ! ولكن ما هو خطير في الأمر هو أن الفزازي كان يدعو في السابق لمنع الخمر كما رأينا أعلاه، بمعنى آخر فقد كان يثير الفتنة، وهو يعلم جزاء من أيقظ الفتنة !
أتساءل أي أزمة ضمير كنتَ تتركُها لدى المتلقي ولدى مريديك، وأنت تجعلهم يحسون بعقدة الذنب كأنهم المسؤولون عمّا وصفت من صور "الانحلال" وأن العقاب لا بد واقعٌ بهم، وهم يصدّقونك،  فأنت عندهم الصادق الأمين، الطاهر مظهرا ومخبرا؟ قبل أن يقوم أخوك؛ المقصود أحمد الفزازي، بخرجة في حوار مع أسبوعية الأيام، فذكر ما كنتَ عليه من انغماس في الموسيقى والغناء وحياة "الصعلكة" سواء في صغرك أو حتى بعد تعيينك كمعلم نواحي صفرو ورغم زواجك الأول فإنك واصلتَ حياة المجون، وبعبارة أخرى؛ كما ذكر أخوك أحمد: "أقول صراحة أن حياة أخي في تلك الفترة كانت حياة فسق ومجون وصعلكة إلى أن انتقل إلى المحمدية (شمال الدار البيضاء) أواسط السبعينيات فتم استقطابه من طرف جماعة متطرفة أظن أنها كانت تنتمي إلى مسجد النور بالدار البيضاء" (أحمد الفزازي، حوار مع أسبوعية الأيام، العدد 143، 15 – 21 يوليوز 2004).
قام محمد الفزازي بالردّ على أخيه، من خلال رسالة نشرتها "الأيام" لاحقا، فكان مما دافع به عن نفسه: "أما عن المجون والفسوق والفجور و... إلخ.. فالتوبة تجبّ ما قبلها، والإسلام يجبّ ما قبله، وأنا شخصيا كنتُ أحكي أحيانا بعض الوقائع الساقطة من سيرتي الذاتية خلال دعوتي إلى الله، طلبا للعبرة" (الفزازي، أسبوعية الأيام، العدد 149، 16 – 22 شتنبر 2004). لا أدري إن كان محمد الفزازي قد قام، فعلا في الماضي، بتوظيف بعض الحكايات من "سقطاته" من أجل الموعظة، ومتى؟ أم أن الأمر مجرّد استدراك بعد أن افتضح الأمر؟ غير أن أخاه أحمد قد وضعه بين أمرين أحلاهما مرّ؛ وهو الذي يدّعي أنه وقّاف عند النصوص، فإما أن يسكت ولا يرد وبالتالي صار في مرتبة "المنافق" إذ يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول، أو أن يكشف المخبوء وفي هذه الحال فهو يجاهر بما ستره الله، انطلاقا مما رواه البخاري عن أبي هريرة: "سمعت رسول الله (ص) يقول: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجَانة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول، يا فلان، عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويصبح يكشف ستر الله عنه" (البخاري، الحديث 6069).


الزمزمي، النهاري، الفزازي:
نجوم "سوق" الفتوى والدعوة، والتهافت على حطام الدنيا (4/4)
عبد الواحد بنعضرا
لقد أصبح الفزازي، اليوم، يحكي عن حياته السابقة بكل تفاصيلها، دون أن ينتبه إلى أنه يزيل عن نفسه صورة القدوة عند الشباب الذين يدعوهم، ويجعل خطابه متهافتا. ففيم الموعظة، إذن، ألا يترك لهم هم أيضا فرصة العيش كما يحلو لهم، ولعل الله يمنّ عليهم ب "التوبة" كما يفهمها الفزازي، أم أنه حلال عليكم حرام على العالمين ! فممّا ذكره: "كنتُ بعيدا عن الدين، إذ كنت مهتما بالسينما وشغوفا بالموسيقى العربية، وكان من بين النجوم المفضلين لدي هم: أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم واسمهان وفيروز، ومن المغاربة عبد الهادي بلخياط و[عبد الوهاب] الدكالي، وكنت أحب الغناء وكتابة القصائد الشعرية وكنت أحب الرسم، إذ كنت أرسم العديد من البورتريهات والمناظر الطبيعية" (محمد الفزازي، حوار مع جون أفريك). وماذا عن الفتيات؟ يقول الفزازي: "مثل سائر الشباب كنت أهتم بالفتيات، ولكنني كنت أتمتع ببعض المميزات من بينها الوسامة والذوق في استماع الأغاني وروح الدعابة" (محمد الفزازي، نفس الحوار). فكيف هان عليك أن تغرف وتعبّ من الحياة في ميْعة الصّبا وعنفوان الشباب؛ ثم تكفّر كل شيء في خطابك وتحرّم العلاقات وتتباكى أسفا على انتشار الزنا، وتحرّم الموسيقى والغناء...؟ أم أنك لا تريد أن يفوز باللذات غيرك؟
أما عن أخيه، فقد أمعن الفزازي في تكفير أخيه في رسالته تلك، مبّررا قيام والده بتوزيع تركته على إخوته في حياته؛ حيث ذكر في تلك الرسالة: "أبي قرّر في السنوات الأخيرة تقسيم تركته على ورثته حسب الشريعة الإسلامية تقسيما في شكل هِبة مسجلة ومحفّظة، وذلك بعد أن بلغ الثمانين تقريبا ودرءا لما يمكن أن ينشب من مشاجرات بين أبنائه من بعده. والأهم من هذا كله ألاّ يرث منه ولده أحمد هذا درهما واحدا، لأن ديننا يمنع التوارث بين ملتين. وهكذا قسمت التركة ولم يعط أخي إلا أصبع الوسطى. (معذرة للقراء الكرام)" (الفزازي، أسبوعية الأيام، العدد 149).
لن نتوقف كثيرا عند آخر كلام الفزازي فهو لا يليق بداعية، ولكن أتساءل هل يحق لأي كان أن يكفّر من كان، أوليس الفزازي نفسه هو القائل: "أنا ضد التكفير الذي يقوم به الأشخاص، لأن تكفير أي شخص هو من مهام المؤسسات الدينية في البلد، وخاصة المجلس الأعلى للعلماء والذي يترأسه الملك باعتباره أميرا للمؤمنين" (الفزازي، حوار مع مجلة جون أفريك). فبأي حق حُرم الأخ من نصيبه؟ وهل ستكون من باب المراجعة، إعطاء الأخ نصبيه أيضا، أم أنه عندما تكون المصلحة الشخصية والتهافت على حطام الدنيا، يتوقف الحديث عن النص إذا كان ظاهره يوحي بعكسها؟
يبدو أن الأمر كذلك، فكثير من الدعاة، يضعون "النص" جانبا إذا تعلّق الأمر، بتعطيل لمصالحهم الشخصية، فهذا الفزازي الذي تصدى للخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، قد ذكر حينها أن المرأة غير مسؤولة عن الإنفاق فهذه مهمة الرجل الأولى فهو البعل ولا فخر وهو القوّام بما أنفق ولا ضرر، أوضح الفزازي: "إن الإنفاق واجب على الرجل في حق المرأة نفسها ولو كانت غنية" (محمد الفزازي، النذير، ص. 65). ولكن تعالوا ننظر إلى الفزازي، كيف ينسى هذا الأمر؛ وقد كثر عياله ومصاريفه، نقرأ له متحدثا عن مصادر إنفاقه: "من راتبي كإمام، إضافة إلى تقاعدي كمدرس، والذي لا يتجاوز 3000 درهم. لحسن الحظ أن هناك التجارة ولعل الكثيرين لا يعلمون أنني كنت تاجرا كبيرا لزيت الزيتون، كما أنني أصبحت أشتغل في العقارات، كما أن زوجاتي من لهن راتبهن الشهري، ووالدي رجل غني ويساعدني إذا دعت الضرورة إلى ذلك" (محمد الفزازي، حوار مع جون أفريك).
نعم ! راتب زوجاته، الآن صار بإمكان المرأة أن تنفق ! ولكن ما قصة التجارة، والعقارات؟ يا رجل أهي دعوة أم تهافت على حطام الدنيا؟ أمّا أنك تاجر كبير؛ فهذا مما لا شك فيه، تاجرتَ في الماضي وتفعل أيضا اليوم؟ السؤال لفائدة من كانت تجارتك بالأمس ولمن اليوم؟ أتساءلُ هل هناك مفاجآت أخرى؟ فإني فعلا رأيت في كل هذا التاجر والمقبل على الدنيا العاض عليها بالنواجذ وما رأيت الداعية !
من مظاهر هذا التكالب والتهافت كثرة الزيجات، ونفهم لماذا جنّ جنونك، إبان الخطة، إذ لم يمرّ إلا قليل على زواجك الثاني ــ سنة 1998 ــ حتى رأيت البعض يدعو إلى منع التعدد فاستشطت غضبا وأرغيت وأزبدت؛ مؤكّدا: "طبعا، أنا هنا لست بصدد طرح فوائد تعدد الزوجات، ولا حتى المضار الجسيمة على كثير من النساء لو منع هذا التعدد (...) لنفترض أنكِ إحدى العوانس، وما أكثرهن (...) أتراكِ ترفضين زوجا ولو كان له ثلاث نسوة أخريات، على أن تبقي بدون بَعْل طيلة عمرك؟" (محمد الفزازي، النذير، ص. 47).
يحكي الفزازي عن زواجه الثالث: "وفي سنة 2012 وبعد خروجي من السجن تزوجت للمرة الثالثة بامرأة فلسطينية عمرها 34 سنة، التقيتها في القاهرة، وهي صحافية، وكانت تشتغل كمخرجة تلفزيون، وأنجبت منها طفلتين، وفي المجموع عائلتي تتكون من ثلاث زوجات و14 ابنا ولدي تسعة أحفاد" (محمد الفزازي، حوار مع جون أفريك).
وعن سؤال: هل زوجاتك الثلاث يعشن في البيت نفسه؟ أجاب الفزازي: "كل واحدة تعيش في بيت خاص بها وفي حي مختلف، أنا أعمل بمقولة فرّق تسد" (محمد الفزازي، نفس الحوار). ألا فلتعلم أن كثيرا من "المسلمين" غير قادر على زيجة واحدة، بله ثلاثة، فما بالك أن يوفر لكل امرأة منزلا خاصا بها ! هؤلاء الذين تظلون كل يوم تزهّدونهم في الحياة الدنيا وفي متاعها الزائل...
يا رجل أجبني بالله عليك ماذا استبقيت لآخرتك؟ ألم تقرأ وأنت الحريص على النص: ما جاء في القرآن: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) الآية. (سورة الأحقاف/ 20). ألم تقرأ الروايات، المصاحبة لتفسير هذه الآية، بغض النظر عن صحتها أو ضعفها، فإننا نخاطبكم بما تدّعون الوقوف عنده، ألست القائل: "لا اجتهاد في مورد النص" (الفزازي، النذير، ص. 37). وأن: "النص مقدس" (الفزازي، نفسه، ص. 20).
ألم تقرأ ما أورده الطبري من روايات في تفسيره بخصوص هذه الآية: "ذُكر أن عمر بن الخطاب كان يقول: لو شئت كنت أطيبكم طعاما، وألينكم لباسا، ولكني أستبقي طيباتي. وذُكر لنا أنه لما قدم الشام، صُنع له طعام لم ير قبله مثله، قال: هذا لنا، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهو لا يشبعون من خبز الشعير؟ قال خالد بن الوليد: لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر، وقال: لئن كان حظّنا في الحطام، وذهبوا (...) بالجنة، لقد بايَنُونا بونا بعيدا". وما رواه عن أبي هريرة: "إنما كان طعامنا مع النبي (ص) الأسودين: الماء والتمر" (الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء 26، ص. 21).
فلماذا، لا تقتدون بالرسول في صبره على المسغبة، أم أنكم لم تقرأوا: (لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا" (الأحزاب/21).
تُرى الاقتداء به يقتصر على ما تظنّونه سنة من تقصير الثياب، واستعمال الأرك، ووضع الكحل في العينين، وحف الشارب وإعفاء اللحي، وفي نفس الوقت استعمال أحدث ما يوجد من الوسائل التقنية وركوب السيارات الفاخرة أو ما ما لفّ لفها... حتى لو بات جارك جائعا، وباتت بطون الفقراء فارغة... وأنتم تزيّنون لها ملذات الجنة ونعيمها، وتربحون الأموال على ظهورهم.
لقد نجحت العولمة الرأسمالية في تسليع كل شيء، بما فيه الدين، فصار "الدين" يباع في أشرطة ثم أقراص، ومن خلال برامج في اليوتوب والقنوات الفضائية وما يرافقها من إشهارات لمختلف السلع، مقابل مبلغ وقدره يتقاضاه الداعية والمفتي... اقتصاد السوق هذا هو الذي خلق لنا ما يمكن أن يُطلق عليه: "سوق الفتوى" و"سوق الدعوة"، ولأن من القوانين الكلاسيكية للرأسمالية واقتصاد السوق هو المنافسة من أجل الهيمنة على السوق واحتكار الزبناء، فإن كل داعية ومفتي سيتهافت على احتكار السوق عبر إغراقه بسلعته / فتاواه، لذا لا غرابة أن نرى الإسهال في الفتاوى حتى تلك الأكثر غرابة، المهم تلبية حاجيات الناس من الفتوى، حسب قانون العرض والطلب، ولا ضير أن يتراجع المفتي بعد ذلك عن فتواه، المهم إغراق السوق بفتاويه، للحفاظ على زبنائه، لذا نجد الزمزمي، يبدي عدم الرغبة في العودة لبعض فتاويه الجنسية المثيرة كفتواه بجواز مضاجعة الرجل لجثة زوجته الميتة، قائلا: "هذه فتاوى مضى وقتها، ولا أريد العودة لإحيائها من جديد، لأنها لا تهم الرأي العام في شيء ولن تحصل منها الاستفادة حتى إذا أعدنا ذكرها، فهذه الفتاوى تم السؤال عنها في سياق معين، وكذلك جاءت الإجابة عنها في ظروف خاصة " (الزمزمي، حوار مع صحيفة الناس، العدد 23). فقد حققت الغاية في حينها وهي إثارة الانتباه، من جهة، وشغل الناس من جهة أخرى في قضايا تافهة.

نختم بالقول، إن التركيز على فساد الأخلاق لدى الناس، ومحاولة شيطنتهم ثم فرض الوصاية عليهم، لا يستقيم مع تهافت الدعاة وأصحاب الفتاوي على حطام الدنيا ــ كما بينا من خلال 3 نماذج ــ، والأحرى بهؤلاء أن يراقبوا أنفسهم فيما يصدرونه من فتاوي، تشعل نار فتنة لا تبقي ولا تذر، ولعلنا نرى في قابل الأيام "الإمساك" لدى بعضهم في إصدار الفتاوي بعد فترة "إسهال" طويلة. 
* نشر المقال في جريدة الأحداث المغربية
الجزء الأول الاثنين 13 يوليوز 2015، العدد 5643
الجزء الثاني الثلاثاء 14 يوليوز 2015، العدد 5644
الجزء الثالث الأربعاء 15 يوليوز 2015، العدد 5645
الجزء الرابع الاثنين 20 يوليوز 2015، العدد 5648

الأربعاء، 28 يناير 2015

فقه التخلف، بقلم عبد الواحد بنعضرا*

فقه التخلف
عبد الواحد بنعضرا

1-   ممارسة السلطة عبر الجنس: لا أعني بفقه التخلف، جمود الفقه وتخلفه، فقد سبق أن تحدثت عن هذا عند تناول فقه الأزمة (الأحداث المغربية 19 نونبر 2003) وقلتُ أن النص ثابت وبما هو كذلك فهو محدود وأقصى ما فعلوه هو التأويل ووضع الأحاديث، وكلاهما قد استنفذ نفسه، ففي الأزمة حيث تجتمع المتناقضات وحيث يتراوح المؤشر بين التقدم والتخلف، بين الحداثة والرجعية... يمكن لفقيه أن يأخذ رأيا بالتحريم حسب المرحلة، ويأخذ رأيا بالتحليل حسب مرحلة أخرى، وفقهاء الأزمة في هذا تياران فواحد تابع للنظام الحاكم يبرّر له قراراته، وتيار آخر أشد خطرا هو ذاك الذي يقوده يوسف القرضاوي ومن وراءه، حيث ينحنون للعاصفة حتى تمرّ وأعينهم على الهدف البعيد إقامة الدولة الدينية والعودة إلى الفتاوي التي يحنّون إليها كما يحنون إلى قطع الأيادي والأطراف من خلاف... وهو تيار له فروع في العالم وطبعا له أصحابه في المغرب أيضا...
أعني إذن أن كل ظرف ينتج فقهه، فالأزمة تنتج فقهها، والتخلف ينتج فقهه، كما أن التطور ينتج ثقافته التي من أول مبادئها حرية التعبير.
وأركّز هنا على أبرز فقهاء التخلف فقهاء السعودية والملحقين بهم، وكما أن لفقه الأزمة خصائصه، فكذلك فقه التخلف فمنها ما يشترك به مع الفقه الآخر وخاصة تزييف الوعي عبر اختزال كل شيء في الدين، بل إن فقه الأزمة يتقاطع مع فقه التخلف أحيانا إن صعودا وإن  نزولا ــ لو تحولت الدولة إلى تيوقراطية ــ. وسأتناول أهم خصائص هذا الفقه وأولها: "ممارسة السلطة عبر الجنس".
وإذا كان الحديث عن ممارسة السياسة في الدين ممكنا عند بعض الحركات المعارضة التي مرّت قديما، فإن الأمر يختلف اختلافا كليا بالنسبة لفقهاء التخلف في السعودية، ولا يجهل أحد هذه الحرب الضروس التي يشنها هؤلاء الفقهاء بلا هوادة على كل ما يرتبط بالمرأة. ومن المعروف أن أي حركة إصلاحية تريد التغيير تبدأ أول ما تبدأ بالحديث عن الحريات وخاصة فيما يتعلق بوضعية المرأة، ووأْداً لهذه المحاولات في مهدها لجأ ويلجأ فقهاء السعودية إلى اختزال المرأة في موضوع جنسي، وجعل كل ما يرتبط بالتغيير مجرد وسائل للإباحية والرذيلة وغرضا جنسيا، وسيرددون ما نطق به ابن القيم عن الغناء بأنه رقية اللواط والزنا وسيركبون على الموضوع الجنسي (المرأة/ الغناء/...) لمحاربة أهم وسيلة للتعبير، وهي الإعلام، وهكذا سنجد مثل هذه الفتاوى:
"ما دام التلفزيون اليوم يرمي في أكثر برامجه إلى إهدار الشرف، ويوجه نحو الفساد والإباحية، ويشجع على السفور والاختلاط فإن اقتناءه، والاستماع إلى برامجه، والنظر إلى مشاهده، يُعد من أكبر الحرام، وأعظم الإثم" (عبد الله ناصح علوان، حكم الإسلام في وسائل الإعلام، دار السلام، ط. السادسة، 1986، ص. 9).
"وباعتبار أن الاستماع إلى الموسيقى والمعازف محرم بالنص (...) لهذه الاعتبارات كلها كان اقتناء الجهاز التلفزيوني محرما لما يصاحب هذه البرامج الترفيهية من معازف وموسيقى، وغناء ماجن، ورقصات فاجرة، كان النظر لهذه البرامج محرما كذلك لما لها من خطر في تقويض دعائم التربية والأخلاق" (نفسه، ص. 10-11).
وللصحافة طبعا نصيب: "... بل أصبحنا نسمع عن مجلات ليس لها من غاية سوى الدعوة إلى الإباحية الفاجرة، والوجودية الداعرة، والإلحادية الكافرة... حتى ينزلق الشباب والشابات في متاهات الرذيلة ويتخبطوا في أوحال الفاحشة، ويسقطوا في مهاوى الإلحاد. ومن وراء هذه الصحف قيادات يهودية وماسونية واستعمارية وشيوعية وصليبية" (نفسه، ص. 32).
وطبعا لا يوجد شيء اسمه فن أو تمثيل ، وإن وُجد فبهذه الشروط: "ألا يظهر في التمثيل نساء ورجال، أو نساء يراهن رجال، لكون الإسلام يحرّم السفور والاختلاط والخلوة بالمرأة الأجنبية والنظر إليها..." (نفسه، ص. 47).
يتحول كل شيء إلى موضوع جنسي تجب محاربة من يدعون إليه. يمارس الأمراء إذن سلطتهم بواسطة الفقهاء عن طريق الجنس، وللمفارقة، هذا في الوقت الذي لا يُسمعُ لهؤلاء الفقهاء همس، ولا يشير لهم بنان وتنبس لهم شفة إلى ما يفعله أمراؤهم من فضائح في أوروبا وغيرها، ويسكتون عمن بلغ إسرافهم ملايين الدولارات في ليالي القمار وفيما يعرفه الجميع.
بينما تجد صوتهم مرتفعا في أمور لا تعيد حقوقا لأحد، ولا تنصف مظلوما ولا مهضوما، ويصبح أي كلام عن حقوق الإنسان والحريات وتوزيع الثروات عبثا، ويصل بهم الأمر إلى إخراج فتاوي إن لم تكن هي الإرهاب، فماذا يمكن أن نسمي الإرهاب، انظر مثلا فتوى ابن العثيمين حول من له أهل لا يصلّون:
"إذا كان هؤلاء الأهل لا يصلّون أبدا فإنهم كفار، مرتدون، خارجون عن الإسلام ولا يجوز أن يسكن معهم ولكن يجب عليه أن يدعوهم ويلح عليهم ويكرر لعل الله يهديهم لأن تارك الصلاة كافر والعياذ بالله" (أسئلة مهمة، ط. الثانية، 1407هـ، ص. 11).
ويترتب عن هذا الحكم أمور منها حسب ابن العثيمين: "أنه [تارك الصلاة] إذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين، فماذا نصنع به؟ نخرج به إلى الصحراء ونحفر له وندفنه بثيابه لأنه لا حرمة له" (نفسه، ص. 13).
أعلم عزيزي القارئ أن عينيك جاحظتان لا تغادران إلا بصعوبة هذا الكلام، فكيف يسكت الأمراء على مثل هذه الأفكار الملغمة، وعلى فقهاء لا ينتجون أي شيء، ويعيشون في عطالة فكرية دائمة، ولا يقف الأمر بأنهم لا نفع لهم، بل إن ضررهم كان بالغا وهم يصنعون ويخلقون قنابل بشرية، فيغدق عليهم الأمراء بأغلفة مالية كبيرة، وبإنعامات عديدة، ولكنه المثل البدوي الذي يحفظونه جميعا أمراء وفقهاء، والذي يقول اشهد لي بعنزة أشهد لك بجمل، وقد شهد الأمراء للفقهاء بعنزة فشهدوا لهم بجمل في سنامه بترول.

2-   الأخذ بأشد الآراء بداوة: هكذا يشتغل فقهاء السعودية ويشغلون الناس في فتاوي لا طائل وراءها سوى هدر الطاقة وجر الجميع إلى معارك وهمية من قبيل إسبال الإزار وحف الشارب وإعفاء اللحي، و "النهي عن تصوير ما فيه روح في الثياب والجدران والورق وغيرها، سواء كان مرسوما أو مطبوعا أو محفورا أو منقوشا أو مصبوغا بقوالب ونحو ذلك، وإن كان لابد فاعل فليصنع الشجر وما لا روح فيه" (محمد صالح المنجد، التنبيهات الجلية على كثير من المنهيات الشرعية، دار القاسم، الرياض، 1419هـ، ص. 23).
كذلك من الأمور "الهامة": "النهي عن الاستنجاء بالعظم، لأنه زاد إخواننا من الجن وعن الاستنجاء بالروث لأنه علف لدوابهم" (نفسه، ص. 10).
من يقرأ مثل هذا الكلام، ويرى أيضا معركتهم العظيمة "معركة الذباب" حيث يروون عن أبي هريرة أنه إذا سقطت ذبابة في إناء فيجب غمسها جيدا قبل شرب ما فيه، وإذا سقطت فأرة في السمن فحسب أبي هريرة أيضا إذا كان السمن جامدا طُرِح محل سقوط الفأرة واكل الباقي، قلتُ من ينظر إلى كل هذا سيظن أن العرب قد خرجوا للتو من كهف أشد إظلاما من الليلة الظلماء ما زالوا في صراع مع الهوام والقمل، وأدواتهم بدائية: حجر وعظم.
هذا، إذن، مجتمع البداوة والصحراء ينطق، وتأمل هذا الكلام: "النهي عن النوم في بطن الوادي ومجرى السيل" (نفسه، ص. 26). أرأيت؟ فقه بدوي غارق في البداوة، وإذا كان المقصود بهذا الكلام من لا يجد مأوى أو دارا ينام فيها ويحتمي بها، فأعتقد أن الذي يصل به الأمر إلى هذا الحد فإنه لا ينتظر مثل هذه الفتوى، بل يترقب شيئا آخر، وسيأتيه الرد، ولكنه بشيء آخر: انظر: "والنهي أن ينظر الإنسان إلى من هو فوقه في أمور الدنيا، بل ينظر إلى من هو أسفل منه حتى يعرف نعمة الله عليه فلا يزدريها" (نفسه، ص. 30).
فطوبى لأمرائهم بطول تمتع بدون حسيب ولا رقيب. هذا ومن منا لا يذكر تلك الفتوى العلمية البدوية التي أصدرها ابن باز تحت عنوان: " الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب وعلى جريان الشمس والقمر وسكون الأرض"، ومما جاء فيها: "فلقد "فلقد شاع بين كثير من الكتاب والمؤلفين والمدرّسين في هذا العصر أن الأرض تدور، والشمس ثابتة، وراج هذا على كثير من الألسن، وكثر السؤال عنه، فرأيت من الواجب أن أكتب في هذا كلمة موجزة ترشد القارئ إلى أدلة بطلان هذا القول ومعرفة الحق في هذه المسألة، فأقول قد دلّ القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وإجماع علماء الإسلام، والواقع المشاهد على أن الشمس جارية في فلكها كما سخرها الله سبحانه وتعالى، وأن الأرض ثابتة قارة قد بسطها الله لعباده وجعلها لهم فراشا ومهدا وأرساها لئلا تميد بهم..." (مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، ط. الثانية، 1402هـ، ص. 21).

3-   حدثني عبد الجبار نيازي قال: مرت دبابة وأنا أرى على مجاهد اسمه (غلام محيي الدين) وبقي حيامن الخصائص الأخرى التي يتميز بها فقه التخلف هو الإغراق في الخرافة، فإضافة إلى ما يشترك به مع فقه الأزمة من أمور المسيح الدجال وحوارات مع الجن والمهدي المنتظر، هناك أشياء أخرى مثلا: "النهي عن إخراج الصبيان خارج البيت عند غروب الشمس حتى يشتد السواد لأنها ساعة تنتشر فيها الشياطين" (محمد صالح المنجد، م.س، ص. 31).
والنهي "عن ترك اللقمة إذا سقطت، بل يزيل عنها الأذى ولا يدعها للشيطان" (نفسه، ص. 25).
ومن الملحقين بفقهاء السعودية نجد أحدهم يسمى الدكتور عبد الله عزام، يؤلف كتابا اسمه "آيات الرحمان في جهاد الأفغان" فماذا نجد في هذا الكتاب/الأكتوبة؟ أشياء تستغرب كيف تجد لها في هذا الزمن موضع قدم ومكانا تحت الشمس، وحتى لا أطيل على القارئ العزيز أقتبس منه بعض فقرات فهو مليء بهذه الفقرات وأكثر، فمما جاء فيه: "حدثني جلال حقاني: أعطيت مجاهدا يضع رصاصات ونزل المعركة وأطلق رصاصا كثيرا ولم تنقص الرصاصات وعاد بها" (الناشر المجتمع، جدة، ط. الخامسة، 1985، ص. 108).
"حدثني عمر حنيف قال: لقد جاءت الأفاعي مرارا تبيت مع المجاهدين في فراشهم ومنذ أربع سنوات لم تلدغ أفعى مجاهدا على كثرتها" (نفسه، ص. 110).
وفي مكان آخر: "حدثني عبد المنان فقال: كنا ثلاثة آلاف مجاهد في مركزنا فجاءت الطائرات وألقت علينا ثلاثمائة قذيفة نابالم فلم تنفجر ولا واحدة ونقلناها جميعا إلى كؤته (بلد باكستاني فيه مجاهدون)" (نفسه، ص. 111).
"حدثني جلال الدين: لقد رأيت الكثير من المجاهدين معي يخرجون من المعركة وألبستهم مخرقة من الرصاص ولكن لم يدخل جسدهم رصاصة واحدة" (نفسه، 111).
أما الذين يموتون منهم ــ لا أعرف كيف يموتون والرصاص لا يخترق أجسادهم ــ فإن هؤلاء الشهداء لا تتغير جثثهم، بل تنبعث منهم رائحة طيبة: "حدثني محمد شيرين: استشهد معنا أربعة مجاهدين في مكان اسمه بوت وردك. وبعد أربعة أشهر وجدنا لهم رائحة عطرية كالمسك تنبعث منهم" (نفسه، ص. 125).
وهكذا الكتاب/الأكتوبة شأنه شأن باقي الأفكار البدائية التي يصدرها فقه التخلف لغاية في نفس الأمراء من جهة، وفي نفس من لا يريد لهذه الشعوب أن تفيق من نومها العميق.
ومثل هذه الكتب يتأسف عليها أولئك الذين أعرفهم وتعرفهم عزيزي القارئ أنها كانت غائبة عن معرض الكتاب الأخير. وعندما تسمع إقبالا على "الكتب الدينية" فقد عرفت عبر هذا المقال عينة منها، وتعلم لماذا يتأسفون أن حضرت دار نشر واحدة سعودية إلى جانب الجناح السعودي الرسمي !!! فهم لا يكفيهم إلا أن تغرق البلاد في هذا المستنقع الآسن، ولتعلم أنه لا فرق بين فقه الأزمة وفقه التخلف إلا من حيث المرحلة أي الدرجة أما في العمق فإنه فكر يصدر عن منبع واحد، ولذا لا تستغرب أن ترى فتاوى فقهاء التخلف تنتشر في الكويت ومصر، والمغرب... ولتصبح المعركة أكبر من معركة الذباب إنها اليوم ملحمة الذباب والحجاب.


* نشر بجريدة الأحداث المغربية عدد الأربعاء 3 مارس 2004