في اللغة.. أصحاب التجديد والحجاب كمثال
عبد الواحد بنعضرا
العرب لم يتكلموا بعد، هكذا قال أدونيس في "زمن
الشعر"، بيد أن الشارع العربي لا يماثله شيء في كثرة الكلام. هناك لغتان لغة
يتكلمها الناس، ولغة ــ هي التي ــ تتكلم الناس، اللغة أصوات والصوت عندما يخرج يظل
منتشرا في الآفاق، تماما مثلما نرى الآن نجوما ونحن في حقيقة الأمر نرى ضوءها الذي
أرسلته منذ ملايين السنين الضوئية، فكما يجد ضوء النجوم أعينا يسكنها، تسكن اللغة/الصوت
أجسادا وأبدانا. لا تناقض بين قول أدونيس وبين الواقع. عندما تنظر إلى مجموعة من
الناس في مقهى أو ناد أو أي ملتقى تجدهم "يتكلمون" كثيرا ثم يخرجون حتى
لو لم يجيبوا على الأسئلة، حتى ولو لم يجدوا حلولا، وقد ينسون ما كانوا يتحدثون به
من ذي قبل. إنهم يتنفسون فقط، أي يتخلصون من هذا الكلام (اللغة/الهمّ)، وكأن هذه
المشاكل ليست مشاكلهم ولا الأمور أمورهم، هي مشاكل وأمور هذه اللغة التي تسكنهم،
تصير اللغة هنا لغوا، أي ليست ذات معنى. كثير من العرب إذن تتكلمهم وتخلقهم لغة
ما، ومن هؤلاء أصحاب "التجديد والحجاب". بيد أن لغتهم لغة خاصة، ولدت ما
قبل الإسلام وأخذت قناعاتها من زمن الفتنة إلى زمن التدوين (القرن 2هـ)، واللغة
كائن يولد ويكبر، وعندما يبلغ من الكبر عتيا يصعب أن يتم تغيير قناعاته، يصير
مكتملا منغلقا على نفسه، حتى وإن بدا أحيانا غير ذلك. إنها لغة آتية من بعيد تفتّش
عن ضحاياها، تسكن هذه اللغة أصحابها ولا تفارقهم إلا لتعود إليهم مثلما يسكن الجن
ــ كما تصور كتبهم الصفراء ــ إنسانا ما.
إنهم
لم يستفيدوا من الميثولوجيا القديمة لتصوير وتخيل كيف يسكن الجن الإنسان بقدر ما
يصورون ويبرزون، وبحق، معاناتهم مع هذه اللغة التي تسكنهم، وتُقوّلهم ما لم يرغبوا
في قوله مثلا، أو بالأصح أن اللغة تبرز معاناتهم مع الجسد الذي تسكنه، اللغة في
واد والجسد الذي تسكنه في واد.
شيء
مثل هذا تنبه له العرب وكانوا يعتقدون أن الشاعر ينطق بما يوحي إليه الجن الذي
يسكنه، فكان صاحب عبيد بن الأبرص هو هبيد بن الصلادم، وكانوا يقولون لولا هبيد ما
كان عبيد، وكان صاحب امرئ القيس هو لافظ بن لاحظ. الشاعر مسكون بلغة ما. عندما
تريد لغتهم إبراز معاناتها مع الجسد لا ليس لها إلا قديما تعبّر به عن ذلك.
تتكلم اللغة هنا عبر وسيط هو الإنسان. وإذا نظرت إلى
البوق كيف يخرج منه الصوت تكون قد حدّقت في صورة هؤلاء الذين تسكنهم هذه اللغة
تماما مثل هذا البوق. لذا تجد صوتهم مرتفعا في أمور وتجده خفيضا أو منعدما في أمور
ذات بال.
ولو
كان هؤلاء هم الذين يتكلمون اللغة لما انفعلوا عندما يسمعون كلاما مخالفا، أليسوا
هم الذين أنتجوا واخترعوا هذه اللغة أي هم مالكوها. هنا من الممكن أن يغيروها إذا
اقتنعوا بأنها مخطئة ولحاوروا بدون انفعال، بيد أن العكس هو الذي يحصل، ما إن يبدأ
مخالفهم بالحجج حتى يظهر العنف اللغوي، وهذا يعني أن الذي ينفعل ليسوا هم بل اللغة
التي تسكنهم حتى لا تترك لهم فرصة التخلص منها، تحوّل التحاور إلى تناحر، تخشى أن
يظهر أمرها، تماما مثلما يفعل الجن ــ كما يصورون ــ حينما يهمّون بإخراجه إذ يبدأ
بالصراخ والصياح..
تجد لغة مصطفى الرميد وهو يخطب في يوم الجمعة (13 مارس
1981) بالحي الجامعي بطريق الجديدة، تقول: "ويبقى أن كل فتاة لم تلتزم بزي
الإسلام اعتقادا منها بعدم وجوبه عليها، وتطعن في شرعيته، وتعتقد فيه ازدراء لها،
فهي كافرة لا حظّ لها في الإسلام، أما تلك التي ترتديه تهاونا وتكاسلا، فهي فاسقة
عاصية" (نقلاعن: عبد الرحيم أقوام، إلى كل أخت متحجبة، المكتبة السلفية،
البيضاء، ودار البشير، القاهرة، 1993، ص. 84).
وتجد
فقيههم عبد الباري الزمزمي في كتابه "الجهاد الكبير في مواجهة خطة الإباحية
والتغريب"، تقول لغته التي تسكنه: "لكن الخطة التي طرحها بعض العلمانيين
الزنادقة تريد أن تجرّ المغرب إلى الخط العلماني حتى يسلك مسلك تونس وينتمي إلى خط
الشذوذ..." (منشورات جمعية الرحمة للتنمية الاجتماعية، ط. الأولى، 2001، ص.
134).
وتقول
لغته في مهرجان خطابي: "ونحن نقارن بين مسيرتنا ومسيرتهم التي هي مسيرة الزيغ
والإلحاد (...) ونحن نرجو ونطلب من علماء الرباط أن يوجهوا نداء إلى المسلمين سكان
الرباط كي يقاطعوا المسيرة الإلحادية، وأن يقاوموها، وأن لا يسمح رب اسرة لفتاته
أو ولده أن يشارك القوم في زندقتهم وزيغهم..." (نفسه، ص. 202 – 203).
ترى هل
كانت أحداث 16 ماي من نوع هذا الجهاد الكبير؟ أقول هذا، ولا أظنها مصادفة أن تنبت جماعات
كالفطر (السلفية الجهادية، الصراط المستقيم...) تزامنا مع عرض خطة إدماج المرأة في
التنمية !!
للغتهم
هذه آلياتها، أي ما تحمله معها من قديم مثل "التقية" فهي في بنيتها منذ
أخذ بها محمد الباقر وابنه جعفر الصادق، قد تغير لغتهم من حدّة خطابها لظروف
المرحلة ولكن إلى حين، كل شيء على حاله في العمق لا تغير حتى لو مرّت السنون. في
حوار له مع جريدة الأيام، يوضح مصطفى الرميد حول تصريح له لوكالة "أسوسييتد
بريس" أنه عندما سأله الصحفي حول نيتهم إلى السعي في تطبيق الجانب العقابي في
الشريعة، نطقت لغته بما يلي: "فأوضحت له أن الشريعة بها نصوص واضحة بهذا
الشأن، غير أنه من الواجب أن يتم استيفاء شروط تطبيق هذه النصوص بالعقاب، فطلب
مثلا، فأعطيته مثالا قطع يد السارق، حيث لا يمكننا قطع يد السارق إلا إذا أهّلنا
المجتمع دينيا واقتصاديا واجتماعيا.." (جريدة الأيام، 17 – 23 اكتوبر 2002،
العدد 56).
لا
يغرنك الحديث عن شروط التطبيق، ما هذا إلا باب من أبواب التقية، ولو كان الأمر
بيدهم لما تأخروا في ذلك، وسيطبّلون كما طبّلوا لنميري حين فعلها في السودان في 83
– 1984، وياله من دخول إذن إلى زمن العولمة، ولو كان لهم الأمر، إذن لدخلنا
العولمة من أوسع أبوابها بأياد مقطوعة وأطراف مقطّعة من خلاف وظهور مجلودة وعيون
مفقوءة.
هل يعني إذن الحديث عن لغة تسكنهم، أنهم لا يتحملون أية
مسؤولية؟ عندما لا يتكلم إنسان لغة ولا ينتجها يبحث عن أن يكون ناطقا حتى بواسطة
لغة ليست له، لا يريد أن يظل أبكم، إذن هناك شبه اتفاق وتواطؤ بينه وبين اللغة
التي تسكنه.
لذا
نقول مجازا "قال فلان منهم"، لا لأن هذا مما جرت به العادة، ولكن لأنه
بقدر ما تبحث اللغة عنهم هناك رضى منهم لكي لا يظلوا بدون نطق.
عندما
يأتي سائح إلى مدينة الدار البيضاء، ويرى ما يوجد فيها وهي "البيضاء" من
نقاب وحجاب ولباس أفغاني سيعتقد أنه أخطأ وحطّ الرحال بقندهار، ونتأكد نحن أيضا أن
عدد الأبواق قد كبر بيننا.
أتساءل
هل نريد للأجيال القادمة أن يكونوا مجرّد لغة/لغو أم متكلمين.
* نشر
المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الأربعاء 18 فبراير 2004