الخميس، 4 سبتمبر 2014

في اللغة.. أصحاب التجديد والحجاب كمثال، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



في اللغة.. أصحاب التجديد والحجاب كمثال
عبد الواحد بنعضرا
العرب لم يتكلموا بعد، هكذا قال أدونيس في "زمن الشعر"، بيد أن الشارع العربي لا يماثله شيء في كثرة الكلام. هناك لغتان لغة يتكلمها الناس، ولغة ــ هي التي ــ تتكلم الناس، اللغة أصوات والصوت عندما يخرج يظل منتشرا في الآفاق، تماما مثلما نرى الآن نجوما ونحن في حقيقة الأمر نرى ضوءها الذي أرسلته منذ ملايين السنين الضوئية، فكما يجد ضوء النجوم أعينا يسكنها، تسكن اللغة/الصوت أجسادا وأبدانا. لا تناقض بين قول أدونيس وبين الواقع. عندما تنظر إلى مجموعة من الناس في مقهى أو ناد أو أي ملتقى تجدهم "يتكلمون" كثيرا ثم يخرجون حتى لو لم يجيبوا على الأسئلة، حتى ولو لم يجدوا حلولا، وقد ينسون ما كانوا يتحدثون به من ذي قبل. إنهم يتنفسون فقط، أي يتخلصون من هذا الكلام (اللغة/الهمّ)، وكأن هذه المشاكل ليست مشاكلهم ولا الأمور أمورهم، هي مشاكل وأمور هذه اللغة التي تسكنهم، تصير اللغة هنا لغوا، أي ليست ذات معنى. كثير من العرب إذن تتكلمهم وتخلقهم لغة ما، ومن هؤلاء أصحاب "التجديد والحجاب". بيد أن لغتهم لغة خاصة، ولدت ما قبل الإسلام وأخذت قناعاتها من زمن الفتنة إلى زمن التدوين (القرن 2هـ)، واللغة كائن يولد ويكبر، وعندما يبلغ من الكبر عتيا يصعب أن يتم تغيير قناعاته، يصير مكتملا منغلقا على نفسه، حتى وإن بدا أحيانا غير ذلك. إنها لغة آتية من بعيد تفتّش عن ضحاياها، تسكن هذه اللغة أصحابها ولا تفارقهم إلا لتعود إليهم مثلما يسكن الجن ــ كما تصور كتبهم الصفراء ــ إنسانا ما.
إنهم لم يستفيدوا من الميثولوجيا القديمة لتصوير وتخيل كيف يسكن الجن الإنسان بقدر ما يصورون ويبرزون، وبحق، معاناتهم مع هذه اللغة التي تسكنهم، وتُقوّلهم ما لم يرغبوا في قوله مثلا، أو بالأصح أن اللغة تبرز معاناتهم مع الجسد الذي تسكنه، اللغة في واد والجسد الذي تسكنه في واد.
شيء مثل هذا تنبه له العرب وكانوا يعتقدون أن الشاعر ينطق بما يوحي إليه الجن الذي يسكنه، فكان صاحب عبيد بن الأبرص هو هبيد بن الصلادم، وكانوا يقولون لولا هبيد ما كان عبيد، وكان صاحب امرئ القيس هو لافظ بن لاحظ. الشاعر مسكون بلغة ما. عندما تريد لغتهم إبراز معاناتها مع الجسد لا ليس لها إلا قديما تعبّر به عن ذلك.
تتكلم اللغة هنا عبر وسيط هو الإنسان. وإذا نظرت إلى البوق كيف يخرج منه الصوت تكون قد حدّقت في صورة هؤلاء الذين تسكنهم هذه اللغة تماما مثل هذا البوق. لذا تجد صوتهم مرتفعا في أمور وتجده خفيضا أو منعدما في أمور ذات بال.
ولو كان هؤلاء هم الذين يتكلمون اللغة لما انفعلوا عندما يسمعون كلاما مخالفا، أليسوا هم الذين أنتجوا واخترعوا هذه اللغة أي هم مالكوها. هنا من الممكن أن يغيروها إذا اقتنعوا بأنها مخطئة ولحاوروا بدون انفعال، بيد أن العكس هو الذي يحصل، ما إن يبدأ مخالفهم بالحجج حتى يظهر العنف اللغوي، وهذا يعني أن الذي ينفعل ليسوا هم بل اللغة التي تسكنهم حتى لا تترك لهم فرصة التخلص منها، تحوّل التحاور إلى تناحر، تخشى أن يظهر أمرها، تماما مثلما يفعل الجن ــ كما يصورون ــ حينما يهمّون بإخراجه إذ يبدأ بالصراخ والصياح..
تجد لغة مصطفى الرميد وهو يخطب في يوم الجمعة (13 مارس 1981) بالحي الجامعي بطريق الجديدة، تقول: "ويبقى أن كل فتاة لم تلتزم بزي الإسلام اعتقادا منها بعدم وجوبه عليها، وتطعن في شرعيته، وتعتقد فيه ازدراء لها، فهي كافرة لا حظّ لها في الإسلام، أما تلك التي ترتديه تهاونا وتكاسلا، فهي فاسقة عاصية" (نقلاعن: عبد الرحيم أقوام، إلى كل أخت متحجبة، المكتبة السلفية، البيضاء، ودار البشير، القاهرة، 1993، ص. 84).
وتجد فقيههم عبد الباري الزمزمي في كتابه "الجهاد الكبير في مواجهة خطة الإباحية والتغريب"، تقول لغته التي تسكنه: "لكن الخطة التي طرحها بعض العلمانيين الزنادقة تريد أن تجرّ المغرب إلى الخط العلماني حتى يسلك مسلك تونس وينتمي إلى خط الشذوذ..." (منشورات جمعية الرحمة للتنمية الاجتماعية، ط. الأولى، 2001، ص. 134).
وتقول لغته في مهرجان خطابي: "ونحن نقارن بين مسيرتنا ومسيرتهم التي هي مسيرة الزيغ والإلحاد (...) ونحن نرجو ونطلب من علماء الرباط أن يوجهوا نداء إلى المسلمين سكان الرباط كي يقاطعوا المسيرة الإلحادية، وأن يقاوموها، وأن لا يسمح رب اسرة لفتاته أو ولده أن يشارك القوم في زندقتهم وزيغهم..." (نفسه، ص. 202 – 203).
ترى هل كانت أحداث 16 ماي من نوع هذا الجهاد الكبير؟ أقول هذا، ولا أظنها مصادفة أن تنبت جماعات كالفطر (السلفية الجهادية، الصراط المستقيم...) تزامنا مع عرض خطة إدماج المرأة في التنمية !!
للغتهم هذه آلياتها، أي ما تحمله معها من قديم مثل "التقية" فهي في بنيتها منذ أخذ بها محمد الباقر وابنه جعفر الصادق، قد تغير لغتهم من حدّة خطابها لظروف المرحلة ولكن إلى حين، كل شيء على حاله في العمق لا تغير حتى لو مرّت السنون. في حوار له مع جريدة الأيام، يوضح مصطفى الرميد حول تصريح له لوكالة "أسوسييتد بريس" أنه عندما سأله الصحفي حول نيتهم إلى السعي في تطبيق الجانب العقابي في الشريعة، نطقت لغته بما يلي: "فأوضحت له أن الشريعة بها نصوص واضحة بهذا الشأن، غير أنه من الواجب أن يتم استيفاء شروط تطبيق هذه النصوص بالعقاب، فطلب مثلا، فأعطيته مثالا قطع يد السارق، حيث لا يمكننا قطع يد السارق إلا إذا أهّلنا المجتمع دينيا واقتصاديا واجتماعيا.." (جريدة الأيام، 17 – 23 اكتوبر 2002، العدد 56).
لا يغرنك الحديث عن شروط التطبيق، ما هذا إلا باب من أبواب التقية، ولو كان الأمر بيدهم لما تأخروا في ذلك، وسيطبّلون كما طبّلوا لنميري حين فعلها في السودان في 83 – 1984، وياله من دخول إذن إلى زمن العولمة، ولو كان لهم الأمر، إذن لدخلنا العولمة من أوسع أبوابها بأياد مقطوعة وأطراف مقطّعة من خلاف وظهور مجلودة وعيون مفقوءة. 
هل يعني إذن الحديث عن لغة تسكنهم، أنهم لا يتحملون أية مسؤولية؟ عندما لا يتكلم إنسان لغة ولا ينتجها يبحث عن أن يكون ناطقا حتى بواسطة لغة ليست له، لا يريد أن يظل أبكم، إذن هناك شبه اتفاق وتواطؤ بينه وبين اللغة التي تسكنه.
لذا نقول مجازا "قال فلان منهم"، لا لأن هذا مما جرت به العادة، ولكن لأنه بقدر ما تبحث اللغة عنهم هناك رضى منهم لكي لا يظلوا بدون نطق.
عندما يأتي سائح إلى مدينة الدار البيضاء، ويرى ما يوجد فيها وهي "البيضاء" من نقاب وحجاب ولباس أفغاني سيعتقد أنه أخطأ وحطّ الرحال بقندهار، ونتأكد نحن أيضا أن عدد الأبواق قد كبر بيننا.
أتساءل هل نريد للأجيال القادمة أن يكونوا مجرّد لغة/لغو أم متكلمين.


* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الأربعاء 18 فبراير 2004

حجاب الصغيرات.. اغتصاب للطفولة، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



حجاب الصغيرات.. اغتصاب للطفولة
عبد الواحد بنعضرا
بيّنت كثير من البحوث العلمية التي أجريت أن الفروق الموجودة بين الجنسين تعود أساسا ــ وتشكل انعكاسا ــ للأنظمة الاجتماعية السائدة، تقول أورزولا شوي في كتابها: "أصل الفروق بين الجنسين" ما يلي: "إن الخصائص الأنثوية، التي كانت تعتبر أصلية، مثل عاطفة الأمومة والعاطفية والاهتمام الاجتماعي والسلبية، ليست أنثوية بالطبيعة ولا فطرية بل مكتسبة ثقافيا، كيف يحدث هذا؟ عبر تأثيرات مباشرة وغير مباشرة في الأيام والشهور والسنوات الأولى من الحياة، هذا ما يمكن تبيانه اليوم وبدقة علمية وفي كل مرحلة من مراحل التطور" (دار الحوار اللاذقية، 1995، ص. 11). وتضيف أرزولاي شوي: "إن ما تسمى طبيعة "أنثوية" و"ذكرية" كانت وما تزال تخدم لإضفاء الشرعية على استمرار سيادة الرجال على النساء وتتخذ ذريعة لتوزيع العمل تبعا للجنس، هذا يعني: مسؤولية النساء وحدهن فيما يخص العمل في حقل إعادة الإنتاج [من حمل وولادة وتربية أطفال وأعمال بيتية غير تجارية] وحصرهن في أعمال "نسوية الطابع" في حقل الإنتاج الاجتماعي (أشكال "أنثوية" الطابع، سيئة الأجر، في النهاية الدنيا من التراتب). وتتخذ من ناحية أخرى ذريعة لتحرر الرجال من العمل في مجال إعادة الإنتاج ولدمجهم تماما في عملية الإنتاج (بأجر أفضل وفي مرتبة أعلى من مرتبة النساء)..." (نفسه، ص. 19).
ففي الأنظمة الاجتماعية الذكورية الأبوية، يحدد دور المرأة بأنها تابعة وخادمة للرجل، مطيعة له ومستسلمة، ومن أجل ذلك تقدم نفسها قربانا له ولأطفاله أيضا، وكي تقتنع بذلك عليها أن تتلقى منذ طفولتها المبكرة تربية تحدّ من قوتها وقدراتها الجسمية والنفسية والفكرية وتضيّق عليها مجال وميدان التحرك، وتفرض عليها طاعة الذكور جميعا، الأب والإخوة ــ حتى لو كانوا أصغر منها ــ بل وحتى أبناء حيّها أحيانا. وفي هذا الإطار يمثل الحجاب ــ بالنسبة للصغيرات ــ وسيلة ناجعة ورمزا للخضوع والاستسلام وطبعا لكبح ولجم قدرات الطفلة الصغيرة التي تلزم نفسها بالتقيد ببعض القيود (عدم الغناء، عدم الرقص، الامتناع عن بعض الألعاب، عدم الضحك كثيرا خاصة مع الأطفال الذكور...) حتى تبدو منسجمة مع حجابها، تفقد هذه الصغيرة براءتها باكرا، وتغتصب في طفولتها. وإذا كانت المادة 19 من اتفاقية حقول الطفل تنص على أن: "تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتعليمية الملائمة لحماية الطفل من كافة أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية والإهمال أو المعاملة المنطوية على إهمال، وإساءة المعاملة أو الاستغلال..." (المادة 19، الفصل 1). أفلا يعتبر حجاب الصغيرات ــ بما بينته أعلاه ــ شكلا من أشكال العنف والضرر وإساءة بدنية، وسوء معاملة...؟ بل ألا نقول أنه حجاب للعقل أي إساءة عقلية؟ أفلم يحن الوقت لكي يتم النظر إلى هذا الأمر بجدية أكبر؟
لقد ذهب الأمر بأحدهم إلى أن أفتى أنه في حالة وجود قانون يرغم الفتاة على خلع الحجاب في المدرسة بأن: "الدراسة التي تترتب عليها معصية فإنها لا تجوز، بل عليها دراسة ما تحتاج إليه في دينها ودنياها، وهذا يكفي ويمكنها ذلك في البيت غالبا" (جريدة التجديد 23 دجنبر العدد 822). فهل هناك إساءة عقلية أكبر من هذه، يتضح فعلا بأن حجاب الصغيرات يلعب دورا كبيرا في تثبيت كثير من المقولات الاجتماعية البالية لدى هؤلاء الصغيرات، لدرجة أن تلغى من أجله الدراسة، بل الحياة كلها. نعم الحياة كلها، فهل ننسى تلك المأساة التي عرفتها السعودية في شهر مارس 2002 حين اشتعلت النيران بإحدى مدارس البنات، ولأنه طبيعي أن تهرول البنات في اتجاه أبواب المؤسسة هلعا وهربا، لكنها أغلقت أمامهن، لماذا؟ لأنهن غفلن عن غطاء رأسهن، فماذا كانت النتيجة؟ موت 14 تلميذة.
مأساة كهذه لم تحرك ساكنا ولم تزعزع قاطنا لأولئك الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدوها من أجل قرار الرئيس الفرنسي بمنع الحجاب بالمدارس.. أولئك الذين تنتفخ أوداجهم في حديثهم وكلامهم عن الحجاب، ولكنهم لا يعيرون بالاً لأوضاع المرأة الضعيفة، أو الجائعة أو التي لا يوجد في قاموس أبيها وأخيها أو زوجها معا إلا لغة الضرب والركل والرفس. أليس هذا من ضحك الأقدار بل ومن قهقهتها؟
ولا نستغرب كثيرا لهؤلاء فإن شيخهم ابن باز كتب كتابا سماه: "التبرج وخطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله" يبتدئ قوله فيه: "أما بعد، فلا يخفى عن كل من له معرفة ما عمت به البلوى في كثير من البلدان من تبرج الكثير من النساء وسفورهن وعدم تحجبهن من الرجال، وإبداء الكثير من زينتهن التي حرم الله عليهن إبداءها، ولا شك أن ذلك من المنكرات العظيمة والمعاصي الظاهرة، ومن أعظم أسباب حلول العقوبات ونزول النقمات لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش وارتكاب الجرائم وقلة الحياء وعموم الفساد. فاتقوا الله أيها المسلمون، وخذوا على أيدي سفهائكم، وامنعوا نساءكم مما حرم الله عليهن، وألزموهن التحجب والتستر، واحذروا غضب الله سبحانه، وعظيم عقوبته" (مكتبة السنة، القاهرة، 1987، ص. 3). أهذه مقدمة كتاب أم بيان حرب وإعلان قتال، وقد كان، وسقطت الضحايا فعلا.
أتساءل كيف ستتم حماية الطفلة الصغيرة من مثل هذه الأفكار السوداء التي يفرضها عليها الأب أو المعلم أو الأستاذ (المحسوبون على الأصولية الدينية) والتي تصل عند بعضهم إلى مساومة التلميذات على النقط، فيصير حجابهن لازما للحصول على نقط جيدة، أما رفضهن فسينقلب عليهن وبالاً.
تعرّف اتفاقية حقوق الطفل أن "الطفل" هو: "كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه" (المادة 1). وبالتالي فالطفل (خاصة في مرحلة الابتدائي والإعدادي) ليس ناضجا بما يكفي للحكم على أشياء كثيرة، وإن أي أمر يتعلق بمسألة اختيار لا يمكن أن يتم إلا إذا كان الإنسان يملك القدرة على التمييز وتقييم الأشياء. ولأننا لا نريد في عالمنا اليوم براءة موءودة ولا طفولة مغتصبة، وجب علينا رفع الحيف والظلم على كثير من البنات الصغيرات اللواتي تستجبن لرغبات وإكراهات آبائهن أو مدرسيهن ولسان حالهن يردد:
لا تحسبوا رقصي كان من طرب               إن الطير يرقص مذبوحا من الألم
لذا أطالب الوزارة الوصية بإصدار قرار يمنع ارتداء الحجاب في المدارس الابتدائية والإعدادية، للأسباب التي ذكرتها في هذا المقال، وأرجو أن يؤخذ هذا الطلب بالجدية اللازمة. ولعلها تكون خطوة جادة في سبيل وطريق التصحيح. إننا نغني من أجل مغرب الحداثة، من أجل مغرب مشرق ينظر إلى الأمام ولا يلتفت وراءه، هذا المغرب لا يمكن بناؤه إلا إذا ساهم فيه الجميع ذكورا وإناثا بدون عوائق أو قيود.

* نشر هذا المقال بجريدة الأحداث المغربية يوم الجمعة 23 يناير 2004.

الأربعاء، 3 سبتمبر 2014

فقه الأزمة، بقلم عبد الواحد بنعضرا*



فقه الأزمة
عبد الواحد بنعضرا
نتحدث غالبا عن أزمة الفقه والفقهاء مما يوحي بل ويؤكد أن مشكلتنا تتجلى في غياب الاجتهاد، وكأننا ننسى أن الفقه يعتمد على النص، والنص ثابت لا يتغير وبما هو كذلك فهو محدود. وأمام المشاكل التي طرحت إبان الغزوات العربية - الإسلامية الأولى للبلاد التي تختلف طبيعتها عن طبيعة الجزيرة العربية، كان أمام المشرّعين طريقان، أولهما التأويل وثانيهما وضع الأحاديث، يقول أحمد أمين: "حتى الأحاديث الموضوعة نفسها كان لها فضل في التشريع، فإنها لم توضع اعتباطا ولا كانت مجرد قول يقال، إنما كانت في الغالب نتيجة تفكير فقهي وبحث واجتهاد، ثم وضع هذا الرأي وهذا الاجتهاد في قالب حديث"([1]). أما اليوم وقد جمعت الأحاديث وأصبحت معروفة فما عاد بإمكان أحد أن يضع حديثا جديدا، وأما التأويل فقد تباعد الزمان واتسع الخرق على الراتق، واستنفد التأويل نفسه.
إن المشكل اليوم ليس أزمة فقه أو فقهاء ولكنه أساسا فقه يُطلب منه أن يشرّع للأزمة حيث تجتمع المتناقضات: التخلف والتقدم، الثابت والمتغير، قيم رجعية وقيم حداثية، أنظمة حكم علمانية بالفعل دينية بالقوة ــ ولا أظن العكس صحيحا ــ فالأنظمة العربية – الإسلامية تمارس سياستها وشؤونها بطرق علمانية ولكنها بالمقابل تعمل على نشر الأصولية الدينية بين شعوبها، وإن المطلوب من هذا الفقه أن يشرّع حسب ما تمليه الظروف من مواقف إيديولوجية أو سياسية، فعندما يريد السياسي الدخول في الحرب يقرأ عليه فقهاء الأزمة الآية: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، ترهبون به عدو الله وعدوكم) (الأنفال 60). وإن أراد السياسي الدخول في معاهدة السلام، قرأوا عليه الآية التي تليها مباشرة: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) (الأنفال 61). إنه فقه تبريري، إننا نتحدث إذن عن فقه الأزمة.
وهنا نضع سؤالا: ما مدى المسؤولية التي يتحملها الفقهاء الذي عاشوا تلك العصور التي ننعتها بالجمود وغياب الاجتهاد، بل ألا يمكن ألا تكون لهم أية مسؤولية باعتبار أن الحضارة الأوروبية لم تقف على الباب بعد؟ وبمعنى آخر ألم يكن "اجتهاد" محمد عبده إلا ثمرة اصطدام بالحضارة الأوروبية؟ وإذن لو كان الصدام وقع فيما قبل لرأينا عددا كبيرا من "محمد عبده".
إن ما قام به محمد عبده لم يكن سوى محاولة التوفيق بين النص وبين الحضارة الأوروبية، عبر صبغ قيم أوروبية بصبغة دينية، وفي اتجاه معاكس محاولة عقلنة ما لا يعقلن. نصل إلى تساؤل: ألم يساهم محمد عبده بمحاولة إخراج كل تجديد تحت عباءة الدين في فشل الإصلاح، ألا يتضح ذلك جليا في الخط الذي سلكه تلامذته، فرشيد رضا شكل تراجعا كبيرا، ومن جاءوا بعده كانوا أضيق أفقا (جماعة الإخوان المسلمين مثلا).
إن محمد عبده كان يضع بما فعل النواة الأولى لفقه الأزمة، الذي سيبلغ ذروته مع هزيمة 67 والفورة النفطية السعودية في السبعينيات. ويتميز فقه الأزمة في كلّيته بنتائجه الكارثية التي تأتي عكس ما أريد منه ظاهريا، فيكفيه أنه يعمل على تزييف الوعي الشعبي عبر اختزال كل شيء في الدين، وسنرى بعضا من نماذج فقه الأزمة:
ــ فتوى يوسف القرضاوي حول قروض السكن، يقول: "شخصيا أفتيت الإخوة خارج البلاد الإسلامية بجواز الاقتراض من أجل السكن. لكن في الحقيقة، منذ حوالي 25 سنة وأنا أزور أوروبا وأمريكا، وكنت لا أبيح أخذ القروض من أجل السكن، ولكن منذ سنوات بدأ اجتهادي يتغير، وأنا أفتيت بمذهب أبي حنيفة الذي أفتى به شيخنا الأستاذ الزرقاء أيضا وبعض مشايخ الحنفية من الهند وباكستان، ورأيت أن هذا المذهب يحل الكثير من مشاكل المسلمين في أوربا وأمريكا، ذلك أن المسلمين قد أنعم الله عليهم بكثرة الأولاد أو الذرية... فالمسلمون لهم أطفال كثيرون وهذا يسبب لهم مشاكل كثيرة وهم يشكون منها، فهم محتاجون إلى بيوت يملكونها للسكن ولا يستأجرونها. أنا وإن كنت متشددا في السنوات الأولى فقد بدأت أخيرا آخذ بمذهب الأحناف، حيث يقول أبو حنيفة: يجوز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب، ويقصد بدار الحرب ما ليس بدار الإسلام فهو دار حرب، فنقول يجوز التعامل بعقودهم الفاسدة ومنها عقد الربا ولكن بشرطين: الشرط الأول: أن تكون هناك مصلحة للمسلم.
الشرط الثاني: ألا يكون في ذلك غدر أو خيانة، أي أن يكون هناك مراعاة للجانب الأخلاقي.
أنا أفتيت بجواز هذا ببلاد الغرب، أما بلاد المسلمين فلا أفتي بهذا"([2]).
إن الأمر لا يتعلق بقصور اجتهاد كما قد يظن البعض، فما أسهل أن يجد القرضاوي فتوى من مذهب أبي حنيفة عندما يطلب منه ذلك، ولكن الأمر يتعلق بشيء آخر. وكما أن فقه الأزمة له نتائج كارثية في كليته، فهو كذلك في جزئيته، أي في كل فتوى على حدة. وانظر: يجوز للإنسان المسلم أن يملك دارا في الغرب، بينما لا يجوز ذلك للمسلم المقيم في بلاده، لماذا؟ لأن بلاده إسلامية !!!
ــ أما النموذج الثاني فهو رأي مصطفى محمود في الضرب والهجر في المضاجع، يقول: "والضرب والهجر في المضاجع من معجزات القرآن في فهم النشوز... وهو يتفق مع أحدث ما وصل إليه علم النفس العصري في فهم المسلك المرضي للمرأة، وكما نعلم يقسم علم النفس هذا المسلك المرضي إلى نوعين: المسلك الخضوعي وهو ما يسمى في الاصطلاح العلمي ماسوشزم "Masochism" وهو تلك الحالة المرضية التي تلتذ فيها المرأة بأن تضرب وتعذب وتكون الطرف الخاضع، والنوع الثاني هو المسلك التحكمي، وهو ما يسمى في الاصطلاح العلمي سادزم "Sadism" وهو تلك الحالة المرضية التي تلتذ فيها المرأة بأن تتحكم وتسيطر وتتجبر وتتسلط وتوقع الأذى، ومثل هذه المرأة لا حل لها سوى انتزاع شوكتها وكسر سلاحها الذي تتحكم به، وسلاح المرأة أنوثتها وذلك بهجرها في المضجع، فلا يعود لها سلاح تتحكم به. أما المرأة الأخرى التي لا تجد لذتها إلا في الخضوع والضرب فإن الضرب لها علاج.. ومن هنا كانت كلمة القرآن: (واهجروهن في المضاجع واضربوهن) (النساء 34) إعجازا علميا وتلخيصا في كلمتين لكل ما أتى به علم النفس في مجلدات عن المرأة الناشز وعلاجها"([3]). كلام يدعو إلى الضحك ضحك ولكنه كالبكاء.
ــ والنموذج الثالث هو رأي ابن خليفة الذي يؤكد على أن الهياكل والجماجم القديمة هي للجن وليست للإنسان، يقول ابن خليفة: ".. وقبل هذا لابد من القول بأن المخلوقات التي كانت تسكن الأرض قبل آدم كانت لها أجسام مادية ملموسة لأن سفك الدماء لا يقع إلا على الجسم الحيواني، كما أن الفساد لا يكون إلا بتعد الحدود وانتهاك الحرمات ومما يدل على هذا أيضا خروجهم من الأرض إلى الجزائر وأطراف الجبال وقتل بعضهم البعض منهم، أن لهم جميع الصفات البشرية من طعام وشراب وزواج وحياة وموت... إذ لو كانوا غير ماديين وغير ملموسين كما قد يتصور البعض في لفظ الجن لما أمكن وقوع سفك الدماء منهم، إن لفظ الدم يوجب القول بأن لهم أجساما ذات هياكل عظمية، وأحشاء داخلية، وفيها بعض الصفات البشرية (...) ويقول علماء الانتربولوجية: "وهناك ما يدل على أن إنسان "نياندرثال" كان قبيح المنظر كث الشعر شرس الطباع، لا يأتلف بالمعاشرة، كما كانت إناثه تقزز النفس ببشاعتها". إذن فهذا الذي أطلقوا عليه اسم نياندرثال لم يكن إنسانا لأن الله تعالى يقول: (خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) لذا كان هذا النوع من أشباه البشر من سكان الأرض [أي الجن] هم الذين أفسدوا وسفكوا الدماء فيها"[4].
أحسب يا عزيزي القارئ وأنت تقرأ هذا الكلام أن ما يتبادر إلى ذهنك هو المثل المغربي: "هل تنطح أم انطح؟"، ولكني لن أنطح وأنت أيضا لن تنطح، فإن الأمر لا يتعلق برأس أو رأسين يصدر عنها مثل هذا الكلام، بل برؤوس عديدة، ولا الأمر يتعلق بقناعات يمكن تغييرها بكلمة أو كلمتين، بكتاب أو كتابين، أو حتى في سنة أو سنتين، بل إنها بنية فكرية قد ترسخت ومن أجل تفكيكها وخلخلتها نحتاج إلى جهد كبير وشجاعة دون مزايدات ولا مغازلات.
وكما أن فقه الأزمة في كليته يلبس لكل حالة لبوسها، فهو في الخمسينات والستينات يرفع شعار اشتراكية الإسلام، وبعد ذلك الديموقراطية في الإسلام، واليوم الإسلام وحقوق الإنسان.. فإنه كذلك في جزئيته يلبس لكل حالة لبوسها، فلقد دأب فقهاء الأزمة في مواجهة كل جديد بتحريمه أولا ملوحين في ذلك بسيف المعز وذهبه، وهكذا يتراوح سعيهم بين الترغيب والترهيب، فتارة يلوّحون بالنعيم المقيم الذي ينتظر المطيع وتارة يلوحون بالعذاب الأليم للعاصي، إذا لم يرتدع ولم يستجب، حتى إذا ما مرت السنون فأصبح الجديد أمرا واقعا وتبدلت الأشياء، وللواقع أحكامه التي يفرضها مع مرور الزمن وانصرف الناس عن رأي الفقهاء، نطق لسان حالهم بما قاله زهير بن أبي سلمى:
        ومن لم يصانع في أمور كثيرة          يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
فيقولون أن الأمر قابل للنظر وله وجه حل، وهكذا يصبح الأمر حلالا ولكن بشروط، حتى إذا كشر الواقع عن أنيابه بدون مماطلة،وخاف القوم، قالوا: فلنحافظ على شعرة معاوية، فيغدو الأمر ليس حلالا فحسب بل واجبا، وهكذا فعلوا مع عمل المرأة، فمن أقصى تحريمه إلى جعله واجبا ــ خاصة عمل المرأة كمدرسة للفتيات ــ، وكذلك تعليم المرأة، ومع الغناء فبعد أن كان رقية اللواط والزنا سيصير وسيلة للترويح عن القلوب فإن القلوب إذا كلت عميت، ومع فوائد الأبناك فبعد أن كانت ربا تصبح حلالا كما أفتى بذلك محمد سيد طنطاوي في التسعينات وهي الفتوى التي أخذ بها الأزهر هذا العام.
بل انظر إلى رأي الفقهاء في الانتخابات، فبعد أن كانت الديمقراطية كفرا بواحا لأنها حكم الشعب ها هي اليوم تصبح واجبا لا غنى عنها وتصبح الانتخابات شهادة آثم من لم يؤدها، يقول يوسف القرضاوي: "فإذا نظرنا إلى نظام الانتخابات أو التصويت، فهي في نظر الإسلام "شهادة" للمرشح بالصلاحية (...) ومن تخلف عن أداء واجبه الانتخابي حتى رسب الكفء الأمين، وفاز بالأغلبية من لا يستحق، ممن لا يتوافر فيه وصف "القوي الأمين" فقد كتم الشهادة أحوج ما تكون الأمة إليها. وقد قال تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا) (البقرة/282)، (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) (البقرة/283)"[5].
ما الذي وقع إذن ما بين سيف وذهب المعز وبين شعرة معاوية؟ لم يقع شيء سوى أننا أضعنا وقتا كبيرا وجهدا مبذولا في جدالات كثيرة، واستنزفنا طاقاتنا في غير محلها، ولم يقع شيء سوى أن ضيعت حقوق، سوى أن عاشت المرأة في ظل ظروف غير كريمة، بلا تعليم ولا عمل ولا حقوق، في كثير من الأقطار العربية ـ الإسلامية، وسوى أن المجتمعات العربية – الإسلامية ولدت أجيالا وأجيالا كثيرة لا يمكن لأي مخطط تنمية أن يستجيب لها، أجيال كانت عائقا لأية تنمية، فهي لم تأخذ حقها من التربية ولا من التعليم ولا من الصحة ولا العيش الكريم، لا لشيء إلا لأن كثيرا من الفقهاء يصرون على أن تنظيم بله تحديد النسل حرام. لم يقع شيء سوى أن فتح المجال للانتهازيين والطفيليين بأن ينشئوا شركات توظيف الأموال الإسلامية ولا يعدو أمرهم عن كونهم تجار عملة فكدسوا ثروات هائلة وهربوا بها، بينما الاقتصاد المحلي تلقى ضربات قوية ــ مصر مثلا ــ، وحتى يصدر محمد الغزالي ــ سابقا ــ فتوى بأن دخول الجن في الإنسان ما هو إلا خرافة وأن الاضطرابات التي يعاني منها المرضى ما هي إلا أعراض أمراض نفسية أو عضوية، كم هلك من مريض وكم استطاع من مبتز من الدجالين الذين يدّعون أنهم يخرجون الجن من الإنسان أن يتلاعب بآلام المرضى ويغتني ويثري. وغيرها وغيرها... وبالجملة لم يقع شيء سوى أننا قد شددنا إلى الوراء شدا، وأن تركنا لكل الطفيليين والانتهازيين أن يغتنوا ويثروا باسم الدين.

* نشر المقال بجريدة الأحداث المغربية، يوم الأربعاء 19 نونبر 2003.


[1] - أحمد أمين، فجر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط. الحادية عشرة، 1975، ص. 245.
[2] - يوسف القرضاوي، شروط نجاح مؤسسة الزكاة في التطبيق المعاصر: محاضرات من ندوة التطبيقات الإسلامية المعاصرة، سلسلة الحوارات 32، منشورات الفرقان، الدار البيضاء، 1998، ص. 44).
[3] - مصطفى محمود، حوار مع صديقي الملحد، دار العودة، بيروت، 1981، ص. 60 – 61.
[4] - ابن خليفة، الحجج العصماء في نقض نظرية داروين في النشوء والارتقاء، مطبعة خالد بن الوليد، دمشق [د.ت]، ص. 71 – 74.
[5] - يوسف القرضاوي، فتاوى معاصرة، الجزء الثاني، دار القلم – دار الوفاء، المنصورة، ط. الثانية، 1994، ص. 643 – 644.