أصل هذا المقال مداخلة ألقيت بمقر الحزب الاشتراكي الموحد عندما حللت ضيفا على فرع الحي الحسني جهة الدار البيضاء سطات، يوم الأحد 6 أكتوبر 2019. ثم قمت بحذف بعض الفقرات ليناسب نشره كمقال، حيث نشر في جزءين بجريدة الأحداث المغربية : الجزء الأول عدد يوم الاثنين 21 أكتوبر 2019، والجزء الثاني عدد يوم الأربعاء 23 أكتوبر 2019
الجزء الأول من المقال، المنشور في عدد الاثنين 21 أكتوبر 2019 بجريدة الأحداث المغربية:
نقد خطاب الإسلام السياسي حول العلمانية:
حزب العدالة والتنمية نموذجا
عبد الواحد بنعضرا
(باحث في التاريخ ومهتم بقضايا الإسلام السياسي)
المحور الأول: الزمن الثقافي والزمن السياسي
إن مواجهة خطاب
الإسلام السياسي المنتقد للعلمانية ليست بالمسألة الهينة، وهي، بالفعل، حقل
ألغام، لمن لا يمتلك ما يكفي من الأدوات والعدة لذلك، حيث ينبغي التمييز بين منطق
المفكر/ المثقف/ الفيلسوف/ الباحث... ومنطق السياسي، فالأول يحكمه، غالبا، منطق ما
ينبغي أن يكون، فمن حقه أن يحلم، من حقه ألا يطبّع مع الواقع، بل أن يتجاوزه،
بخلاف السياسي المحكوم بالزمن القصير، فزمن الفعل السياسي زمن قصير جدا، ولا يمكنك
أن توقف الحياة حتى تجد حلولا للمشاكل، عمل السياسي؛ إذن، أعقد وأكثر صعوبة، لذلك فمنطقه هو: الممكن فعله
(عموما السياسة فن الممكن كما يقال). كيف يمكن لسياسي، إذن، تسجيل نقط على حزب
ينتمي للإسلام السياسي من خلال منطق السياسي وليس منطق المفكر/المثقف/الفيلسوف/
الباحث.
أقول أول شيء، من
المستحب بالنسبة للسياسي، المؤمن بالقيم الإنسانية تفادي الحديث عن الإسلام كنصوص
قرآنية أو نبوية... لأن تناول السياسي لنصوص دينية تجعله يبدو لكثير من الناس كأنه
ينتقد الإسلام نفسه، مما يسهّل مهمة خصومه السياسيين في كسب تعاطف الناس والظهور
بمظهر المدافع عن الدين. بالإضافة إلى ذلك فإن الأفكار المجردة تبقى دائما عصية
على النقد، فهي دائما تلوح بمظهر جذاب نقي طهراني ومتعالي... لا يمكن الإمساك بها.
بالمقابل، فالإسلام الذي
يمكننا التحقق منه، والإمساك به هو الإسلام التاريخي، أي الإسلام الذي يندرج في
الزمن الإنساني، أي الإسلام كما عاشه ومارسه البشر، هذا هو الشيء الذي نرى من
خلاله الإسلام، نحن هنا؛ إذن، في حاجة للمؤرخين؛ وبلغة أوضح لا يوجد على أرض
الواقع إسلام مجرد/ إسلام معياري إلا في أذهان بعض المسلمين، أما على أرض الواقع
فلا يوجد إلا الإسلام كما تمت ممارسته، وهذا بالضبط ما لا يمكن أن يفهمه كثير من
المسلمين، الذين يعتقدون وجود إسلام حقيقي/ إسلام معياري انحرف عنه المسلمون وأنه
بالإمكان، يوما ما، أن يطبق المسلمون هذا الإسلام الحقيقي المعياري، الذي انحرفوا
عنه، ويشتغل الفقهاء كثيرا على تكريس هذه الفكرة في أذهان المسلمين، عبر مختلف
الوسائل المتاحة، بتكرار الحديث عن البدع، وأن كل بدعة ضلالة... وأن ما يفعله
المسلمون هو انحراف عن الإسلام الحقيقي، ولنقُلْها بوضوح إن المتتبع لكتابات الفقهاء
سيترسّخ لديه انطباع بأن تاريخ المسلمين هو تاريخ الانحراف عن الإسلام، فكل تاريخ
المسلمين، حسب الفقهاء طبعا، هو تاريخ انحراف عن الإسلام !!! فهل يعقل أن المسلمين انحرفوا
مدة أزيد من 1400 عام عن الإسلام، هذا لوحده كافي للرد على ادعاء تطبيق الشريعة
وعودة الخلافة؛ إذا كانت هذه الشريعة، حسب الفقهاء المسلمين أنفسهم لم تطبق، حتى
في أزهى عصور الإسلام زمن الصحابة والتابعين، فقد انحرف المسلمون منذ البداية،
فكيف يمكن تطبيقها اليوم في القرن 20 أو 21؟
فالعطب لدى الفقهاء هو
في تصورهم وجود إسلامٍ حقيقي، بينما نقول، نحن الذين نشتغل كباحثين في التاريخ، ليس
هناك انحراف، هناك تجارب إنسانية مختلفة حسب ظروف كل جماعة بشرية ومختلف السياقات
التي حددت تجاربها. فكل جماعة بشرية عاشت إسلامها على طريقتها، كما تعيش اليوم
شعوب كثيرة الإسلام على طريقتها في القرن 21 ! وبالتالي كيف يستساغ فرض تجربة بشرية قديمة أو معاصرة على
جماعة بشرية أخرى؟ وأي شريعة يمكن تطبيقها: شريعة الإسلام المغربي، أم السعودي، أم
الماليزي، أم الأندونيسي، أم الأمريكي...؟ فكلها إسلام كما تحقق في التاريخ/ أي في
الواقع.
أؤكد ما يأتي: أن
كثيرا من المسلمين لا يمكنهم استيعاب هذه المسألة، إذن، نحن هنا أمام عائق مرتبط
بالذهنيات/ العقليات والتي لا يمكن تغييرها في فترة وجيزة بل يتطلب ذلك مدة طويلة
قد تصل أحيانا لأزيد من قرن من الزمن، فالعقليات تنتمي للزمن الثقافي/ الزمن
الطويل، ومشكلة السياسي أن الزمن السياسي زمن قصير، لذلك فهذا النقاش لا يمكن أن
يكون مفيدا من الناحية السياسية فله ميدانه المرتبط بالتعليم والتربية عموما...
وأي محاولة لإقحام الزمن الثقافي الطويل في الزمن السياسي (القصير) يؤدي إلى
تفجير الوضع السياسي، وأحيانا يكون ذلك في صالح حركات الإسلام السياسي، فطرح
السياسي لمواضيع لا يمكن تقبّلها، إلا بتغيير العقليات معناه مباشرة إتاحة الفرصة
للخصوم السياسيين لتوجيه لكمات وضربات تحت الحزام، وما مثال الخطة الوطنية لإدماج
المرأة في التنمية، عنا ببعيد؛ حيث نعت أصحاب العدالة والتنمية القوى اليسارية
بالكفر والزندقة، ويكفي عنوان ذلك الكتاب الذي كتبه فقيههم إبان الخطة، عبد الباري
الزمزمي دليلا على ذلك حيث سماه: "الجهاد الكبير في مواجهة خطة الإباحية
والتغريب".
ومما له كبير دلالة في هذا السياق هو تلك المقابلة التي أجروها مع كاتب الدولة - سابقا- المكلف بالرعاية الاجتماعية وحماية الأسرة، يقول سعيد السعدي في هذا الشأن: "في هذه الظروف اتصل بي الإسلاميون عن طريق الأستاذ لحسن الداودي وهو عضو قيادي في حزب العدالة والتنمية كان يعمل بالتعاون الوطني، حيث طلبوا لقاء حضره كل من الدكتور الريسوني، سعد الدين العثماني والأستاذ باها..، وكلهم قياديون أكدوا عدم قبولهم لما جاء في الخطة من تعديلات المدونة، فأكدت لهم من جديد أنها اقتراحات وأنني أنتظر منهم أخرى، ومستعد لأخذها بعين الاعتبار حال التوصل بها، وافترقنا في جو أخوي على أساس اللقاء من جديد. حدث هذا في أبريل (1999) وفي نفس الشهر شرع مسلسل السب والقذف والشتم في شخصي على أعمدة جرائدهم!" (سعيد السعدي، مذكرات وزير غير نادم (2). الصحيفة، 19-13 مارس 2001، العدد 13).
ومما له كبير دلالة في هذا السياق هو تلك المقابلة التي أجروها مع كاتب الدولة - سابقا- المكلف بالرعاية الاجتماعية وحماية الأسرة، يقول سعيد السعدي في هذا الشأن: "في هذه الظروف اتصل بي الإسلاميون عن طريق الأستاذ لحسن الداودي وهو عضو قيادي في حزب العدالة والتنمية كان يعمل بالتعاون الوطني، حيث طلبوا لقاء حضره كل من الدكتور الريسوني، سعد الدين العثماني والأستاذ باها..، وكلهم قياديون أكدوا عدم قبولهم لما جاء في الخطة من تعديلات المدونة، فأكدت لهم من جديد أنها اقتراحات وأنني أنتظر منهم أخرى، ومستعد لأخذها بعين الاعتبار حال التوصل بها، وافترقنا في جو أخوي على أساس اللقاء من جديد. حدث هذا في أبريل (1999) وفي نفس الشهر شرع مسلسل السب والقذف والشتم في شخصي على أعمدة جرائدهم!" (سعيد السعدي، مذكرات وزير غير نادم (2). الصحيفة، 19-13 مارس 2001، العدد 13).
هذا على الرغم من أن
المشروع أشار بوضوح إلى الآتي: "يستمد مشروع الخطة الوطنية إدماج المرأة في
التنمية فلسفتها وأهدافها بشكل رئيسي من مبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء"
(مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية (موجز)، 1999، ص. 4). فقد كانت
هدية قدمت على طبق من ذهب لحزب العدالة والتنمية، والهدية لا ترد.
بخلاف المفكر، الذي له
هامش الفعل أكبر من السياسي، وعمله يندرج ضمن الزمن المتوسط والطويل، لذلك يمكنه
طرح مثل هذه القضايا، بوعيه أن هذه القضايا ينبغي تفادي إقحامها في الزمن القصير/
الزمن السياسي... إذ أن حركات الإسلام السياسي تبحث عن هذه الفرص لتتغذى منها حتى
لا تأكل نفسها من الداخل، فهم يبحثون عن هدايا مماثلة وإن لم يجدوها عملوا على
استفزاز خصومهم لإيقاعهم في الفخ...
المحور الثاني: حزب
العدالة والتنمية بين أدبيات تطبيق الشريعة وضغط الواقع
إذن كيف يمكن مواجهة
مغالطات خطاب الإسلام السياسي، من خلال منطق السياسي، وفي الزمن القصير؟ أقترح، من
وجهة نظري، مع احترام وجهات النظر المختلفة، نقاش الأدبيات الخاصة بالإسلام
السياسي، وإظهار تهافتها، وبعمل مستمر، ومتيقظ وغير متقطع...
أنبّه إلى أنني أتحدث
عن حركات الإسلام السياسي، التي قبلت الانخراط في العملية الانتخابية، حزب العدالة
والتنمية نموذجا؛ أي تلك التي يمكن امتحان أفكارها واختبار أدبياتها على أرض
الواقع، أما الجماعات التي تعلن رفضها الدخول في العملية الانتخابية، أو رفضها
المبدئي لها، فإنها لا تعنينا هنا، بل أقول إنها "لهزيمة" مؤكدة أن
يجادل السياسي خصما صاحب فكر مجرد، كيفما
كان ذلك الفكر المجرد، سيظهر للناس أن صاحب الفكر المجرد منتصر، حتى لو كان
السياسي مسلحا بأحدث المناهج في العلوم الإنسانية والاجتماعية... فلا فائدة من
مجادلة السياسي للسلفيين ولا لباقي الجماعات التي تتشبت بالأفكار المجردة، وقد سبق
أن قلت أن الأفكار المجردة عصية على النقد... هذه معركة تندرج ضمن الزمن المتوسط
والطويل، الزمن الثقافي، زمن العقليات... قد يخوض معمعانها المثقف/المفكر/
الفيلسوف/الباحث... بغض النظر عن الحصيلة... و"الواقع" هو العامل الحاسم
فيها مع مرور الزمن... أما السياسي فليست لا ميدان تسابقه ولا مضمار خيله...
حزب العدالة والتنمية
بالمغرب، إذن، بمجرد خوضه الانتخابات دخل في تناقض مع أدبياته الرافضة للعلمانية،
حيث أصبح ملزما بالتخلي عن فكرة الحاكمية لله وأن البشر لا يحق لهم التشريع...
وحديثه عن "الديمقراطية"، ترسيخ لهذا التناقض وبأن الحزب قبل بالعلمانية
واقعيا، حتى لو تنكر لذلك نظريا... ولم يكن تناقضا واحدا، بل وقعوا في تناقض آخر،
إذ أن ترشحهم للانتخابات، وليس ترشيحهم، أقول ترشحهم للانتخابات يعني طلبهم تولي
المناصب والحكم، ضدا على نصوص مرجعيتهم، التي قالوا أنها المرجعية الإسلامية؛ ففي
الورقة المذهبية للحزب التي صودق عليها في المؤتمر الخامس للحزب سنة 2004، نقرأ:
"واعتماد المرجعية الإسلامية معناه أن يكون الإسلام منطلقا لمختلف الاختيارات
والاجتهادات السياسية وللمشاريع المجتمعية" (حزب العدالة والتنمية، الورقة
المذهبية، 2006، ص. 29).
أن يدعي حزب أنه يتبنى
مرجعية ما، معناه أن يؤسس ممارسته بناء عليها، وفي هذا الإطار تدخل مسألة
الانتخابات التشريعية والدخول إلى البرلمان. بالنسبة لحزب العدالة والتنمية
ومرجعيته التي يدعي بأنها مرجعية إسلامية. السؤال إذن ماهي النصوص التي اعتمدها
الحزب لدخول البرلمان؟ لم يستطع الحزب تبرير دخوله للانتخابات انطلاقا من مرجعيته "الإسلامية"،
بل على العكس إن النصوص قد لا تسعفهم خصوصا وأن بعضها يمنع السعي إلى الحكم وهذه
بعض منها: أ-«لاتسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من
غير مسألة أعنت عليها»( البخاري ومسلم). ب- «إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون
ندامة يوم القيامة»(البخاري). ج-« إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدا سأله ولا
أحدا حرص عليه»( مسلم). د-« إن أخونكم عندنا من طلب العمل» (أبوداود وغيره). وهي
النصوص التي استشهد بها عبد الباري الزمزمي- فقيه الحزب والحركة سابقا- عند حديثه
عن مساوئ السعي إلى الحكم وآثمه في كتابه: "آفاق الصحوة الإسلامية
بالمغرب" والذي علق عليه وحققه رشيد المدور عضو حزب العدالة والتنمية آنذاك. أكد
رشيد المدور إذن على أن طلب التولي يكون ممنوعا إذا كان الإمام صالحا، أما إذا كان
النظام فاجرا فإنه في هذه الحال يجب الموازنة، وقام المدور هنا بالالتفاف على
النصوص لكي يجد مخرجا، ينتهي ببيان أن واقع اليوم يتعلق بالوضع الثاني أي وجود
أنظمة حكم فاجرة، لكن الرجل الذي أصبح برلمانيا، لم يوضح لاحقا- بعد انتخابه- معنى
ودلالة دخوله- ودخول حزبه- إلى البرلمان؟
أما التناقض الأكبر،
فيظهر بعد اصطدام الكلام الجميل العام المطلق على صخرة الواقع العنيد... فكيف يمكن
أجرأة المرجعية في البرامج الانتخابية لحزب العدالة والتنمية وتطبيقها في الواقع...
فإذا ما رجعنا إلى البرنامج الانتخابي لسنة 2002، نجد أنه نصّ في الفقرة الخاصة بـ "تعزيز
المرجعية الإسلامية" بخصوص الإجراءات الكفيلة بتحقيق ذلك، على الآتي:
"العمل على إعادة الاعتبار للمرجعية الإسلامية في توجيه السياسة الاقتصادية
ومراجعة القوانين والتشريعات الاقتصادية المخالفة للإسلام مثل قانون السلفات
الصغرى، وتطهير موارد الدولة من المحرمات كالخمور والقمار، ودعم نمط للسياحة يراعي
قيم المجتمع المغربي وأخلاقه ومروءة شعبه" (حزب العدالة والتنمية، البرنامج
الانتخابي، 2002، ص. 9)، ولقد تمخض الجبل فولد فأرا بعد وصولهم لرئاسة
الحكومة ! وظهر أن ذلك الكلام كان مجرد دعاية انتخابية... لكسب الأصوات، وأن
الحزب استغل شعار المرجعية الإسلامية في سنة 2002 للحصول على عدد أكبر من المقاعد
في البرلمان، خصوصا في ظل تقديم نفسه كمدافع عن الدين؛ إذ أرجع بنكيران نتائج
الحزب في الانتخابات التشريعية شتنبر 2002، إلى الآتي: "فنحن حزب يؤكد على
المرجعية الإسلامية وهي أهم شيء بالنسبة للمجتمع. نحن حزب دافع عن الهوية خاصة في
موضوع الخطة بطريقة بيّنة للجميع" (بنكيران، حوار مع أسبوعية الأيام ،عدد 03
ــ 09 أكتوبر 2002 ) !
ولكن لا بد من التوقف
قليلا عند كلام بنكيران، فنحن هنا في قلب موضوعنا؛ لا بأس من أن نلقي نظرة على ما
جاء في ما سمي بوثيقة بنكيران التي نشرها في أسبوعية الصحيفة: حيث أكد بنكيران:
"أن الإسلام هو أحكام و مقاصد و حدود، الأحكام يجب الاجتهاد فيها في إطار
المقاصد، أما الحدود فيجب عدم الخروج عليها، ودائرة كل هذا محدودة، بحيث، إن إبداع
الحلول لمشاكل الحياة العامة، يبقى مرتبطا بالاجتهاد البشري، ولهذا من السذاجة أن
نقول إن هناك حلا إسلاميا لمشاكل البطالة، وحلا إسلاميا لأزمة الاستثمار إلى غير
ذلك من القضايا، فالباب مفتوح لعدة حلول في إطار مرجعية الإسلام ومقاصده، وقد تكون
في نفس الوقت قريبة من الفكر الليبرالي أو الاشتراكي، فالمهم هو عدم الخروج عن
حدود الله سبحانه و تعالى ( ... ) وينجم عن ذلك، أن أبناء الحركة الإسلامية
مطالبون بالتعاون مع كافة الأطراف لبلورة البدائل والاقتراحات والحلول في إطار
مقاصد الإسلام، لا يعني أن هذه المقترحات ستكون إسلامية، فمساهمتهم هي شخصية وتعبر
عن اجتهاد ولا يتحمل الإسلام مسؤوليتها. المحصلة أن الحزب لا ينفرد بإيديولوجية، ولا
يتميز بمرجعية مذهبية إسلامية خاصة ولهذا نعتبر أن إيديولوجية حزبنا ليست حكرا
عليه، فهي تجمع كافة المغاربة" (نص وثيقة بنكيران، جريدة الصحيفة، العدد 13،
13 ــ 19 مارس 2001).
وهي الفكرة التي أعاد
تدويرها (recycler) لحسن الداودي ــ القيادي في
حزب العدالة و التنمية ــ ففي حوار له مع جريدة الصحيفة سنة 2004، وبعد أن تردد أن
الأوراق الرسمية للمؤتمر الخامس لحزب العدالة والتنمية ستخلو من الإشارة إلى
المرجعية الإسلامية، أجاب لحسن الداودي بما يأتي: "كنا دائما نقول إن حزب
العدالة و التنمية حزب ذو مرجعية إسلامية فكلمة إسلامي قد لا تعبر عن حقيقة ما
نقوم به، فهل إذا أخطأ الحزب يكون الإسلام خاطئا، كلا فالتدبير علمي والمرجعية
التي نستقي منها الحلول مرجعية إسلامية، و هذا ينسحب على كلمة بنك إسلامي أو
اقتصاد إسلامي" ( لحسن الداودي ، حوار مع جريدة الصحيفة ، 27 فبراير 4 مارس
2004 العدد 151) . وهذا الكلام ممكن أن تقول به كل الأحزاب في كل العالم بكون
تدبيرها علمي وأنها تستلهم فيه القيم الإنسانية أو قيم العدل أو القيم الدينية. إنه
نوع من الحربائية والغرض هو تلوين ما يقوم به حزب العدالة والتنمية بالدين، والحزب
مثله مثل باقي الأحزاب لا يمكن أن يكون أداؤه إلا علمانيا. أما "المرجعية
الإسلامية" فلا تعدو كونها شعارا ولا تستطيع أن تصبح مسألة عملية. ويتضح ذلك،
بوضوح، من خلال كلام أحمد الريسوني حول الشريعة، خلال فترة ما سمي "بالربيع
العربي"، الذي يبدو، ظاهريا، أنه تخفيف من المفارقة بين الشعارات والواقع...،
إذ باستمرارِ بيع الخمور والقمار والسلفات الصغرى... أصبح حزب العدالة والتنمية،
الذي يقود الحكومة، مخالفا للشريعة، انطلاقا من برنامجهم الانتخابي والورقة
المذهبية وآرائهم حول مفهوم الشريعة...
قلنا، إذن، إن كلام
الريسوني حول الشريعة تخفيف من حدة المفارقة بين الشعارات والواقع، والذي يبدو أنه
كان مرا؛ فقد قال أحمد الريسوني في كتابه "فقه الثورة" (2012) ب "أن
أحكام الشريعة هي عين المصلحة الحقيقية للناس أفرادا وجماعة وأن المصلحة الحقيقية
هي أيضا شريعة ويجب أن تتخذ شريعة، وأنه لا تعارض بين الشريعة الحقيقية والمصلحة
الحقيقية. ولا تضاد بين ما تريده شريعة الإسلام وما تريده شعوب الإسلام"
(أحمد الريسوني، فقه الثورة: مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي، ص. 62 – 63).
كلام ثوري في ظاهره، أن يصبح ما تريده الشعوب هو ذاته شريعة الإسلام ! كل هذا يغري
بأن نلتمس مزيدا من الإيضاح، هكذا يقول لنا الريسوني إن كل ما يحقق مصلحة الانسان
فهو عين الشريعة؛ إذ قال: "وكل ما يجلب أو يحقق أو يعزز كرامة الإنسان وحريته
وأمنه ورفعته ماديا ومعنويا، فهو من الشريعة ومن إقامة الشريعة. وكل عمل أو مجهود
يرفع عن الناس الظلم أو الغصب والقهر والتسلط والاستبداد، فهو من صميم الشريعة،
فأن تقوم أي حكومة أو برلمان أو وزير بأي شيء يحقق هذه الأمور أو يخدمها، فذلك من
تطبيق الشريعة" (أحمد الريسوني، فقه الثورة، ص. 74)، وبالمقابل كل ما يعطل
مصلحة الناس فهو ضد الشريعة: "فالكذب تعطيل للشريعة، مثلما أن الصدق تطبيق
لها. والغش في الدراسة أو التدريس أو أي وظيفة، أو في الصناعة أو التجارة، أو في
الخدمات أو في الانتخابات، كله تعطيل للشريعة مثلما أن إتقان العمل، وإكماله
بنزاهة وإخلاص، هو تطبيق للشريعة" (أحمد الريسوني، فقه الثورة، ص. 76 – 77).
هذا الكلام اعتراف
صريح من الريسوني أن السياسة هي تدبير الشأن العام وليست مجالا لنشر الدعوة أو
تعليم الناس شؤون الدين فذلك له مجال آخر.. خاصة وأنت الشيخ أحمد الريسوني، أعلن، أنه
ليس هناك نظام سياسي إسلامي حيث قال: "ذكرتُ في مسألة سابقة أن مجال السياسة
والحكم والدولة والإدارة العامة، محكوم في الإسلام بمبادئ عامة وقواعد كلية، وليس
فيه ــ بخصوص ــ أحكامه قائمة وأنظمة دائمة. بمعنى أنه ليس عندنا في الإسلام
"نظام" سياسي معين ومفصل، لا باسمه ولا بهياكله الدستورية، ولا
بترتيباته القانونية والإدارية" (أحمد الريسوني، فقه الثورة، ص. 83).
نتساءل ونحن نقرأ هذا
الكلام فيم كل هذا الهدر للطاقة والمجهود طوال هذه السنين، بالدعوة إلى "تطبيق
الشريعة"، وأن من لا يريد تطبيق الشريعة فهو كافر؟
بيد أن الأمر ليس بهذا
الصفاء تماما، فهناك غيوم تلبد سماء المكان، فتمثل الريسوني للديمقراطية، يكشف عن
التباس وغموض، ويتجلى ذلك في فقرة بعنوان: الكلمة العليا للشريعة أم للديمقراطية..
من خلال نقاش إذا ما شرع البرلمان قانونا مخالفا للشريعة، حيث أكد الريسوني:
"فلذلك نقول عن هذه الفرضية دعها حتى تقع. وأجزم أنها لن تقع" (أحمد
الريسوني، فقه الثورة، ص. 94). طرح القضية بهذا الشكل يتناقض مع اعتبار الشريعة هي
كل ما يحقق مصلحة الناس... ولا حظ عبارة: "دعها حتى تقع" !! حين يلزم الأمر يُزال القناع
ويعود القوم لأسلحتهم القديمة، فدار لقمان على حالها !!
إذن ما الغاية من كل
هذا الكلام المعسول حول أن الشريعة هي مصلحة الناس... من خلال حوار مع الريسوني،
وحول سؤال عن بروز التيار الإسلامي في المغرب ورغبته في الولوج للسياسة؛ أجاب:
"أعتبر هذا نضجا، أنا شخصيا لو كنت سألتني، في وقت بعيد جدا، عن الانتخابات
كنت سأقول لك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكن مع التجربة والنضج والنظر بدأت
أومن بالانتخابات والديمقراطية وبالعمل بهذه الوسائل والاشتغال في
الجمعيات".. إذن هناك رغبة للانخراط بشكل أكبر لتيارات الإسلام السياسي في
العمل السياسي التقليدي، بعد أن أصبحت الانتخابات والديمقراطية حلالا بلالا...
ولاحظوا كم استنزف هذا من الوقت والجهد حين كان هؤلاء وغيرهم يرون أن الديمقراطية
كفرا !! وأضاف
الريسوني في هذا الحوار: "هناك تطور عالمي وضمنه تطور محلي، ولا شك أن
التطورات التي يشهدها العالم العربي مؤخرا، والتي أثبتت جدوى العمل الجماهيري
والسياسي والقانوني والنضال السلمي، كان لها تأثير، وأنا ذكرت في مناسبة قريبة أن
هذه الثورات السلمية الشعبية أحدثت زلزالا في الحركات الإسلامية والعقلية
الإسلامية، وحتى لدى الفقهاء أيضا" (أحمد الريسوني، حوار مع جريدة المساء، 29
– 30 أكتوبر 2011)، وهذا هو لبّ الموضع، فكل هذا الكلام عن مراجعة مفهوم الشريعة كان
يروم السلطة والكرسي، والريسوني عبّر عن ذلك بوضوح: "وإذا كنا اليوم ــ بعد
وصول بعض الإسلاميين إلى بعض مواقع الحكم في بلدانهم ــ نتساءل ونتحدث عن مدى وفاء
هؤلاء لشعار تطبيق الشريعة، وعن مدى قدرتهم على ذلك، وعن أسلوبهم وطريقتهم في هذا
الباب... فإن أهم ما يجب علينا البدء به أولا: هو تصحيح مفهوم الشريعة، ومفهوم
تطبيق الشريعة" (أحمد الريسوني، فقه الثورة، ص. 78). نعم كل هذه الجعجعة هي
من أجل السلطة، والغاية طمأنة الفاعلين السياسيين ورجال الأعمال وبعض الشباب
المنفتح وفئات عريضة من الناخبين، أنه لا خطر عليهم بعد وصول الإسلاميين للكراسي..
لذا يقول لنا الريسوني: "فعلينا أن نفتح أبواب الكسب الحلال ونوسعها
ونعبّدها، كما علينا أن نوسع أبواب الترفيه واللهو ونرقيها" (أحمد الريسوني،
فقه الثورة، ص. 67).
الجزء الثاني من المقال، المنشور في عدد الأربعاء 23 أكتوبر 2019 بجريدة الأحداث المغربية:
شيء شبيه بتطمينات
بنكيران للباطرونا قبل انتخابات 2011 !! وطبعا لأن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية رقم أساسي
في المعادلة، فإن الريسوني ضرب بعقيدة الولاء والبراء عرض الحائط، إذ أعلنها
واضحة: "حاليا وعلى مدى السنة المنصرمة (2011م سنة الربيع العربي) يظهر أن
الغرب أخذ في مراجعات تقييمية وتغييرات سياسية، ستعيد ــ على كل حال ــ صياغة
موقفه وتعامله مع الإسلام والإسلاميين، على نحو يفترض أن يكون أكثر واقعية وتفهمها
وأكثر إيجابية وتسامحا، وهذا يحتم على الإسلاميين اغتنام هذه الفرصة من جهتهم،
وردّ التحية بمثلها أو بأحسن منها" (أحمد الريسوني، فقه الثورة، ص. 106). ثم زاد
الريسوني الأمر تفصيلا: "وأول ذلك وأساسه: التعامل المصلحي الإيجابي مع
الغرب. فالعلاقات السياسية ــ وخاصة منها الخارجية ــ لا تبنى على العواطف
الإيجابية ولا السلبية، ولا على الحب والبغض، ولا على العداوة والصداقة، ولا على
الولاء والبراء، وإنما تبنى على المصالح المتبادلة. والغرب بحاجة إلى المسلمين، بقدر
ما هم بحاجة إليه. فمصالحنا عندهم، ومصالحهم عندنا، وليس هناك ما يدعونا إلى
معاكسة مصالح الشعوب والدول الغربية أو انتقاصها. ولهذا فمن المشروع ومن اللازم
الإقدام على ما يتطلبه الموقف من تطمينات ومبادرات في هذا الاتجاه، سواء بالأقوال
أو بالأفعال" (نفس المصدر، نفس الصفحة). رغم أن عقيدة الولاء والبراء، كان
تعد عنصرا أساسيا، أيام زمان، بالنسبة للحركة: "أما الولاء فهو خلق من أهم
أخلاق الإيمان، ومن مقتضياته المحبة والنصر(...) وللولاء قيمة خاصة فالله سبحانه
أمر أن يكون دائرا بين المؤمنين خاصة وحصر المستحقين لهذه الموالاة في «الذين
يقيمون الصلاة ويوتون الزكاة وهم راكعون» (المائدة 57). وجعل تحرير الموالاة لله
ورسوله سببا في أهم أسباب الدخول في رحمته، كما جعلها شرط غلبة حزب الله». (ميثاق
حركة التوحيد والإصلاح، ص. 29) فهو ما يربط أعضاء الحركة: "بسائر المسلمين
الذين يجب أن نتبادل معهم الأخوة والمحبة والتناصح والتناصر» (نفس المصدر، ص. 28).
الغنيمة، اليوم، أكبر،
والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين رآها فرصة العمر، ولا بأس من إظهار ما كان
مستورا من المودة والمحبة للغرب، وتبرير ذلك للقواعد، فقد بات الاعتماد على الرأي
العام الدولي دعما أساسيا لمساندة شرعية الصناديق الإخوانية!! فها هو
بنكيران قد حسم، ظاهريا، الأمر، وهو على رأس الحكومة سنة 2015؛ في حواره مع مجلة
زمان، أعلن عبد الإله بنكيران بوضوح: "عندما يصوّت علينا الناس فلِنحُل
مشاكلهم وليس لنفرض عليهم أي شيء" (بنكيران، حوار مع مجلة زمان، العدد 21،
يوليوز 2015، ص. 47).
ولا بأس من أن يعلنها
الريسوني مدوية: أنه متسامح مع وجود حرية المعتقد ولكنه في الآن نفسه رافض للتنصيص
عليها في الدستور، وأنه مع دولة مدنية وفي الوقت نفسه يلح على إسلامية الدولة؛ إذ
لا بين بين عنده، فإما إسلامية وإما دولة علمانية أو إلحادية (أخبار اليوم،
30/6/2011).!! ولكنه يرحّب في الوقت نفسه بالعلمانية المعتدلة (الأيام الأسبوعية،
13-19/3/2014 !! وكأنه يرضي
حينا سلفيي الداخل، وحينا آخر علمانيي الخارج وربما الداخل أيضا !!
كل ما رأيناه يدفعنا
إلى التساؤل، وماذا عن الكتلة الناخبة التي تصوت لحزب العدالة والتنمية على أساس
"مرجعيته الإسلامية" واعتقادهم أنه ساعي لتطبيق الشريعة، ما هو موقفهم
من آراء الحزب انطلاقا من وثيقة بنكيران سنة 2001 ووصولا لمراجعاته حاليا ومراجعات
الريسوني المتعلقة بمفهوم الشريعة؟
الحق، أن الحزب لا يخشى
من تغيّر مواقفهم لأن قياديه متأكدون أن أغلب من يصوت عليهم لا يقرأ لهم كتابا ولا
جريدة، إلا فيما ندر، والدليل على ذلك قلة نسخ أعداد جرائدهم "العدالة
والتنمية" و"التجديد" واللتين انتهى بهما المصير إلى الاختفاء عن
الساحة... فهم يعولون في إقناعهم على الظواهر الصوتية وعلى التواصل المباشر من
خلال الثقافة الشفوية، واستغلال مختلف المناسبات الدينية؛ نقرأ في ميثاق الحركة:
"ومن الوسائل المستعملة في مجال الدعوة العامة الدرس والمحاضرات والندوة
والحفلات الدعوية المفتوحة والمهرجانات والزيارات والرحلات والموعظة عند الدفن
وعند العيادة وفي السوق والدعوة في الحافلة وفي الوليمة..." (ميثاق حركة
التوحيد والإصلاح، ص. 75). وإذا تأملنا جيدا فكلها عبارة عن تواصل شفاهي !!!
هذا فضلا عن استغلالهم
للحاجة وتأليفهم للقلوب، قلوب من سيشكلون خزانا ورافدا انتخابيا للحزب، نقرأ، مرة أخرى، في ميثاق حركة التوحيد
والإصلاح، الجناح الدعوي والرافد الأساسي لحزب العدالة والتنمية: "تهتم
حركتنا بهذا المجال، وهو مجال رحب واسع يشمل الإحسان إلى الضعفاء والمرضى والأرامل
والأيتام، وإسعاف المنكوبين بالحرائق والزلازل والفيضانات والحروب، وإعانة الطلاب
الفقراء على إتمام دراستهم والعناية بالأسرة والطفولة، وتزويج الشباب والفتيات
وإعانتهم على فتح بيوتهم، ومحاربة الجهل والفقر والمرض" (ميثاق حركة التوحيد
والإصلاح، ص. 82). والغاية من ذلك، كما جاء في ميثاق حركة الإصلاح والتجديد ــ
النواة الأصلية لحركة التوحيد والإصلاح ــ : "وإذا كان العمل الخيري التكافلي
هدفا أصيلا دعا إليه الإسلام وجعله من العمل الصالح، فإنه أيضا وسيلة لتأليف قلوب
الناس على الدين والتفافهم حول الدعوة إليه. لذلك فالعمل الاجتماعي وسيلة من
الوسائل التي تعتمدها الحركة في الدعوة" (ميثاق حركة الإصلاح والتجديد، ص. 48
– 49).
أما ما يكتبون، فكما
أسلفنا فهو موجه لجهات أخرى هنا في المغرب أو في الخارج.
نصل الآن إلى ما هو
عملي، في المواجهة؛ بصرف النظر عن حالة المؤلفة قلوبهم، والذين يستفيدون من
"المال الحرام" في حملات انتخابية سابقة لأوانها، وهي سلوكات معترف بها
في أدبيات الحزب وجناحه الدعوي، فهذه الحالة ينبغي فيها القيام بالإجراءات التي
ينص عليها القانون، على اعتبار أن الأمر كذلك؛ أي أنه، فعلا، "مال حرام"،
وأنها حملات انتخابية سابقة لأوانها...
أما أولئك الذين قاموا
بالتصويت عليهم، من غير المؤلفة قلوبهم، أي أولئك الذين كانوا يحلمون فعلا بتطبيق
الشريعة... فهنا يأتي كل العمل الذي نسعى للتنبيه على أهميته، والذي يتطلب تيقظا
ودوام الاشتغال من خلال العمل على نشر كلامهم المكتوب والمتناقض مع أدبياتهم
ومنطلقاتهم وتحويله إلى نصوص مرئية ومسموعة، تصل إلى أسماع وأنظار أولئك الذين
يكتفون بتصديق مهرجاناتهم الخطابية وخرجاتهم "الشعبوية"... وقد عملت على
تقديم نماذج من هذه النصوص، والتي أضيف إليها البرامج الانتخابية المحلية، والتي
تجسد قمة التناقض لدى حزب العدالة والتنمية وتكشف أنه عند الممارسة حزب
"علماني" حتى النخاع إذا جاز التعبير.
فمن خلال برنامج حزب
العدالة والتنمية للانتخابات الجماعية 2003 ( طبع طوب امبرسيون 2003)، الذي جاء
خاليا من أية نصوص دينية توثق المقترحات والإجراءات، يتضح أن الحزب يلجأ للمرجعية
الإسلامية كشعار فقط في إطار التوظيف السياسوي المغرض للدين، وهذا ما يظهر بجلاء في
كلام بنكيران حول نتائج الانتخابات التشريعية شتنبر 2002 ، حيث صرح بما يأتي: "وهذا أكبر دليل على كوننا نتمتع بثقة
المجتمع ، وهذا ليس غريبا ، فنحن حزب يؤكد على المرجعية الإسلامية و هي أهم شيء
بالنسبة للمجتمع" (بنكيران ، حوار مع جريدة الأيام ، 03 ــ 09 أكتوبر 2002
العدد 54).
وكذلك إذا أخذنا
البرنامج الانتخابي للانتخابات الجهوية والجماعية 2015، فالملاحظة نفسها غياب أي
نص ديني يدعّم الإجراءات الموجودة في البرنامج (حزب العدالة والتنمية، البرنامج
الانتخابي الوطني، برسم الانتخابات الجهوية والجماعية 2015، [د. ت، م]).
أغامر بالقول إنه على
عكس ما قد يظنه بعض الحاملين للقيم الكونية، من أنهم في موقف ضعف أمام حركات
الإسلام السياسي، أقول بل العكس تماما، على الأقل اليوم، فإن حركات الإسلام
السياسي هي الأضعف جدا، وأتحدث دائما عن الحركات التي قبلت بالانتخابات ومارست
العمل السياسي بدءا من العملية الانتخابية ووصولا للدخول للحكومة، شريطة تمكن
الفاعل السياسي من الأدوات اللازمة للهجوم والرد، وحسن التقدير وعدم إقحام الزمن
الثقافي في الزمن السياسي... فاليوم هناك ضغوطات على حركات الإسلام السياسي
يمارسها الواقع المعاش من فقر وبطالة وارتفاع المديونية... وواقع الضغوطات
الخارجية بما في ذلك الالتزام بالاتفاقيات التي وقعها المغرب في عهدهم، وهناك ضغط
التقدم العلمي... فهل يمكنهم اليوم المزايدة كما كانوا يفعلون في الماضي بالربط
بين الذنوب والقحط وغيرها، صبح مساء، قد تقع هذه المزايدة ولكن في حدود ضيقة، تضيق
يوما عن يوم، فها هي تقنية الاستمطار الصناعي تكشف أن تطويع الإنسان للطبيعة بلغ
مستوى عالي جدا؛ فقد كان الإنسان قديما يقول:
وكما أبرقت قوما عطاشا
غمامة فلما رأوها أقشعت
وتجلت
لقد تبدل الحال وصار
الغمامة تجود بخيرها بالرغم عنها بقذفها ببلورات الملح... والإنسان الذي يخطط
للاستقرار في كوكب المريخ، وتقدم الطب ووصلت تطبيقات العلم (التكنولوجيا) درجة
عالية كل هذا وغيره بات يضايق التفسير القديم لنصوص الدين ويفرض عليها اللجوء
لتأويلات جديدة...
هل يمكن للريسوني أن
يقول اليوم إنه لا قيمة للوطن، كما قال ذات مرة: "ونجد تقديسا متزايدا لحرمة
الوطن والطين، وإهدارا متعمدا لحرمة العقيدة والدين، ولولا العقيدة والدين لما
كانت البشرية أكثر من وحوش وبهائم متطورة" (الريسوني، الفكر المقاصدي قواعده
وفوائده، ص. 102). وهي فكرة تمثل إعادة تدوير (recyclage) لكلام سيد قطب، الذي كتب أن
العلاقة التي تربط الناس هي الرابطة الدينية فقط، ولا قيمة للوطن، قائلا:
"وأن هناك دارا واحدة هي دار الإسلام، تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة،
فتهمين عليها شريعة الله، وتقام فيها حدوده، ويتولى المسلمون فيها بعضهم بعضا. وما
عداها فهو دار حرب، علاقة المسلم بها إما القتال، وإما المهادنة على عهد أمان.
ولكنها ليست دار إسلام، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين" (سيد قطب، معالم
في الطريق، ص. 181)
وأضاف قطب موضحا:
"بهذه النصاعة الكاملة، وبهذه الجزم القاطع جاء الإسلام.. جاء ليرفع الإنسان
ويخلصه من وشائج الأرض والطين، ومن وشائج اللحم والدم ــ وهي من وشائج الأرض
والطين ــ فلا وطن للمسلم إلا الذي تقام فيه شريعة الله، فتقوم الروابط بينه وبين
سكانه على أساس الارتباط في الله. ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضوا في
"الأمة المسلمة" في "دار الإسلام". ولا قرابة للمسلم إلا تلك
التي تنبثق من العقيدة في الله. فتصل الوشيجة بينه وبين أهله في الله" (سيد
قطب، معالم في الطريق، ص. 182).
أما اليوم، بالعكس،
نرى أصحاب حزب العدالة والتنمية أصبحوا يتحدثون عن مصلحة الوطن...
هل يمكن، اليوم، لرئيس
الحكومة الحالي، سعد الدين العثماني، أن يقول ما قاله ذات مرة في كتابه عن المرأة،
عن واجب استجابة المرأة لزوجها في المعاشرة الزوجية مهما كانت الظروف وإلا تعرضت
للعنة الملائكة؟ متناسيا تخصصه كطبيب نفسي، بل تجاوز حتى ما قيل عن ضعف بعض
الأحاديث التي استشهد بها؛ إذ أتى بركام من المرويات في الموضوع منها: "لا
تمنع المرأة زوجها نفسها، وإن كانت على قتب" أي ولو كانت على ظهر بعير ! وطبعا، يا سعد الدين مرادف
"البعير" اليوم ــ في منظوركم ــ هو السيارة أو الدراجة أو الحافلة أو
القطار أو الطائرة ! ومن
المرويات أيضا التي أتى بها: "إذا الرجل دعا زوجته لحاجته فلتأته، وإن كانت
على التنور" !! فهل المرأة
وعاء فقط لإفراغ مكبوتات الرجل، أهذه هي القيمة الحقيقية للمرأة في تصوركم؟ ثم زاد العثماني ضغثا على أبالة و الطين بلة
حين ذكر هذه المروية: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه فبات وهو
غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح" ! ولماذا تلعن؟ أليست إنسانا وكيانا من حقه الرفض والقبول، ألا
تعتريها هي أيضا أحوال نفسية مختلفة؟ أم تراك يا سعد الدين قد درست الطب النفسي في
زاوية من الزوايا؟ ولم لا وأنت تكتب: "والشاهد عندنا أن الطاعة المأمور بها
في العشرة الجنسية، هي أوكد الطاعات وأشدها وأخصها في العلاقة الزوجية" سعد الدين
العثماني، قضية المرأة ونفسية الاستبداد، طبع طوب بريس الرباط، ط. الثانية، 2004، ص. 52). فهل
يستطيع سعد العثماني النطق، اليوم، بمثل هذا الكلام؟ وإلا انطبق عليه قول القائل:
أوردها سعد وسعد مشتمل
ما هكذا
يا سعد تورد الإبل
إنهم في وضع حرج
للغاية، ولكن ينبغي تفادي تقديم الهدايا فهم لا يردون الهدية... أكررها مرة أخرى
تجنب إقحام الزمن الثقافي في الزمن السياسي القصير
المحور الثالث: هل العلمانية أفق منشود ومشروع للإنجاز؟
كتب عن موضوع
العلمانية الكثيرون، ومع احترامي لآرائهم، أغامر بالدفاع عن طرح يختلف عن السائد،
وهو أن العلمانية ليست أفقا منشودا ولا مشروعا للإنجاز، بل هي حالة تعيشها جماعات
بشرية بنسب ودرجات متفاوتة، وهذا ما أقول إنه ينطبق على "الحداثة"
نفسها، فبالنسبة لي، اليوم، عندما أعود للشعارات التي رفعناها في مسيرة الدار
البيضاء في الأحد الثاني بعد الأحداث المؤلمة ليوم الجمعة 16 ماي 2003 بالدار
البيضاء، ومن بينها شعار: "سْوى اليوم سْوى غدا... الحداثة ولا بد" (سوى
= سواء) والذي سرى في جموع المتظاهرين كما تسري النار في الهشيم، أعتقد أنه كان
شعارا فيه من "السذاجة" الشيء الكثير، لا يمكن أن يرفع هذا الشعار إلا
من يملك المفاتيح، ويملك الحاضر، ويملك المستقبل... بعكس الشعار الآخر الذي
رفعناه: "إسلام، إسلام الجماهير... لا إسلام الزمزمي لا إسلام المجازر"،
نسبيا كان فيه نوع من الذكاء... أقول، إذن، لا العلمانية ولا الحداثة يمكن أن
تكونا مشروعا للإنجاز، أتحدث هنا عن السياسي، أما المفكر/ الباحث/ الفيلسوف/
المثقف... فليدعو لما يريد وليتصور شكل المجتمع كما يريد، فمن حقه أن يحلم ومن حقه
أن يسعى للعيش في الرفاهية... أما السياسي فأمامه الواقع والزمن القصير، فضلا عن
ذلك بأي حق يمكن أن نرهن أجيال المستقبل لتصور عن الدولة أو طبيعة نظامها قد يصبح أمامها عائقا، وبأي حق
نقرر مصيرها ونصادر حقها في الاختيار؟
أقول، لمزيد من
التوضيح، العلمانية هي حالة تُقرر بعديا من قِبل مؤرخ اطلع على تاريخ جماعة بشرية
فوجد أن الغالب عليها في مجموعة من المجالات هي اللجوء للعلم وليس للرأي الديني،
ولا يصف جماعات بشرية بهذا الوصف إذا تقلص هامش استعمال العلم لصالح هيمنة آراء
رجال الدين. فهناك تقاطب وتجادب بين رجال الدين وبين غيرهم من "النخبة غير
الدينية" (بالعبارات المعروفة المجتمع اللائكي)، مستمر، ولا يمكن الحسم فيه
بالقول إن الدول الغربية قد تجاوزت الحداثة إلى ما بعد الحداثة، أو غير ذلك من
المقولات، ومع احترامي للقائلين بنهاية التاريخ بمن فيهم ماركس، أقول أن التاريخ
لم ينته... وها نحن نشهد، حتى في أوربا "طفح الغميس"، ليس فقط بسبب
المهاجرين، ولكن بعد تلاشي وخفوت السرديات الكبرى، وجد الإنسان نفسه حائرا غريبا
أمام أسئلة عديدة، بل حتى العلم، مع المرور إلى تسارع الانتقال من بارديغم إلى
آخر، وتعقد الظواهر العلمية، بدأ الإنسان الأوربي يبحث عن إجابات لدى الدين، أيضا،
وصارت تدخلات الكنيسة تبرز رويدا رويدا، من خلال موقفها من الاستنساخ، الإجهاض،
نظرية داروين... والأخطر من ذلك أن الكنيسة إلى جانب هيئات أخرى تعمل على تقويض
الديمقراطية نفسها، وليس فقط العلمانية، حيث باتت جهات خارج الدولة، تتحكم في
قراراتها، مع ازدياد نفوذ الشركات متعددة الجنسيات، والخطورة في ذلك تكمن في أن المساهمين
في الشركات، مع سهولة انتقال المال، بفعل الثورة المعلوماتية والشبكة العنكبوتية،
باتوا كالأشباح غير معروفين، ولكنهم، وهذه هي المفارقة يتحكمون في أهم قرارات
العالم، دون أن يتحملوا مسؤوليتهم في ما يتسببون فيه من مشاكل البيئة والبطالة
وإفقار الدول، ودون محاسبتهم على ذلك، كما أشار إلى ذلك دي ريبيرو في كتابه
"أسطورة التنمية". (Oswaldo de Rivero, Le
Mythe du développement, p. 62) في تناقض صارخ مع قيم
الديمقراطية التي تربط بين المسؤولية والمحاسبة.
إننا لو تأملنا
التاريخ القريب، لرأينا أن الشعوب الأوربية نفسها، في ظل الحربين العالميتين وأزمة
1929 تنكرت للديمقراطية، ما يعني أننا لو استحضرنا غير المفكر فيه (le non pensable) لخلصنا إلى أنه لا شيء حسم،
والدليل على ذلك ما نراه اليوم من عودة اليمين بقوة للسلطة بدول أوربا الغربية... لذلك
لا الحداثة ولا العلمانية مسألتان محسومتان، إنهما واقع تعيشه بلدان بنسب متفاوتة،
في ظل صراع مستتر، أحيانا، ومعلن أحيانا، في فضاء معين حول نقل مجال ما أو قضية ما
من الحقل الديني إلى الحقول غير الدينية أو العكس، أيضا... صحيح، أننا اليوم أمام
علمانية كبيرة تعيشها أغلب الدول، فنسبة المجالات والقضايا التي يتحكم فيها رجال
الدين أقل بكثير: السياسة في كثير من البلدان، الرياضة، العلم، الإدارة، الفن...
لكن لنلاحظ، عندنا في الدول التي تنتشر فيها أغلبية مسلمة: كيف بدأت الرموز
الدينية تغزو الملاعب: كالحجاب، السروال الطويل، السجود بعد تسجيل الأهداف... كيف
أخذت تنتشر المساجد أو قاعات الصلاة في المدارس، في الجامعات، في المستشفيات، فضلا
عن إقامة الصلاة وسط قاعة الدرس وتحويل الزمن المدرسي العلماني إلى زمن ديني
بالنسبة لأقلية من الأساتذة... وقس على ذلك أمثلة عديدة... بغض النظر عن موقفي من
ذلك، فهذا شيء آخر، ولكني أرصد ذلك الصراع الخفي أو المعلن بين "مجتمع رجال
الدين" و"المجتمع اللائكي/ أي الناس غير المنتمين للكنيسة أو لرجال
الفقه" وكيف يعمل كل واحد منهم لنقل قضية ما من حقل إلى آخر، هكذا تجري
الأمور، على أرض الواقع، ويبقى لمن يأتي فيما بعد، خاصة المؤرخين، أن يصفوا هذه
الجماعة البشرية بالعلمانية أو ينفوا هذه الصفة عنها، ومن جهة أخرى فالعلمانية
والحداثة عموما هي قضية عقليات، تنتمي للزمن الثقافي الطويل، فلا داعي لكي يهدر
السياسي جهده في الدعوة إليها وتفجير زمنه السياسي. آن لنا، اليوم، أن نتمعن جيدا
في الفخ الذي نصبه حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين بمصر لخصومهم، وجرهم للعبة
تطبيق الشريعة في مواجهة العلمانية، والتي أتت أكلها تدريجيا، وأصبحت الأحزاب
والتيارات الداعية للقيم الكونية تحمل على ظهرها حجرة سيزيف: العلمانية، وتجد
نفسها مضطرة للدفاع عن العلمانية، مع أنه في المحصلة، وأكررها: العلمانية حالة
ووضعية وليست برنامجا انتخابيا ولا مشروعا للإنجاز...