الأحد، 21 نوفمبر 2021

https://fb.watch/9q4uXBxZNm/

التسجيل الكامل لندوة الخطاب الديني المعاصر والشباب يناير 2020 بالمقر الوطني لحزب التقدم والاشتراكية بالرباط تتضمن مداخلتي عن أخلاق الشباب في الخطاب الديني المعاصر ملاحظة: ينبغي الدخول ثم الضغط على العنوان كاملا ثم الضغط على عبارة "فتح الفايس"

الثلاثاء، 24 مارس 2020

أهمية الدولة

 لعل الكثيرين الذين لم يفهموا الأستاذ العروي أو ممن اختلف معه حول قضية الدولة يتبين لهم عمق أفكاره
ولقد قمنا بدورنا بالتأكيد على محورية دور الدولة، في مداخلات ومقالات سابقة (بعضها موجود في هذه المدونة)، ولكني أحب هنا أن أعود لإحدى حلقات دراستي عن مفهوم الدولة عند الأستاذ عبد الله العروي 


السبت، 8 فبراير 2020

عبد الواحد بنعضرا، أخلاق الشباب... في الخطاب الديني المعاصر

أصل المقال مداخلة ألقيتها بالمقر الوطني لحزب التقدم والاشتراكية بالرباط، في إطار ندوة تحت عنوان : "الخطاب الديني المعاصر والشباب" من تنظيم الشبيبة الاشتراكية، وذلك يومه السبت 25 يناير 2020، و المداخلة كانت تحت عنوان: "أخلاق الشباب... في الخطاب الديني المعاصر". وقد قمت بنشر المقال في جريدة الأحداث المغربية في عدد يوم الثلاثاء 28 يناير 2020

أخلاق الشباب... في الخطاب الديني المعاصر

عبد الواحد بنعضرا
(باحث في التاريخ ومهتم بقضايا الإسلام السياسي)

كثير منا يتذكر الشيخ عبد الحميد كشك وخطبه... وكان مما ذكر ذات خطبة، بالحرف: "كارل بن ماركس يقول: الأخلاق قيد لا معنى له ومحمد بن عبد الله يقول: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"... ماذا يعني ما ذكره كشك؟ يعني، ضمنيا، أن الأخلاق لا توجد لا في الماركسية ولا في غيرها، باستثناء الإسلام وما ينتمي للإسلام... مع أن عبارة "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" تهدم ما يرمي إليه كشك، فهي لا تنفي وجود الأخلاق قبل الإسلام أو في غيره، بل تقول إن النبي جاء ليتمم مكارم الأخلاق فقط. بيد أن ما ساعد كشك ومن نحا منحاه على ترسيخ هذه الفكرة في أذهان الشباب، أن كثيرا من المفكرين والمثقفين والتيارات الحاملة للقيم الإنسانية كانوا يتجنبون الخوض في الموضوع، إما باعتبار الأخلاق والدين قضية ثانوية متجاوزة، أو اعتبارا أن الدين والأخلاق مسألة شخصية تنتمي للفضاء الخاص. والحاصل أن الأخلاق تنتمي للاجتماعيات وليس للنفسانيات، فنقاشها هو نقاش لما هو اجتماعي.

طيب، نتساءل ما هي الأخلاق التي يدعي كشك وكثير من أصحاب الخطاب الديني المعاصر أنها لا توجد إلا في الإسلام؟
1ــ إذا عصرنا الخطاب الديني المعاصر وأبقينا فيه على اللازمة المتكررة مركز الجاذبية والتي يبدو كل شيء بجوارها ثانويا بين طرد وجذب... سيتبقى لنا "موضوع الجنس"، من خلال تحويل "الجنس" إلى قيمة أخلاقية وبأسلمة هذه القيمة الأخلاقية يصير الحديث عن المواضيع الجنسية حديثا في الأخلاق والدين. إنها طريقة فعالة لضرب الخصوم السياسيين من يساريين وليبراليين على أساس أنهم يحاربون الله ويسعون لنشر الدعارة والفساد. وهذا مأسميته منذ 2004 "ممارسة السياسة في الجنس"... خاصة وأن أي حركة ترفع شعارات الإصلاح والتغيير تبدأ أول ما تبدأ بالحديث عن الحريات وعلى رأسها ما يتعلق بوضعية المرأة... وإجهاضا لهذه المحاولات ووأدا لها في مهدها يتم اختزال المرأة في موضوع جنسي، وجعل كل ما يرتبط بالتعبير مجرد وسائل للإباحية والرذيلة وغرضا جنسيا.
كان مصطلح "المجتمعات الجاهلية" الذي تلقفه أصحاب الخطاب الديني المعاصر من سيد قطب، وأعادوا تدويره (recycler) لا يعني عند تدقيق النظر سوى وسم هذه المجتمعات ونعتها بأنها ماجنة داعرة مهووسة فقط بالجانب الطيني للإنسان فما كان الدين بالنسبة لهم غير محاربة هذا الجانب الطيني وردعه وقمعه... فالأخلاق لا ترتبط عندهم، بشكل كبير، سوى بالمسألة الجنسية، وبمعنى آخر يتم اختزال الأخلاق في الجنس وبعد ذلك تستمر السلسلة في تتابعها فيختزل كل أمر وكل ميدان وكل وسيلة تقف حائلا أمام أهدافهم وطموحاتهم في كونها وسيلة من وسائل الفساد والرذيلة، ويتحول كل فكر أو تيار مخالف لهم سياسيا إلى داعية إلى الإباحية والفجور. ففي كتاب بعنوان (الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب) للعضو السابق في حركة التوحيد والإصلاح: فريد الأنصاري، وقد قدم لهذا الكتاب سعد الدين العثماني.. نقرأ للأنصاري موضحا: "وأما الفجور السياسي فهو فلسفة للفجور، بممارسته ثقافة وأخلاقا أولا، ومدافعته جبهة الصلاح ثانيا، من خلال ترسيخ فلسفة الانحلال في المجتمع، وتشويه السلوك الصالح السليم، وذلك باستغلال طاقة الفجور الطبيعي في النفس الإنسانية، ودعوتها إلى التحدي" (فريد الأنصاري، الفجور السياسي، ص. 43 - 44).. حتى اللغة الفرنسية لا تعدو بالنسبة للمؤلف سوى وسيلة للفجور؛ فقال عنها: "إن اللغة الفرنسية يا سادتي ليست لغة وكفى، إنها ثقافة، بل إنها نوع خاص من الثقافة إنها ثقافة العهارة! من منكم قرأ (أمي) لجورج بطاي؟ أو قرأ (العشيق) لمارجريط دوراس؟ بل سائر رواياتها! أو من منكم قرأ ما يكتبه هذا التشيكي المتفرنس: ميلان كونديرا؟ وهلم جرا! إن الأدب الفرنسي هو في عمومه أدب العري، وأدب العهارة! بل إنه أدب متخصص جدا فيها! فما أعظم أثره إذن، كمادة صالحة للفجور السياسي" (الأنصاري، نفسه، ص. 48- 49). يتم إذن، تحويل كل شيء إلى موضوع جنسي، ويستثمر التيار الديني كل مناسبة لتحويلها إلى نقاش ديني من ناحية جنسية، وتبقى أبرز محطة لذلك هي الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، حيث نعت أصحاب العدالة والتنمية القوى اليسارية بالكفر والزندقة، ويكفي عنوان ذلك الكتاب الذي كتبه فقيههم إبان الخطة، عبد الباري الزمزمي دليلا على ذلك حيث سماه: "الجهاد الكبير في مواجهة خطة الإباحية والتغريب".

2ــ الالتباس فيما يخص المسؤولية والجزاء؛ إذ يترتب عن تحويل الأخلاق إلى موضوع جنسي، الربط بين "الذنوب" وبين الكوارث الطبيعية والفقر... فبخصوص كارثة التسونامي التي ضربت جنوب شرق آسيا، وخلفت عددا كبيرا من الضحايا، كان بينهم مسلمون من أندونيسيا، وفي خطبته ليوم الجمعة 7 يناير 2005 أكد الشيخ يوسف القرضاوي قائلا: "لنا في هذا الزلزال ثلاثة دروس مهمة أولها: أن هذا الزلزال عقوبة إلهية للمفسدين والعصاة، وثانيها: أنها تنبيه للغافلين، وثالثها: أنه ابتلاء للمؤمنين" (نقلا عن جريدة التجديد 14- 16 يناير 2005، العدد 1067). وأضاف: "إن هناك علاقة وثيقة، بل وطردية، بين الزلازل والبراكين، بل غالب الابتلاءات، وبين الظلم والإفساد في الأرض وارتكاب الذنوب والموبقات" (جريدة التجديد، نفس العدد).
في المقابل يرتبط نزول الغيث وتحقيق النماء بالتقوى والتوبة... ففي مقال لمحمد يتيم بعنوان: «اللهم اسق عبادك وبهيمتك وانشر رحمتك واحي بلدك الميت»، نُشر سنة 2005، نقرأ ما يأتي؛ قال يتيم: "وهذا التوجه الإسلامي التلقائي عند المغاربة منطلق من عقيدتهم الإسلامية ومما يجدونه ويفهمونه من نصوص القرآن والسنة، والتي تربط بين الاستقامة والتوبة المتواصلة والاستغفار والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، وبين رحمة الله وغيثه" (محمد يتيم، جريدة التجديد، فاتح فبراير 2005 العدد 1079). في المقابل نقرأ له في كتاب نشره سنة 1989 تحت عنوان: " العمل الإسلامي والاختيار الحضاري"، ما يأتي: "والسنن أو الكلمات الكونية ثابتة لا تتغير، وهي مضطردة فكلما كانت أسبابها إلا وتبعتها نتائجها. وهي ربانية أي أنها تعبر عن إرادة الله التي اقتضت أن تتصرف في الكون والنفوس من خلال سنن تمثل حكمته وتدبيره، وكونها ربانية لا تلغي إرادة الإنسان، بل إن هذه الإرادة ذاتها من أمر الله وكلماته والمؤمن يدافع القدر بالقدر" (محمد يتيم، العمل الإسلامي والاختيار الحضاري، ص. 26 - 27).
النص الأول يعني ضمنيا أن الإنسان له إرادة الاختيار ويتحمل مسؤولية اختياره... بغض النظر عن تكريس الفكر الخرافي على حساب التفسير العقلاني (كما فعل سابقا أبو حامد الغزالي)... أما النص الثاني فيمثل غاية الالتباس بالحديث عن أن ما يقوم به الإنسان مقدر عليه دون أن تكون له القدرة على الاختيار؛ وفي الآن نفسه بأن هناك قوانين يسير عليها الكون !!! هناك، إذن، تناقض: هل الأمر يرتبط بالاختيار أم شيء مقرر لا مهرب منه؟ السؤال، إذن: إذا كان كل ما يفعله الإنسان مقدر عليه لا يستطيع منه مهربا فلماذا يحاسب على أفعال لا يد له فيه ولماذا يعاقب عليها؟... والأخطر من ذلك ما الفائدة من التربية ما دام الأمر مقدرا لا تغيير له؛ إذن لا نفع للتربية في هذه الحالة؟
خلاصة الأمر عند تدقيق النظر أننا أمام صيغة مرتبكة وملتبسة من صيغ "الجبر" !!! لقد أدى تطور فكرة "الجبر" قديما إلى إهدار العلاقات السببية، فإذا كانت هذه الفكرة تسند كل الأفعال إلى الله وتنفيها عن غيره، فالسكين ــ مثلا ــ حيت تقطع فهي لا تفعل ذلك على الحقيقة بل على المجاز فالفاعل الحقيقي هو الله، وكذلك القاتل لا يقتل حقيقة بل على المجاز... فإن أبا حامد الغزالي أعلن انتفاء العلاقات السببية وعدم الاقتران بين النتائج والمقدمات وبين الأسباب والمسببات، ليس لأنه دافعه كان علميا ففهم أن تلازم ظاهرتين، بحكم العادة، لا يعني، بالضرورة، أن الواحدة سبب للأخرى بشكل ميكانيكي، كما نعلم اليوم، بل لقد دفع الرجلَ إلى ذلك رغبتُه في إنكار "الفعل الطبيعي" لأن وصف الطبيعة بأنها فاعلة متناقض مع منظور الغزالي والذي يرى بأن الله هو الفاعل على الحقيقة، فعندما تحرق النار فليست النار هي الفاعلة بل على المجاز. هكذا أعلن الرجل قائلا أن: "الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا (...) والنظر في هذه الأمور الخارجة عن الحصر يطول، فلنعين مثالا واحدا وهو الاحتراق في القطن مثلا مع ملاقاة النار، فإنا نجوز وقوع الملاقاة بينهما دون الاحتراق ونجوز حدوث انقلاب القطن رمادا محترقا دون ملاقاة النار" (أبو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، ص. 195). وهذا ما سماه نصر حامد أبو زيد بآلية: "ردّ الظواهر إلى مبدأ واحد". وبفضل هذه الآلية تم إيهام الكثيرين بأن شركات توظيف الأموال الإسلامية ستحقق أرباحا خيالية باليمن والبركة والتقوى، وليس باتباع قوانين السوق...  وتلك حكاية طويلة...
وبحديثي عن أبي حامد الغزالي أكون قد أشرت في الآن نفسه إلى أحد أهم روافد الخطاب الديني المعاصر، وسأكتفي بكلمات في الموضوع تغني عن الإطالة... فأقول إن الالتباس المشار إليه أعلاه، يعكس التناقض الداخلي للخطاب الديني المعاصر، ومحاولته التوفيق أو التلفيق بين مذاهب شتى ولعل أوضح ما يتجلى ذلك هو محاولته الجمع بين آراء الغزالي وابن تيمية ضمنيا أو صراحة؛ تماما كما وقع للغزالي نفسه،  واختصارا للكلام أشير للدراسة التي أنجزها الباحث المصري زكي مبارك في موضوع "الأخلاق عند الغزالي" وتقدم بها كرسالة دكتوراه نوقشت بالجامعة المصرية يوم 15 ماي 1924 وأثارت ضده سهام الناقدين وتكفير المكفرين: وكان مما قال في دراسته: "والواقع أن الأشاعرة يجنون على العقل حين يحكمون بأن التحسين والتقبيح لا يكون إلا بالشرع، فالزنا عندهم قبيح لا لضرره بل أن الشرع حكم بقبحه، وعلى ذلك لو حكم الشرع بحسن الزنا لكان حسنا" (زكي مبارك، الأخلاق عند الغزالي، ص. 128). ما يعني بالمحصلة أن الخير ليس هدفا في حدّ ذاته بل لأنه مأمور به من قبل الشرع، ولأنه سيكافأ عليه بالجنة، وهو ما يعني تكريس الانتهازية في التعامل مع الأخلاق. وعدم النظر في مصلحة المجتمع والدولة !! فالممارسة الجنسية خارج مؤسسة الزواج ليست شرا لما ينتج عنها من مشاكل بل لأنها "محرمة"... والسكر وتناول الخمر ليس شرا لأنه قد يدفع بمن يقود السيارة وهو في حالة سكر إلى ارتكاب حوادث السير أو تعنيف السكران لأبنائه وأفراد أسرته؛ أي بالمحصلة إلحاق الضرر بالآخرين، بل لأنه "محرم"... فماذا إذن عن تناول الحشيش ومختلف أنواع المخدرات؟ مع العلم أن مجموعة من الصوفية في المغرب وغيره كانوا يتناولون الحشيش... نتساءل، إذن، أين هي المسؤولية تجاه الدولة... تجاه الطبيعة والكون والبيئة؟
ونعود للباحث زكي مبارك فقد لاحظ، أيضا، ما يأتي: "لا يفرق الغزالي بين كلمة فضيلة، وكلمة خُلق، فهما عنده عبارة عن هيئة النفس، وصورتها الباطنة، وأساس الفضيلة فيما يرى يرجع بعضه إلى ما أخذ عن أرسطو وبعضه إلى ما أخذ عن أفلاطون. فهو يأخذ عن أرسطو نظرية (التوسط) التي يسميها الاعتدال (...) ويأخذ عن أفلاطون نظرية المماثلة، أي مشابهة الله، فإن الله فيما يرى أفلاطون هو الوحدة التي تجتمع فيها وتتصالح جميع كمالات المخلوقات (...) وأخذ عن أفلاطون نظرية التوافق (l’harmonie) ويسميها العدل. والتوافق عند أفلاطون هو تناسب القوى والملكات لتكمل في المرء جوانبه الخلقية" (نفسه، ص. 180- 181). ومن ثمة أشار مبارك إلى ضرورة الانتباه إلى عبارة العقل والشرع عند الغزالي: "فإن الغزالي يدمج فيها التوافق والمماثلة معا، أما المماثلة فهي في لفظ الشرع، وقد وضع لهذا أخلاق الرسول ممثلة في القرآن. وأما التوافق فهو لفظ العقل، إذ يرجع كل الملكات إلى طاعته(...) والأمر كذلك في قوة العلم وقوة الشهوة. وقد نصّ في الميزان [كتاب ميزان العمل] على أن العدل عبارة عن وقوع هذه القوى على الترتيب الواجب واستشهد بالقول المأثور: بالعدل قامت الأرض والسموات. وهذا الترتيب الواجب خاضع للعقل بالطبع، وهذا ما يراد بنظرية التوافق" (نفسه، ص. 182). ثم لاحظ الباحث: "والغزالي يُعنى في الأغلب بالفضائل الفردية، حتى لتحسبه يكتب مؤلفاته لأفراد يعيشون في عزلة وانفراد. فلو أردت أن تدخل إلى عالم السكون، لوجدت لدى الغزالي من آداب الوحدة والعزلة ما يقنعك ويرضيك. ولكنك لو أردت أن تدخل في عالم السياسة، لما وجدت لديه فكرة واحدة، يمكن أن تكون نبراسا يهتدي به الساسة من الوزراء والسفراء" (نفسه، ص. 185). وبالتالي: "انحصر الإخلاص عنده في الأمور الدينية، لغلبة هذه الأمور عليه، ولو كان الغزالي من الذين باشروا الحركات العامة، ووقفوا على الشؤون الاجتماعية، لذكر لنا ضروبا من الإخلاص في نهوض الأفراد بأممهم، وبيّن لنا كيف يتطرق الغرض إلى الأعمال الاجتماعية، وكيف تشقى الشعوب بأصحاب الأغراض" (نفسه، ص. 216- 217).
وبالتالي فالأخلاق عند الغزالي، وبالتبع في الخطاب الديني المعاصر، الذي استقى من الغزالي الكثير، مرتبطة بالفرد، أكثر من ارتباطها بالمجتمع والدولة، رغم أن الأخلاق إذا لم تختبر  بالتفاعل مع الناس لا يكون لها معنى أصلا... وبالتالي فالشاب المتخلق بالأخلاق المعيارية كما رسمها الخطاب الديني المعاصر لا يملك أي مسؤولية تجاه أعضاء المجتمع الآخرين ولا تجاه الدولة وبالتالي لا يملك حس المسؤولية تجاه المستقبل؛ إذ أن الخطاب الديني المعاصر يتعايش فيه فهم قديم للزمن وفهم معاصر له... دون أن يصل الأمر حدّ إيجاد تركيب بينهما بل وقف الخطاب الديني المعاصر في مستوى الأطروحة ونقيضها دون أن يمر إلى المستوى الموالي !!! فما زال يتمثل من جهةٍ، الزمن منقسما كما تمثلته المسيحية خاصة مع القديس أوغسطين... إلى زمان مقدس وهو الزمن الحقيقي، الزمن الإلهي الأخروي... وإلى زمان دنيوي زمن الدول والحكومات السياسية... وضمنيا فالزمان المقدس أعلى من الزمن الدنيوي؛ الزمن المقدس يسير في خط مستقيم متصل ومتعاقب، وزمن دنيوي فيه الانفصال والاتصال، يصل في كل مرحلة إلى نهايته إلى المنحدر والسقوط ليستأنف من جديد مع الإصلاح والتجديد عبر دورات، يحددّها منطق متسلسل ومتعاقب ذو اتجاه خطي كأرضية لهذه الدورات؛ ليصل هذا الاتجاه الخطي إلى النهاية الكبرى وهي الآخرة. ومن جهة أخرى، نجد ضمنيا، ولو على مضض، في الخطاب الديني المعاصر فكرة التقدم كما برزت في القرن 17 وترسخت ونضجت في القرنين الموالين 18 و19م في أوربا الغربية انطلاقا من كتابات فونتونيل وفولتير وكانط وتورغو...وما رافقها من بروز فكرة "التفاؤل" (بخصوص الزمان المقدس والزمان الدنيوي، يمكن الرجوع على سبيل المثال لكتاب: سالم يفوت، الزمان التاريخي، ص. 11- 14).
إن عدم قدرة الخطاب الديني المعاصر على الخروج من حالة التعايش إلى تركيب واضح لتمثل جديد لمفهوم الزمن يجعل المتأثرين بهذا الخطاب لا يتعاملون مع قضايا الماء والبيئة والاحتباس الحراري والتنمية... بحس المسؤولية، والأخطر من ذلك أن بعضهم يتعامل مع الأبحاث العلمية من منطق أن الحقيقة موجودة في لوح محفوظ، وهذه من موروثات علم الكلام؛ الذي عجز عن عقل الزمان، بمعنى التطور والتغير لا بمعنى الظهور بعد الكمون (عبد الله العروي، مفهوم العقل، ص. 101)، إذ لم يستطع العقل الكلامي استيعاب أن العلم هو نتيجة تطور يتوصل فيه الإنسان إلى أشياء جديدة مستحدثة لا توجد قبلا، بل ظل يعتقد أن العلم كامل جاهز موجود في لوح محفوظ، وأن مهمته تتلخص في إزالة الحواجب التي تستره وتخفيه، انطلاقا من تأويل النصوص؛ أي أن العقل مفعول به وليس فاعلا، وكأن الحقيقة موجود ثابتة وما على العقل إلا أن يبرر وجودها، وليس العكس ! ولعل عبارة عبد الصبور شاهين في كتابه عن آدم ذات دلالة في هذا الشأن؛ حيث أكّد على أنه يقدم رؤية: "تكون قد خفيت عن بصائر ذوي التمييز، ثم أذن الله سبحانه لبعض السر أن ينكشف، وللرؤية أن تنجلي، وهو ما نؤمل أن نكون قد حققناه في هذا الكتاب" (عبد الصبور شاهين، أبي آدم: قصة الخلق بين الأسطورة والحقيقة، ص. 10). وهذا على خلاف الإمكانات التي يتيحها مفهوم الزمن الاحتمالي، المنفتح على تعدد الاحتمالات والقراءات... وضرورة مواصلة الابتكار والإبداع، وأن لا شيء محسوم أو منتهي أو حتمي...
ومن ثمة فإن المتأثرين بالخطاب الديني المعاصر... لا يرون أهمية في المشاريع الدنيوية، وأن المشروع الحقيقي هو المرتبط بالآخرة... حتى الناجحين منهم في أعمالهم وأبحاثهم العلمية، ينتهي المطاف بهم في آخر الأمر إلى حالة من الدروشة أو الانعزال، أو التردد ما بين البيت والمسجد عند تقدم سنهم، كأن مهمتهم انتهت في هذه الحياة مع سن التقاعد، مع أن الأمر يرتبط بالمسؤولية تجاه المجتمع وتجاه الدولة وتجاه الإنسان نفسه (وأستحضر هنا رواية إرنست هيمنغواي "العجوز والبحر"). ما يعكس عدم استيعاب فكرة الوطن على أساس إنها إيمان بالوطن وبالمستقبل، وإيمان بأن المواطن هو جندي في معركة: معركة "التنمية"... لا ينبغي التقاعس فيها.

3ــ كل ما سبق يصل بنا إلى النقطة الآتية يرسخ الخطاب الديني المعاصر لدى الشباب المتأثر به فكرة الاثم والشعور بالذنب، فيعيش حالة توتر وقلق دائمين تجعله ينوس بين حالتين قصويين: حالة الانعزال والانكفاء أو حالة الانطلاق ليعوّض ما فاته من التخاذل ليقوم ب"تغيير المنكر"؛ هكذا نقرأ للقرضاوي متحدثا عن هؤلاء الشباب: «وأشهد لقد خالطت هؤلاء الشباب في أكثر من بلد إسلامي، وعرفت الكثير منهم عن كثب، فلم أر منهم إلا قوة في دين، وصلابة في يقين، وصدقا في قول، وإخلاصا في عمل، وحبا للحق، وكراهية للباطل، ورغبة في الدعوة إلى الله، وبراءة من الدعوة إلى الطاغوت، وإصرارا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(..) رأيت فيهم قوام الليل، وصوام النهار، والمستغفرين بالأسحار، المستبقين للخيرات، ولهذا استبشر بهم المستبشرون، وأملوا -وأملت معهم- أن يكون غد الإسلام على أيديهم خيرا» (يوسف القرضاوي: الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف ص. 136- 137). مبررا أعمال العنف التي يقومون بها وملتمسا العذر لهم؛ قائلا : «والتغيير بالقلب أن يغلي من داخله كما يغلي القدر فوق النار، وأن يحترق فؤاده على ما يرى حسرة وغما، وأن يذوب قلبه كما يذوب الملح في الماء، لما يرى من المنكر ولا يستطيع تغييره، وهذا الغليان النفسي لا يظل مكبوتا أبد الدهر، بل لابد أن يتنفس، معبرا عن نفسه بصورة أو بأخرى فإن القدر إذا زادت عليها النار، فلابد أن تنفجر أو تتكسر»(نفسه ص: 114- 115).
إن الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلخص في حدّ ذاتها تعقد تمثل مفهوم الزمن وتناقضها في الخطاب الديني المعاصر إنها تعكس تمثل أصحابه بكونهم أفضل من الآخرين، وبأنهم أصحاب مهمة ورسالة مسيانية ألفوية يختلط فيها وتتعايش فيها عناصر عدة: فكرة المجدد، فكرة المهدي المنتظر، نهاية التاريخ، منطق التنظيم السري القديم والحديث من حسن الصبّاح إلى الفاشية... وبالتالي أنهم المسؤولون عن صلاح الناس؛ لذلك لا نستغرب إذا وجدنا النواة الأصلية لحزب العدالة والتنمية أي حركة الإصلاح والتجديد كانت تحمل اسم "الجماعة الإسلامية"  (جمعية "الجماعة الإسلامية" المغربية، الميثاق، 1989)، ولننتبه لعبارة: "الجماعة" لقد جاءت بالتعريف، في دلالةٍ إلى أنها ليست جماعة من بين جماعات أخرى في المغرب؛ بل الجماعة الوحيدة التي تمثل الإسلام في المغرب، وغيرها لا يمثل الإسلام، ما يعني بداية الادعاء والإقصاء: ادعاء مسؤولية الدفاع عن الإسلام ونفهم ذلك من كلام حسن البنا، مرشدهم الروحي، ومؤسس جماعة الإخوان المسلمين بمصر، الذي قال: "فأول واجباتنا نحن الإخوان أن نبين للناس حدود هذا الإسلام واضحة كاملة بينة لا زيادة فيها ولا نقص بها ولا لبس معها، وذلك هو الجزء النظري من فكرتنا، وأن نطالبهم بتحقيقها ونحملهم على إنفاذها ونأخذهم بالعمل بها وذلك هو الجزء العملي في هذه الفكرة" (حسن البنا، مجموعة رسائل، ص. 417)، وما على الناس إذن إلا السمع والطاعة... هذا عن الادعاء أما الاقصاء فإقصاء بل قتل الآراء المخالفة ومحاربة أصحابها؛ وهذا قاسم مشترك بين حركات الإسلام السياسي كل على حدى، حيث نجد أن عبد السلام ياسين كان يصدر مجلة أطلق عليها اسم "الجماعة" هكذا بالتعريف "الجماعة".

ختاما: أتساءل: هل نحترم شارات المرور لأن الشرع أمر بذلك أم لا؟ أم لأن هناك ضررا يقع بعدم احترامها، أم لأن الأمر أولا وأخيرا فيه انضباط واحترام للقانون؟ إن أخطر ما كرسه الخطاب الديني المعاصر، ونحن في زمن الدولة الحديثة هو التخارج بين الفرد والدولة، كما نبّه لذلك الأستاذ عبد الله العروي في ما كتبه عن مفهوم الدولة ومفهوم الحرية، ومن ثم وسم الدولة بالشر ما يسهل نزع الشرعية عنها وإضعافها؛ أكّد العروي أن كل المفكرين السياسيين، الواقعيين والمثاليين، متفقون على المعادلة الآتية: الدولة الحق: اجتماع وأخلاق، قوة وإقناع؛ لذلك فإن تاريخ بلورة نظرية للدولة: "يلقننا درسا غير تافه: طالما أمسك المرء بطرفي المعادلة، بأخلاقية الدولة وباجتماعيتها، فإنه يعمل على تهذيبها؛ ومتى تخلى عن الأخلاق ساعد على توحشها. كلما تخارجت الواقعية والطوبوية تركزت السلطانية، وكلما تقاربت وامتزجت اتجهت الدولة نحو الشرعية" (العروي، مفهوم الدولة،، ص. 157 – 158).
وأتساءل أيضا، إلى أي حدّ يكون منتجا إهمال المفكرين والمثقفين والتيارات الحاملة للقيم الإنسانية مسألة الأخلاق على اعتبار أنها مسألة مرتبطة بالفرد والفضاء الخاص؟ مع العلم أن هذه المكونات عندما يتعلق الأمر بالعنف تنتقد الخطاب الديني وتناقش مسألة الإرث... رغم أن الطرف الآخر يصر أنها بالنسبة له مسألة عقيدة... إذن فالأمر متداخل.. ثم إن الطرف الآخر يعتبر أن من حقه التدخل في الفضاء الخاص للآخرين انطلاقا من فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمختلف الوسائل، فمما جاء في ميثاق حركة التوحيد والإصلاح: "ومن الوسائل المستعملة في مجال الدعوة العامة الدرس والمحاضرات والندوة والحفلات الدعوية المفتوحة والمهرجانات والزيارات والرحلات والموعظة عند الدفن وعند العيادة وفي السوق والدعوة في الحافلة وفي الوليمة..." (ميثاق حركة التوحيد والإصلاح، ص. 75)!! علما أني هنا أتحدث عن المشروع المجتمعي للتيارات الحاملة للقيم الإنسانية المرتبط بالتأطير والتربية، وليس بالزمن السياسي فإني كما فعلت في مناسبة سابقة أعيد التنبيه إلى ضرورة تفادي إقحام الزمن الثقافي في الزمن السياسي.